fbpx

هل هناك خوف على الشمال السوري؟

0 5٬216

يتوالى الضخّ الإعلامي المُوجّه خِصّيصاً إلى السكان في الشمال السوري، والذي لم يتوقف منذ سنوات ويزداد خُبثاً في مواسم التصريحات التركية الودية تجاه نظام الأسد..

بالتأكيد يعيش سكان الشمال بحالة من القلق بعد تلك التصريحات وتبدأ ماكينة دعائية وحرب نفسية ضخمة من جهات معادية في رسم الخرائط وبَثّ تسجيلات صوتية ومرئية وصياغة نصوص اتفاقيات (ركيكة الصياغة وضعيفة الحبكة لإعطاء مصداقية للأخبار) تمّت في الظلام ولم تعلم بها أيّ مؤسسة إعلامية مرموقة، وبالطبع لا أحد يطلب من المواطن أن يكون مُفسّراً ومُحللاً لصيرورة الأحداث، خاصةً أنّ ظروفه وقلقه تجعل منه هدفاً سهلاً لتلك الشائعات، وهو على استعداد لتصديقها مهما اكتشف فيها من علائم الضعف، ولعدم اليقين الكامل لذلك المواطن بصدقيتها ولتبديد هواجسه أو تأكيدها، يبدأ في تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي لمعرفة رأي الغير، وأظنّ أنه مُستعدّ لتصديقها أكثر من اكتشاف زيفها، ويساعده في ذلك تجربة عملية عايشها منذ انطلاق الثورة السورية، حيث تكرّر نزوحه عدة مرات من أماكن كان يَظنها عصيّة على قوات النظام، وشاهد بعينه مدى الدعم القوي لحلفاء الأسد، في الوقت نفسه كان يرى حجم الصمت (وقد يعتبرها تآمراً دولياً) عن جرائم الأسد واقتصار المواقف الدولية والعربية على بعض بيانات الإدانة وذرف دموع التماسيح.

ولمس السوريون نتائج تُثبت ميلهم لتصديق تلك الشائعات، فقد ساهم بعض العرب في الوقوف إلى جانب الثورة السورية بقوة ومَدّها بمختلف أشكال الدعم الذي مكّنها من تهديد النظام تهديداً جدياً بالسقوط..

وشاهد جمهور الثورة السورية في الشمال توقف الدعم العربي والدولي وتفكيك جبهات الجنوب السوري وتسليمها دون مقاومة بعد إيقاف الدعم الخارجي عنها، وبدأت بعض الدول العربية في التعامل مع الأسد كمنتصر أو أمر واقع لا يمكن تجاهله وبات لزاماً التعامل معه، وانتهى المسار العربي إلى إعادة علاقات المملكة العربية السعودية معه ودعوته لحضور قمتين عربيتين فيما بعد، نعم شاهد جمهور الثورة ذلك، وانتهت الخطط الدولية (والأغلبية تعتبرها مؤامرات دولية) مآلات تسليم الجنوب السوري وما فعله الأسد بمن قبل بالتسويات والمصالحات، ومعظم سكان الشمال السوري هم ممن فضل العيش خارج سيطرة مناطق النظام مع خطورة الإقامة فيها ومنهم من فَضّل خياماً للسكن فيها في الشمال على العودة إلى ديارهم تحت سيطرة الأسد، ويزداد الآن ضخ الأخبار والتحليلات حول ظروف في الشمال تشابه ظروف الجنوب في عام 2018، فلماذا لا يُصدقها؟.

المشكلة الكبرى لسكان الشمال أنه لم يَعّد هناك من باصات خضراء تنقلهم إلى أماكن أخرى لا تُسيطر عليها ميليشيا ومخابرات الأسد، وهم الآن يَتصوّرون أنفسهم أمام الأسد الذي سيدخل عليهم من الجنوب وخلفهم الجدار الأسمنتي التركي الذي يمنع عبورهم للشمال الذي يتواجد خلفه سكان أتراك غير مرحبين بأي قادم سوري جديد، بل إن كل همهم إرجاع ما عندهم إلى سوريا الأسد..

هذه المعادلة الصعبة والخطر الداهم سوف يَشلّ أيّ تفكير أو تحليل صحيح، ولا يقتصر الخطر على الثورة السورية بشكل عام، بل على الأمان الشخصي ومستقبل العائلة المجهول.

حقيقتان ثابتتان يجب أن تكونا في أذهان السوريين عند سماع أي تصريح تركي حول نظام الأسد:

  1. تركيا دولة ديمقراطية، بمعنى أنّ القيادة الحالية أمامها استحقاقات انتخابية متعددة ويهمها جداً رأي الشارع الداخلي ومُضّطرة لمسايرته في بعض الأحيان ولو شكلياً، لأنها حريصة على صوته الانتخابي للاستمرار في السلطة، بعكس دول استبدادية تتصرف القيادة كما يحلو لها دون الالتفات لرأي الشارع، حيث على سبيل المثال صحى سكان روسيا الإتحادية وإذا بجيشهم يقتحم دولة أخرى بحجة أنها جزء من دولتهم، وما عليهم إلا تأييد الزعيم ودفع الأثمان الباهظة وهم صاغرون.
  2. الأمن القومي التركي لا يتغيّر خلال فترة قصيرة، وتضع أسسه وثوابته عوامل جيوبوليتيكية وتصوغها مؤسسات الدولة الراسخة كالجيش والاستخبارات والخارجية وباقي مؤسسات الدولة المعنية وهو ما يتمّ التعبير عنه حديثاً بالدولة العميقة، ولا يملك حزب سياسي لوحده تغييره أو تعديله، إنما تنحصر مهامه بآليات وأدوات التعاطي معه، حيث يُشكّل حزب العمال الكردستاني التركي تهديداً خطيراً للأمن القومي التركي، ويقول لنا التاريخ إنّ الأسد الأب هو من ساهم بتأسيس ورعاية ذلك الحزب منذ عام 1984 واستمر الابن في ذلك حينما أوكل للفرع السوري لحزب العمال التركي بحكم مناطق واسعة وغنية بالموارد بعد اندلاع الثورة السورية وأمدّه بما يحتاجه من السلاح والعتاد ليكون عوناً له في التصدي للثورة السورية ومنع سيطرتها على تلك المناطق، وخلق مشكلة أمنية كبرى لتركيا في خاصرتها الجنوبية والمتصلة بأماكن كثافة الأكراد الترك، عقابا لها على مواقفها الداعمة للثورة السورية ضده..

ولا أعتقد أنّ أيّ مسؤول تركي يعتقد أنه يُمكن لنظام الأسد محاربة التنظيمات التي أنشأها واستخدمها (ومازال) ويتخلى عن أهمّ أوراقه.

ولا يملك نظام الأسد بمفرده ورقة حزب العمال (التركي والسوري) بل يُشاركه في ذلك حليفيه الروسي والإيراني، وهو لا يستطيع الانقلاب عليه منفرداً حتى لو رغب في ذلك، وبالتالي هذه الورقة المهمة التي تطلبها تركيا من الأسد غير قادر على تقديمها ولو رغب في ذلك.

كما أن مناطق الشمال السوري تعادي أيّ أجندة غير وطنية كأجندات حزب العمال التركي بفرعه السوري مهما حاول الحزب تغطية الشمس بغربال، ومشروع سكان الشمال السوري هو مشروع سوريا الواحدة والتي تَلفُظ أيّ مشاريع انفصالية أو إرهابية تعادي الجار التركي، وبالتالي تُشكّل تلك المناطق عُمقاً استراتيجياً وأمنياً له، وبالمقابل تكون تركيا حليفاً إستراتيجياً للثورة السورية الآن والدولة السورية الجديدة في المستقبل. وحيث أنّ الشمال السوري هو مكان آمن ومؤقت ممن يتمّ ترحيلهم من السوريين في تركيا قسرياً، أو ممن يُفضّل العودة طواعية منهم إلى سوريا بعد سوء الحياة الاقتصادية والاجتماعية في تركيا، وهذا الخيار لن تضحي به تركيا كرمى لعيون الأسد، وتغلق هذه النافذة للتخفيف من اعداد اللجوء السوري في تركيا.

لذلك لا أرى سبباً وجيهاً قد يدفع أنقرة للانسحاب من الشمال السوري قبل البدء بالحل السياسي، وحجز موقع على طاولة الحل ورسم المستقبل السوري، وليست تركيا من ترمي اوراقها مجاناً.

ولا أعتقد أنّ ضعف ميليشيا الأسد وتهالكها والتي خرجت السويداء عن سيطرتها مؤخراً، ولم تستطع فرض سلطتها في سهل حوران رغم كل الاغتيالات التي قامت بها، فكيف لها أن تُفكّر في مغامرة الدخول للشمال السوري الذي يمتد على مساحة 20000 كم2 وتوجد فيه ملايين قطع السلاح المختلفة والذي يضم غالبية ساحقة من السوريين الذين رفضوا العيش في حظيرة الأسد أو رفضوا إجراء تسويات ومصالحات للبقاء في مناطقهم التي أعاد الأسد احتلالها، وتلك المغامرة لن يقدم عليها الأسد فيما لو تمّ تقديمها له مجاناً.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني