fbpx

نصف ثورة يعني الانتحار، وخطاب المظلومية والمؤامرة الدولية لن يفيدنا

1 2٬770

صحا العرب من نومة أهل الكهف العثمانية بعد أربعة قرون كانوا جزءاً أصيلاً كغيرهم من الأمم من الإمبراطورية العثمانية حيث كانت الرابطة الدينية تُظلل الجميع وتُخفي تحتها كل التباينات القومية، بل قد يكون العرب وجدوا أنفسهم مع الدولة العثمانية بعد تيه كبير امتد لأربعمائة وخمسون عاماً منذ نهاية العصر الذهبي للخلافة العباسية إلى حين دخول السلطان سليم الأول بلاد الشام بعد معركة مرج دابق في عام 1516.

حيث أطلق على تلك الفترة الطويلة عصور الانحطاط ولم تقم دولة في بلادنا، بل كانت أرضاً للنزاعات والحروب بين الإمبراطوريات والممالك، ولم يُخبرنا التاريخ عن أي إنتاج معرفي حضاري تم تقديمه من قبلنا أدبياً كان أم دينياً ولا بأي منحى من مناحي الإبداع المعروفة.

وفي الإمبراطوريات الدينية يترسخ التفكير الإمبراطوري عند الفرد فلا يربط هويته بالأرض التي يعيش عليها، بل بالفكرة التي يؤمن بها، وتصبح كل أرض هي وطنه طالما أنها جزء من الإمبراطورية السياسية الموجودة فعلاً على أرض الواقع أما الإمبراطورية المُتخيلة كتجسيد نظري لدولة مُفترضة يسعى لإقامتها ويبذل الغالي والنفيس في سبيلها.

وكان قد توافق الاستعمار البريطاني والفرنسي على هزيمة الدولة العثمانية في منطقتنا العربية وتقسيم تلك المنطقة بما عُرف فيما بعدها باتفاقية سايكس – بيكو بالتزامن مع إعطاء وعد بلفور لإنشاء كيان يهودي في فلسطين.

وبغض النظر عن أهداف الفرنسيين والإنكليز والاخطاء القاتلة التي ارتكبوها بحق سكان المنطقة من ذلك التقسيم، فقد وجد العرب أنفسهم أمام حالة جديدة لم يعتادوا عليها، وهو نموذج الدولة الوطنية على الطريقة الأوربية التي وُلدت نهاية الحروب الدينية في القرن السابع عشر فيما عرفت وقتها باتفاقية ويستفاليا عام 1648.

تأقلم الأتراك مع الحالة الجديدة التي وجدوا أنفسهم بها بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وتجاوزوا سلبيات معاهدة سيفر وفرضوا اتفاقية لوزان عام 1923 وبنوا جمهوريتهم التركية بحدودها الحالية واتجهوا بتحالف مع من هزمهم في الحرب وكانوا على ذلك الحال إلى حين انضمامهم لحلف الناتو ومازالوا كذلك، وتخلوا تماماً عن الفكر الإمبراطوري العثماني وأصبح همهم الأول هو اعتماد الدولة الوطنية كخيار نهائي.

أما العرب والكورد في المنطقة، فقد وجدوا أنفسهم ضحايا لنتائج تلك الحرب، فقد فقد الكورد دولتهم القومية التي ولدت مع اتفاقية سيفر البائدة (حسب زعمهم) ووجدوا أنفسهم موزعين ضمن الحدود الوطنية لدول المنطقة الأربع.

وبالنسبة للعرب فقد شعروا بمدى الخديعة التي تعرض لها الشريف حسين بن علي عندما تمت الإطاحة بحلم مملكته العربية الكبرى المُتخيلة والتي تضم بلاد الشام والرافدين وأجزاء واسعة من شبه جزيرة العرب، بل تمت الإطاحة بالشريف حسين نفسه لصالح ملكية وطنية غير إمبراطورية تجسدت بالمملكة العربية السعودية.

لم يستطع العرب تخيل انفراط عقد الإمبراطورية العثمانية وفكروا بخلافة عربية إسلامية بعد فشل تجربة الشريف حسين، فأنشأ حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928 كرد على انهيار الخلافة الاسلامية بتنظيم أممي عالمي يسعى لإعادة عهد الخلافة البائدة.

ولم يكن التيار الديني هو الوحيد الذي يسعى لإقامة الإمبراطورية بل برز ساسة ومفكرون عرب سعوا لإنشاء الكيان العربي الواحد من المحيط للخليج وعدم الاعتراف بالحدود القطرية التي كان للاستعمار الغربي النصيب الأوفر في إيجادها.

وأوضح مثال على ذلك هو حزب البعث، وما سبقه وأعقبه من تيارات عروبية قومية أبرزها التيار الناصري.

كما أن العقلية العربية برفض الحدود الوطنية لم تقتصر على الإسلاميين والعروبيين بل وجدت تياراً قوياً في بلاد الشام يُعرف باسم القوميين الاجتماعيين السوريين، الذي أنشأ حزباً سياسياً ومازال موجوداً ويُطالب بدولة سورية الطبيعية (الكبرى) التي تضم بلاد الشام وأجزاء من العراق وجزيرة قبرص.

ولم تبق المجتمعات والعقلية العربية بمعزل عن التأثير السحري للإمبراطورية السوفييتية الشيوعية، ونشأت الأحزاب والتيارات اليسارية الشعبية على مستوى النخب المثقفة، والتي كانت تحلم بإمبراطورية أممية عالمية تتجاوز الحدود بين الدول لبناء دولة السلام والرخاء الشيوعي في العالم.

هذه التيارات الفكرية والسياسية هي التيارات الأربعة الرئيسية التي وُجدت في منطقتنا العربية الشرق أوسطية ومنها من وصل لسدة الحكم ومنها من لعب دوراً هاماً (ولا زال) في ماضي وحاضر وربما مستقبل المنطقة السياسي، واتخذ من قضية تحرير فلسطين وتحطيم الحدود الوطنية منهجاً وسلوكاً وشعاراً له ولخطابه لجمهوره متجاوزاً أدنى درجات النهوض (اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً… الخ)، بالوطن القائم بل إن التفكير بالشأن الوطني كان من الكبائر التي لا تُغتفر حيث يجب تركيز كل الجهود والقوى في سبيل تحقيق الحلم الإمبراطوري.

حتى أن الأحزاب السورية الوطنية التي وُلدت وترعرعت زمن الانتداب الفرنسي واستقت مبادئها وتوجهاتها من العهد الفيصلي الوطني القصير للمملكة السورية (1918-1920) لم يغب عن رجالاتها بعض من بقايا فكر إمبراطوري تمثل بصراعات تلك الأحزاب لإقامة وحدة مع إحدى دول الجوار القريب أو البعيد بشكل يؤدي إلى ذوبان الدولة الوطنية السورية في بوتقة ما مع كيان عربي جديد

 وبالطبع يُؤمن أصحاب التفكير الإمبراطوري بنظرية المؤامرة بحيث تكون المُخلص لهم لتبرير فشلهم في تحقيق أهدافهم، حيث إن البيئة الخصبة لنمو نظرية المؤامرة تكون عند الإنسان المؤدلج الذي يعجز عن تحقيق ما يؤمن به رافضاً أن يعترف بعدم واقعية ما يؤمن به أو عدم توفر الأدوات المساعدة والظروف الزمانية والمكانية والحامل البشري لتجسيد تلك الأحلام على الأرض، ويرتاح كثيراً عندما يعزو سبب ذلك الفشل لتآمر القوى الدولية الخارجية بمساعدة عملاءها المحليين.

وبانطلاق الثورة السورية كان الموجود على الساحة تلك التيارات وبالطبع لها أنصارها وحواملها المجتمعية ونخبها التي توقعت وتخندقت تنتظر تحقيق أحلامها.

لكن لم ينتبه أحد إلى أن جيل الشباب الذي أوقد الثورة كان مختلفاً عن هؤلاء، فبالرغم من حداثة سنه وتجربته أدرك عُقم كل تلك المشاريع أو طوباويتها، سواء وصلت للسلطة وحكمت حيث قدمت أسوأ النماذج في الحكم والإدارة والابتعاد كلياً عن شعاراتها المرفوعة وخطابها المُعلن، وإن لم تصل للسلطة ظلت تحلم بالأمة المتخيلة والتي ستُشكل الدولة المتخيلة

 كانت فئة الشباب التي أوقدت شعلة الثورة وطنية بامتياز، بشعاراتها الوطنية الجامعة (واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد) ونبذها لكل الأفكار والممارسات الطائفية بتسمية الجُمع (الجمعة العظيمة، جمعة صالح العلي، جمعة آزادي) وكان مطلبها إقامة دولة مدنية ديمقراطية في الحدود السورية المعترف بها دولياً لإدراكها الفطري استحالة أو عدم قدرة المشروع الثوري السوري أن يكون حاملاً لمشاريع إقليمية أو عالمية، مقتدياً بنجاحات هائلة للدول الوطنية الصغيرة وفشل كل المشاريع الإمبراطورية التي تعدت الحدود الوطنية، وكان أن ابتكر المجتمع الدولي أنماطاً ناجحة للتعاون ووأد أسباب النزاعات وحل المسائل القومية والإثنية والدينية عبر دول مدنية تتعاون في إطار أوسع وتتفق على التنازل عن أجزاء من سيادتها مقابل منافع عديدة وأبرز أمثلتها الناجحة منظمة الاتحاد الأوربي، ودون الحاجة لتوحيد الأمة العربية أو الإسلامية مثلاً في دولة مركزية واحدة.

ويمكن أن نُرْجع التنوير الذي اجتاح عقول شباب الثورات العربية لـ:

أولاً: اهتراء ما طرحه آباؤهم وأجدادهم وفشلوا فيه فشلاً ذريعاً

ثانياً: تغير ظروف العصر الذي نشؤوا فيه، وأقصد هنا ثورة الاتصالات والمعلومات التي جعلت العالم قرية كونية واحدة، ومنعت السلطات من حجب المعلومات واحتكارها، وتم الاطلاع على تجارب كل الشعوب.

كان اختراع الإنترنت فتحاً عالمياً مبيناً وبالتالي كانت وسائل التواصل الاجتماعي من أهم الوسائل التي قربت بين أجيال الشباب وأسهمت بتشكيل تفكير جمعي وعقل جمعي ووجدان وضمير جمعي ومصالح جمعية.

وسواء أكان الشباب العربي الذي انتفض كان يُدرك حجم الصعاب أم لم يكن يتوقعها فإن عقلية جديدة وطُرق تفكير جديدة قد نشأت واكتسبت الخبرة وإن طريق الألف ميل قد بدأ، ولابُد أن يصل لنهايته فيما بعد، ولا يمكن خلال عقد إنجاز ما أنجزه الغربيون في قرون لأنهم بالتأكيد واجهوا عقليات بطريركية واستبداداً وراثياً عنيفاً متحالفاً مع قوى الإقطاع.

في الثورة السورية مازال الفكر الوطني المُتجدد تحمله قطاعات واسعة من السوريين، السوري الذي آمن بتحرر عقله وطُرق تفكيره قبل أرضه وتحطيم الأصنام الموروثة والأيديولوجيات العتيقة التي لابُد أن تسبق تحطيم النظام وأدواته ومرتكزاته، بل هو شرط لازم وضروري لحدوث ذلك، ومازال القسم الأكبر من الشباب الثوري السوري يقبض على الجمر حاملاً مشروعه للتغيير ولن يتنازل عنه، وبالمقابل مازالت بقايا الأيديولوجيات والإمبراطوريات والعقليات التاريخية تبكي هزائمها وترجعها لتفسيرات نظرية المؤامرة بأن القوى العالمية والإقليمية المتصارعة (وأحيانا كثيرة المتحاربة) تناست كل خلافاتها وتناقض مصالحها في سبيل الوقوف أمام مشروع تغييري لدولة صغيرة، ولا يُبرر ذلك طبعاً مصالح بعض الدول بعدم نجاح التغيير السوري بل كان الدعم الأكبر مُوجه لأصحاب الأيديولوجيات من السوريين الذين طعنوا حُلُمنا بأيديهم، هم قبلوا بذلك وأسهموا بالهدم من الداخل عندما تبنوا مشاريع أكبر من مشروع الثورة السورية، وبالأساس أصحاب الأيدولوجيات لم يُفكروا بالثورة وتفاجؤوا بها كما غيرهم وبدؤوا بامتطائها خدمة لأجندة وأغراض أكل عليها الدهر وشرب ولم تعد صالحة كنموذج يُحتذى به أصلاً.

إن خطورة خطاب التيئيس لا تعادله خطورة، كتقديم أن العالم كُله يهرول نحو الأسد بعد كل ما ارتكبه من جرائم، وأن نظام الأسد من ضرورات النظام الأمني للإقليم وأن إسرائيل تريد بقاءه وأن أمريكا راضية عن أفعاله، وبالطبع يُبررون العقوبات والقوانين الغربية ضده بأنها لذر الرماد في العيون، وعن أي عيون يتحدثون، هل تخشى الدول الغربية إعلان دعمها للأسد أو تخشى إغضابنا طالما أن حقيقة موقفها لا تتواءم مع أقوالها، وذلك لرفع اللوم عنهم وعن صنيعهم وما قدموه من خطاب وأفعال على الأرض دعت بأكثر من مئة دولة للانفضاض عن دعم الثورة السورية، تارةً تحت دعاوى أن العالم لا يريد أن يصل السنة للحكم (مع أنهم يحكمون أنفسهم في كل الدول السنية) أو أن النموذج الديمقراطي السوري المُفترض سيكون تسونامي عالمي ديمقراطي تُولده الأمواج السورية العاتية وهذا غير صحيح، فعندما اختارت دولة سنية كبيرة السير بالطريق الديمقراطي رحب بذلك الجميع.

ما أود الختام به أنه يجب متابعة المشوار بالتعلم من أخطاء الماضي وبناء شبكة علاقات مصلحية مع الدول وتكثير الأصدقاء وتقليل الأعداء لأن أنصاف الثورات تعني الانتحار، ولابُد من إكمال الطريق حتى نهايته وخطاب المظلومية واللطميات والمؤامرات الكونية لن يلتفت إليه أحد.

1 تعليق
  1. Md khalifa says

    توصيف واقعي وشفاف ومفيد لمن يريد أن لاتنحر الثورة في منتصف الطريق .
    قد يثير زوبعة الإيديولجيات ، لكنه الحقيقة التي عليهم ان يتقبلوها حتى لاتصبح الثورة انتحارهم بعد انتظارهم.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني