fbpx

محكمة العدل الدولية.. قراءة في إسهامها في تطوير وترسيخ القانون الدولي الإنساني

0 53

ملخص البحث

يندرج القانون الدولي الإنساني ضمن منظومة القانون الدولي العام، ويقوم على مزيج من الاتفاقيات الدولية والأعراف الراسخة التي تهدف إلى معالجة الانتهاكات الإنسانية الناجمة عن النزاعات المسلحة، سواء كانت داخلية أو بين دول. ويُعرف هذا القانون بخصوصيته التي تميّزه عن غيره، إذ لا يقوم على مبدأ المعاملة بالمثل، ولا يُجيز التنازل عن الحقوق التي يكفلها حتى في ظل أقسى الظروف.

وفي هذا الإطار، أدت محكمة العدل الدولية دوراً فاعلاً في تعزيز مكانة القانون الدولي الإنساني من خلال ما أصدرته من أحكام قضائية وآراء استشارية ساهمت في توضيح مبادئه الجوهرية والتأكيد على إلزامية احترامها. وبناء على ذلك، جاءت هذه الدراسة لتتناول الخصائص الفريدة لهذا القانون، وتسلّط الضوء على المهام التي تضطلع بها محكمة العدل الدولية في دعمه، ولا سيما ما يتعلّق بتعزيز الالتزام بقواعده وتطوير مفاهيمه الأساسية.

وتهدف الدراسة إلى طرح تساؤل رئيسي يتمحور حول مدى فعالية محكمة العدل الدولية في ترسيخ مبادئ القانون الدولي الإنساني وضمان احترام تطبيقها على أرض الواقع. وتستمد هذه الدراسة أهميتها من الحاجة الملحة إلى الالتزام العالمي بقواعد هذا القانون، لا سيما في ظلّ ما توفره من حماية للأشخاص غير المنخرطين في العمليات القتالية أو الذين أصبحوا خارج دائرة النزاع، إلى جانب دورها في تنظيم أساليب ووسائل القتال.

وقد أظهرت نتائج الدراسة أن محكمة العدل الدولية كان لها إسهام ملموس في بلورة وتكريس العديد من قواعد القانون الدولي الإنساني، إلا أن طبيعة دورها القضائي تفتقر إلى أدوات تنفيذية مباشرة، مما يحول دون ضمان الامتثال لأحكامها. ويعود ذلك إلى أن تنفيذ قرارات المحكمة يرتبط بصلاحيات مجلس الأمن الدولي، الذي قد تعوق مهامه السياسية – وبخاصة عند تورط أحد أعضائه الدائمين في النزاع – عملية الانفاذ

وعليه، يبقى تحقيق الالتزام الشامل بأحكام القانون الدولي الإنساني تحدياً كبيراً، رغم أن احترامه يُعد مصلحة عامة للمجتمع الدولي بأسره.

المقدمة

يشكّل القانون الدولي الإنساني أحد الأعمدة الأخلاقية والقانونية التي تبلورت داخل بنية القانون الدولي العام، وقد احتل هذا الفرع موقعاً مركزياً في تنظيم سلوك الدول والأطراف المتنازعة خلال النزاعات المسلحة. ما يميز هذا القانون أنه لا يُبنى على منطق التفاوض أو المعاملة بالمثل، بل على أساس إنساني محض يجعل من حماية الإنسان – بوصفه قيمة عليا – غايته القصوى. ومن هنا، لعبت محكمة العدل الدولية دوراً حاسماً في تأصيل مضامين هذا القانون، ليس فقط من خلال اختصاصها القضائي في النظر بالمنازعات المرتبطة بتفسير وتطبيق الاتفاقيات الإنسانية، بل أيضاً عبر إسهامها في تطوير مبادئه من خلال الأحكام الصادرة عنها والآراء الاستشارية التي شكّلت مراجع معيارية في فقه القانون الدولي.

إنّ مسار المحكمة في التعاطي مع القانون الدولي الإنساني لم يكن انعكاساً حرفياً لنصوص قانونية جامدة، بل كان تفكيكاً وتحليلاً وتأصيلاً لقيم القانون وتحدياته. ويظهر ذلك جلياً منذ بدايات عملها، كما في قضية “مضيق كورفو[1]” حين أبرزت المحكمة بُعداً إنسانياً ضمن حيثيات حكمها، في تأكيد ضمني على أنّ ما يُعد من المسلمات الأخلاقية لا يجوز المساس به حتى في زمن الحرب. وقد تطور هذا التوجه ليصبح سمة بارزة في منهج المحكمة التي تعاملت مع قواعد القانون الدولي الإنساني باعتبارها جزءاً من النظام القانوني العالمي الذي لا يجوز الإخلال به، لأنه يمثل مصلحة جمعية لا تخص دولة دون أخرى، بل ترتبط بكرامة الإنسان أينما وُجد.

وانطلاقاً من هذه الرؤية، فإن هذا البحث يسعى إلى الوقوف على طبيعة العلاقة بين محكمة العدل الدولية والقانون الدولي الإنساني، من خلال تحليل اختصاصات المحكمة، وتتبع الملامح الفقهية لمقاربتها لمسائل إنسانية معقدة، بهدف الوقوف على مدى مساهمتها في تعزيز احترام هذا القانون وتوسيع أفق تطبيقه، وهو ما يجعل من دور محكمة العدل الدولية أفقاً مفتوحاً لسؤال العدالة الكونية وأدوات حمايتها.

مشكلة البحث

يندرج القانون الدولي الإنساني ضمن البنية العامة للقانون الدولي، ويُعدّ أحد أبرز محاولات المجتمع الدولي لوضع حدود للدمار في أزمنة النزاعات، عبر مجموعة من القواعد التي ترمي إلى صون الكرامة الإنسانية وحماية الأرواح والممتلكات في أوقات الحرب. غير أن التحدي لا يكمن في وضوح هذه المبادئ أو عدالتها، بل في الفجوة القائمة بين النصوص النظرية والتجارب الواقعية على الأرض. فكم من حرب اندلعت دون احترام لهذه المبادئ؟ وكم من إنسان انتهكت حرمته رغم وضوح النصوص؟

من هذا التناقض ينبثق سؤال جوهري يكوّن لبّ هذا البحث:

إلى أي مدى استطاعت محكمة العدل الدولية أن تسهم في ترسيخ مبادئ القانون الدولي الإنساني، وفي تعزيز الالتزام بتطبيق أحكامه؟

هذا التساؤل الأساسي يتفرّع عنه طيف من الأسئلة الأخرى، التي لا تقل أهمية، ومنها:

  • ما هو المفهوم الدقيق للقانون الدولي الإنساني وما يميّزه عن غيره من فروع القانون الدولي؟
  • ما هي المصادر التي يستقي منها هذا القانون شرعيته وفاعليته؟
  • ما هي المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني؟

وأخيراً، ما الدور الذي تنهض به محكمة العدل الدولية، بوصفها أرفع هيئة قضائية دولية، في تفسير هذه المبادئ، وتطويرها، وضمان احترامها ضمن المجتمع الدولي؟

منهجية البحث

استندت الدراسة إلى المنهج القانوني لتحليل مصادر ومبادئ القانون الدولي الإنساني، وكذلك لتوضيح اختصاصات محكمة العدل الدولية ودورها في تعزيز تلك المبادئ وتطبيقها.

أهمية الدراسة:

أصبح من الضروري تطوير قواعد القانون الدولي الإنساني مع تصاعد استخدام أساليب القتال العنيفة والدموية التي أسفرت عن تدمير واسع النطاق وأثرت على المدنيين والمقاتلين بشكل متساوٍ. استجاب القانون الدولي الإنساني لهذا التحدي من خلال وضع نصوص تهدف إلى ضمان حماية المدنيين دون تمييز، مع التأكيد على ضرورة وجود آليات فعّالة تضمن تنفيذ هذه القواعد.

تُظهر هذه الدراسة كيف ساهمت محكمة العدل الدولية في تعزيز وتطوير القانون الدولي الإنساني من خلال الأحكام والآراء الاستشارية التي أصدرتها في العديد من القضايا. وقد كانت المحكمة عنصراً رئيسياً في ضمان الالتزام بالقواعد الإنسانية، التي تمثل التزامات مشتركة بين الدول وتخدم مصالح المجتمع الدولي في تحقيق العدالة وحماية الحقوق الإنسانية الأساسية.

تعريف القانون الدولي الإنساني ومصادره الأساسية

يعد القانون الدولي الإنساني جزءاً من القانون الدولي العام، حيث تم تأسيسه في إطار السعي المستمر لإرساء قواعد تحكم النزاعات المسلحة. بدأ هذا التوجه في عام 1863م مع تشكيل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي وضعت أساساً لتعريف القانون الدولي الإنساني باعتباره “مجموعة من القواعد الدولية المستمدة من المعاهدات والأعراف، تهدف إلى معالجة المشكلات الإنسانية الناجمة عن النزاعات المسلحة سواء كانت دولية أو غير دولية، وتقييد أطراف النزاع عن استخدام أساليب الحرب التي قد تمس بالإنسانية، كما تسعى لحماية الأشخاص والأعيان الذين قد يتعرضون للمخاطر المرتبطة بالنزاع.”[2]

من خلال هذا التعريف، يتضح أن القانون الدولي الإنساني يركز على حماية الإنسان العادي، بما في ذلك المدنيين، والأسرى، والجرحى، وكل من لا يشارك في الأعمال القتالية، كما يعنى بالحفاظ على الممتلكات والأعيان الخاصة بهم.

مصادر القانون الدولي المصادر القانون الدولي الإنساني

يُعدّ القانون الدولي الإنساني فرعاً من فروع القانون الدولي العام، ولذلك فهو يستمد مصادره من ذات الأصول التي ينبثق منها هذا الأخير. وتنقسم قواعد هذا القانون إلى قسمين رئيسيين: قواعد لاهاي، وقواعد جنيف[3]، ولكل منهما طبيعته وهدفه الخاص ضمن إطار تنظيم سلوك النزاعات المسلحة وحماية الأشخاص المتأثرين بها.

قانون لاهاي: يُعنى بشكل أساسي بتنظيم وسائل وأساليب القتال، وقد تأسس من خلال مؤتمري لاهاي في عامي 1899 و1907. ويشمل هذا القانون مجموعة من الاتفاقيات التي تحدد الوضع القانوني للأسرى والجرحى في المعارك البحرية، وكذلك المدنيين في الأراضي المحتلة. وقد أُضيفت إلى هذا الإطار اتفاقيات لاحقة، منها إعلان سان بطرسبرغ لعام 1868 الذي يحظر استخدام الرصاص المتفجر، وبروتوكولات جنيف لعامي 1925 و1980 التي تتعلق بحظر استخدام الغازات السامة والشظايا غير القابلة للكشف، إلى جانب البروتوكول الثاني لعام 1996 بشأن الألغام، والبروتوكولات اللاحقة التي تناولت الأسلحة المحرقة وأسلحة الليزر المعمية. وتُعد اتفاقية أوتاوا لعام 1997 بشأن حظر الألغام المضادة للأفراد من أبرز المحطات في تطور هذا القانون.

أما قانون جنيف: فيركز على حماية الأشخاص غير المشاركين مباشرة في العمليات القتالية، مثل المدنيين، وكذلك حماية العسكريين العاجزين عن الاستمرار في القتال كأسرى الحرب والجرحى والمرضى. ويتكون هذا القانون من أربع اتفاقيات تم اعتمادها في جنيف عام 1949، إضافة إلى بروتوكولين إضافيين تم تبنيهما في عام 1977 لتعزيز وحماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، وسد الثغرات التي لم تغطّها اتفاقيات جنيف الأصلية[4].

وقد أكدت محكمة العدل الدولية في عدد من آرائها الاستشارية وأحكامها القضائية على أهمية المبادئ الإنسانية التي يقوم عليها القانون الدولي الإنساني، مشيرة إلى طابعه الإلزامي وشموليته، ولا سيما في ما يتعلق بحظر الإبادة الجماعية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وكذلك في تحريم التهديد باستخدام القوة أو اللجوء إليها. ولعل من أبرز الأحكام التي عكست هذه القيم رأي المحكمة في قضية التحفظات على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها عام 1951، حيث أوضحت المحكمة أن حظر الإبادة الجماعية يمثل التزاماً دولياً يقع على عاتق جميع الدول دون استثناء، بما يعكس الطبيعة الخاصة والمُلزمة للقانون الدولي الإنساني.

إسهام محكمة العدل الدولية في تحديد المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني

أسهمت محكمة العدل الدولية بدور بارز في توضيح وترسيخ المبادئ الجوهرية للقانون الدولي الإنساني، التي تُقسَم إلى خمسة محاور رئيسية:

  • المبادئ التي تنظم سير الأعمال العدائية.
  • المبادئ الخاصة بمعاملة الأشخاص الذين يقعون في قبضة العدو.
  • المبادئ التي تتعلق بتطبيق وضمان احترام القانون الدولي الإنساني.
  • المبادئ الخاصة بالمساعدات الإنسانية
  • منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها

أولاً: المبادئ المرتبطة بسير الأعمال العدائية

أوضحت المحكمة عدداً من المبادئ التي تحكم إدارة الأعمال العسكرية أثناء النزاعات، أبرزها ضرورة التمييز بين المدنيين والمقاتلين، وحظر استخدام الأسلحة التي تسبب إصابات مفرطة أو معاناة غير مبررة. من المبادئ البارزة في هذا السياق “شرط مارتنز”، الذي أُدرج لأول مرة في اتفاقية لاهاي الثانية لعام 1899، والذي ظل يُستخدم كأساس لتكييف قواعد القانون الإنساني مع التطورات العسكرية المتسارعة. ويمكن تلمّس حضور هذا الشرط بصيغة محدثة في المادة الأولى، الفقرة الثانية، من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، والتي تنص[5]:

“على أن كل من المدنيين والمقاتلين يظلون، في الحالات غير المغطاة بهذا البروتوكول أو بأي اتفاق دولي آخر، خاضعين لمبادئ القانون الدولي العرفي ومبادئ الإنسانية وما يفرضه الضمير العام”.

وفي رأيها الاستشاري لعام 1996، أكدت محكمة العدل الدولية على أن هذه المبادئ تُعد جزءاً لا يتجزأ من نسيج القانون الدولي الإنساني. وعلى الرغم من أنها لم تحظر استخدام الأسلحة صراحةً، فإن تفسيرها لحظر الهجمات المتعمدة ضد المدنيين في البروتوكول الإضافي الثاني يعني ضمناً رفض استخدام الأسلحة التي لا تميز بين الأهداف، وخصوصاً في النزاعات المسلحة غير الدولية.

ثانياً: المبادئ الخاصة بمعاملة الأشخاص الذين يقعون في قبضة العدو

تشكل المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع حجر الزاوية في تحديد الحد الأدنى من الحماية الإنسانية للأشخاص الذين لم يعودوا يشاركون في الأعمال العدائية، مثل الجنود الجرحى أو المرضى أو الأسرى أو غيرهم من العاجزين عن القتال. وتفرض هذه المادة ضرورة معاملتهم معاملة إنسانية، دون تمييز على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو الثروة أو غيرها من المعايير. كما تُوجب توفير الرعاية للجرحى والمرضى وجمعهم من ساحات القتال.

ترى محكمة العدل الدولية أن هذه القواعد تُطبَّق ليس فقط في النزاعات الداخلية، بل إنها تُشكّل أيضاً معياراً أساسياً يُضاف إلى القواعد التفصيلية في النزاعات الدولية، وهو ما أسمته في حكمها لعام 1949 بـ “الاعتبارات الإنسانية الأولية”.[6]

ثالثاً: المبادئ المتعلقة بتنفيذ القانون الدولي الإنساني وضمان احترامه

اعتمدت محكمة العدل الدولية على مبدأ جوهري ينص على أن هناك التزاماً مزدوجاً يقع على عاتق الدول يتمثل في احترام القانون الإنساني وكفالة احترامه في جميع الظروف، كما ورد في المادة الأولى من اتفاقيات جنيف. ففي حكمها الصادر بتاريخ 27 يوليو 1986، بشأن الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية في نيكاراغوا، أكدت المحكمة أن هذا الالتزام لا ينبع فقط من نص الاتفاقيات، بل أيضاً من المبادئ العامة للقانون الدولي الإنساني.

وقد أدانت المحكمة الولايات المتحدة لنشرها كتيبات عسكرية لقوات “الكونترا” تحثهم على ارتكاب أفعال تتنافى مع المادة الثالثة المشتركة، مما يُعد انتهاكاً للقواعد العرفية التي توجب احترام القانون الدولي الإنساني وضمان احترامه من قبل الآخرين[7].

رابعاً: المبادئ الخاصة بالمساعدات الإنسانية

أبرزت المحكمة في حكمها بشأن نيكاراغوا أهمية المساعدات الإنسانية باعتبارها إحدى الوسائل العملية لضمان احترام القانون الدولي الإنساني. وأوضحت أن تقديم المساعدات لأي طرف في النزاع، دون النظر إلى خلفياته السياسية، لا يُعد تدخلاً في الشؤون الداخلية للدول، بشرط أن تلتزم تلك المساعدات بالمعايير الإنسانية وألا تُمارَس بناء على تمييز.

واعتمدت المحكمة في ذلك على المبادئ الأساسية التي تم إعلانها في المؤتمر الدولي العشرين للصليب الأحمر، مؤكدة أن احترام هذه المبادئ ليس حكراً على الصليب الأحمر، بل يشمل أيضاً الأمم المتحدة والدول بشكل فردي. وتشترط المحكمة أن تكون هذه المساعدات لأغراض إنسانية بحتة، تهدف إلى حماية الأرواح وتخفيف المعاناة، وتُقدَّم دون أي تمييز[8].

خامساً: منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها

في حكمها الصادر في 11 يوليو 1996، والمتعلق بتطبيق اتفاقية منع الإبادة الجماعية، شددت المحكمة على أن هذه الجريمة تُعد مخالفة جسيمة للقانون الدولي سواء ارتُكبت في أوقات السلم أو الحرب. وأكدت أن الاتفاقية تسري بغض النظر عن طبيعة النزاع، وأن أحكامها تُلزم جميع الدول، دون استثناء، بمسؤولية منع الجريمة ومعاقبة مرتكبيها.

ورأت المحكمة أن هذا الالتزام لا يرتبط بسياق سياسي أو عسكري محدد، بل يُعتبر التزاماً قائماً بذاته ومستقلاً عن حالة الحرب أو السلم[9].

اختصاصات محكمة العدل الدولية في ضوء مبادئ القانون الدولي الإنساني

تتمتع محكمة العدل الدولية باختصاصين رئيسيين، الأول هو الاختصاص القضائي الذي يسمح لها بإصدار الأحكام في المنازعات بين الدول، والثاني هو الاختصاص الإفتائي، حيث تقدم المحكمة آراء استشارية حول المسائل القانونية التي تعرض عليها من قبل أجهزة الأمم المتحدة.

الاختصاص القضائي للمحكمة في مسائل القانون الدولي الإنساني:

الوظيفة الأساسية لمحكمة العدل الدولية تتمثل في تسوية المنازعات التي تُعرض عليها، إذ تنص المادة (34/1) من النظام الأساسي للمحكمة على أن الدول هي وحدها التي تمتلك الحق في تقديم القضايا أمام المحكمة، وبالتالي لا يحق للمنظمات الدولية أو الأفراد التوجه للمحكمة. وهناك ثلاث فئات من الدول التي يمكنها التقاضي أمام المحكمة[10]:

1. الفئة الأولى: الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، والتي تشمل الدول التي ستنضم إلى عضوية الأمم المتحدة مستقبلاً.

2. الفئة الثانية: الدول غير الأعضاء في الأمم المتحدة، وهذه الدول يمكنها الانضمام إلى النظام الأساسي للمحكمة بشروط تحددها الجمعية العامة بناء على توصية مجلس الأمن1. تشمل هذه الشروط قبول أحكام النظام الأساسي للمحكمة، الالتزام بالمادة (94) من ميثاق الأمم المتحدة، والتعهد بالمساهمة بنصيب عادل في نفقات المحكمة[11].

3. الفئة الثالثة: الدول التي ترغب في التقاضي أمام المحكمة دون أن تكون أعضاء في الأمم المتحدة أو في النظام الأساسي للمحكمة، وهذه الفئة تلتزم بالشروط التي يحددها مجلس الأمن وهي:

  • إیداع قلم كتاب المحكمة تصریحاً بقبول اختصاص المحكمة وفقا لأحكام میثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي للمحكمة ولائحتها.
  • تعهد بتنفیذ أحكام المحكمة بحسن النیة.
  • قبول الالتزامات التي فرضنها المادة (٩٤) من میثاق الأمم المتحدة.

إن ولاية المحكمة في الأصل هي ولاية اختيارية، أي أنها تعتمد على رضا الأطراف المتنازعة، مما يمثل نقطة ضعف في تطبيق المحكمة لمبادئ القانون الدولي الإنساني. لكن يمكن تجاوز ذلك من خلال تضمين نصوص في الاتفاقيات الإنسانية تمنح المحكمة الصلاحية للنظر في الانتهاكات أو تفسير هذه الاتفاقيات، وهو ما فعلته بعض الاتفاقيات مثل اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، ومناهضة التعذيب.

كما أن المادة (36/2) من النظام الأساسي تمنح المحكمة ولاية إلزامية حيث يمكن للدول الأطراف في النظام الأساسي أن تعلن عن قبولها لولاية المحكمة الإلزامية في مسائل تتعلق بتفسير المعاهدات أو المسائل القانونية الدولية أو التحقيق في الوقائع التي قد تشكل انتهاكاً للالتزامات الدولية.

نص الفقرة الثانية من المادة 36 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية التي نصت” على أن الدول الأطراف في هذا النظام أن تصرح في أي وقت بأنها بدأت تصریحها هذا وبدون حاجة إلى اتفاق خاص، تقر للمحكمة بولایتها الجبریة في نظر جمیع المنازعات القانونیة التي تقوم بینها وبین دولة تقبل الالتزام نفسه متي كانت هذه المنازعات تتعلق بالمسائل الآتیة:

  • تفسیر معاهدة من المعاهدات
  • أیة مسألة من مسائل القانون الدولي
  • تحقیق واقعة من الوقائع التي إذا ثبت أنها كانت خرقا لالتزام دولي.
  • نوع التعویض المترتب علي خرق التزام دولة ومدي هذا الالتزام.

تعد أحكام محكمة العدل الدولية نهائية وغير قابلة للاستئناف، حيث تسري على جميع أطراف النزاع وفقاً للمادتين 59 و60 من النظام الأساسي، بشأن إعادة النظر في الأحكام الصادرة عن المحكمة. وتنص هاتان المادتان على ما يلي:

  • “لا يمكن قبول طلب إعادة النظر في الحكم إلا في حال اكتشاف حقيقة جديدة ومهمة تؤثر في القضية، بشرط أن يكون الطرف الذي يطلب إعادة النظر لم يكن على علم بتلك الواقعة وقت صدور الحكم بسبب إهماله”
  • “تبدأ إجراءات إعادة النظر بقرار من المحكمة، يتم فيه تأكيد وجود الواقعة الجديدة وتوضيح خصائصها التي تبرر إعادة النظر، ويعلن عن قبول التماس إعادة النظر قبل البدء في الإجراءات”

من شروط قبول التماس إعادة النظر أن يتم تقديمه خلال ستة أشهر من اكتشاف الواقعة الجديدة التي تؤثر في الحكم، وأن يتم تقديمه بعد مرور عشر سنوات من تاريخ الحكم، كما نصت المادة(61) الفقرة (4) و 61 الفقرة (5) من النظام الأساسي[12].

التزام الدول بحكم المحكمة:

  • تنص المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة على أنه:
  • “يتعهد كل عضو في الأمم المتحدة بالالتزام بحكم المحكمة في أي قضية يكون طرفاً فيها” .
  • “إذا امتنعت إحدى الأطراف في القضية عن تنفيذ حكم المحكمة، يحق للطرف الآخر التوجه إلى مجلس الأمن الذي قد يتخذ تدابير أو يقدم توصيات بشأن تنفيذ الحكم”.

الاختصاص الإفتائي للمحكمة:

بالإضافة إلى الوظيفة القضائية التي تمارسها المحكمة، هناك وظيفة استشارية تتمثل في إمكانية طلب الفتوى بشأن أي مسألة قانونية، وفقاً لشروط محددة. وتنص الفقرة الأولى من المادة (96) من ميثاق الأمم المتحدة على أنه:

“يمكن لكل من الجمعية العامة أو مجلس الأمن طلب فتوى من محكمة العدل الدولية بشأن أي مسألة قانونية”.

كما نصت الفقرة الثانية من المادة ذاتها على أنه:

“يحق أيضاً لجميع فروع الهيئة والوكالات المتخصصة المرتبطة بالأمم المتحدة طلب الفتوى، ولكن بعد أن تمنح الجمعية العامة إذناً بذلك”.

وتحدد المادة 65 من النظام الأساسي للمحكمة أن “للمحكمة أن تصدر فتوى في أي مسألة قانونية بناءً على طلب أي هيئة يسمح لها ميثاق الأمم المتحدة بطلب الفتوى أو إذا حصلت على إذن بذلك طبقاً لأحكام الميثاق”.

وبذلك يتبين أن طلب الفتوى مقتصر على أجهزة الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة التابعة لها، ولا يمكن للدول، سواء أكانت أعضاء في الأمم المتحدة أم لا، أن تقدم هذا الطلب[13].

في حين أن مجلس الأمن والجمعية العامة لديهما الحق في طلب الفتوى دون الحاجة لإذن من أي جهة أخرى، بينما يخضع طلب الفتوى من الأجهزة الأخرى أو الوكالات المتخصصة لقرار صادر عن الجمعية العامة.

فيما يتعلق بالطبيعة القانونية للفتوى، يمكن القول إن نص المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة، في فقراتها، يوضح أن المسائل التي يمكن أن تطلب المحكمة الفتوى بشأنها تقتصر على القضايا القانونية فقط. وعلى الرغم من أن هذه الآراء الاستشارية ليست ملزمة، إلا أنها تحمل قيمة معنوية وسياسية هامة. ومع ذلك، قد تصبح ملزمة إذا تم الاتفاق بين الدول والمنظمات على ذلك، كما في اتفاقية مقر الأمم المتحدة مع الولايات المتحدة الأمريكية عام 1947، والتي نصت على أن تحيل الأمم المتحدة أي نزاع إلى محكمة العدل الدولية للحصول على رأي استشاري، مع قبول الأطراف المعنية بهذا الرأي. وقد جرت العادة في الأمم المتحدة وفي الوكالات المتخصصة على احترام هذه الفتاوى والالتزام بها.

لقد أصدرت محكمة العدل الدولية العديد من الآراء الاستشارية التي ساهمت في تطوير مبادئ القانون الدولي الإنساني[14].

مثل الفتوى الصادرة في 28 مايو 1951 حول التحفظات على اتفاقية حظر ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، بناء على طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 نوفمبر 1951، والتي أكدت المحكمة فيها على حظر التحفظات التي تتعارض مع جوهر المعاهدة. كذلك، أصدرت المحكمة في 21 يونيو 1971 فتوى حول الاستمرار غير المشروع لجنوب أفريقيا في ناميبيا بناء على طلب مجلس الأمن في 29 يوليو 1970، وأكدت فيها على أن هذا التصرف يعد انتهاكاً للمعاهدات التي تهدف إلى حماية حقوق الإنسان.

في 8 ديسمبر 2004، طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة من المحكمة إصدار فتوى حول بناء الجدار العازل من قبل إسرائيل في الأراضي الفلسطينية. بعد التصويت على صلاحية المحكمة للاختصاص، أقر جميع قضاة المحكمة الخمسة عشر بالاختصاص، ثم انتقلت المحكمة إلى بحث موضوع الفتوى لتقرر بعدها أن بناء الجدار العازل غير مشروع ويجب تفكيكه وتعويض الفلسطينيين المتضررين، باعتباره خرقاً لمبادئ القانون الدولي الإنساني. وقد أيد هذا القرار 14 قاضياً من أصل 15 قاضياً في المحكمة.

ومن هنا يتضح الدور المهم الذي تلعبه محكمة العدل الدولية من خلال الآراء الاستشارية التي تصدرها في القضايا المعروضة عليها، سواء في الماضي أو في الحاضر، مثل حكمها الأخير بشأن إعادة فرض العقوبات على إيران وتجميد أموالها في واشنطن، الذي سيتناول تحليله لاحقاً في سياق تطور وتفعيل قواعد القانون الدولي[15].

الخاتمة:

تمكنت محكمة العدل الدولية من خلال قراراتها وآرائها الاستشارية من إرساء وتطوير قواعد القانون الدولي الإنساني، مؤكدة على أهمية احترام هذه القواعد. حيث حرصت المحكمة في جميع أحكامها وآرائها على إبراز الطابع الخاص لاتفاقيات القانون الدولي الإنساني، التي تشمل حقوقاً لا يمكن التنازل عنها تحت أي ظرف من الظروف. علاوة على ذلك، فإن خرق أحد الأطراف لبنود اتفاقيات إنسانية معينة لا يؤدي إلى إنهائها أو إلغائها، شريطة أن هذه الاتفاقيات تهدف إلى حماية الأفراد.

نتائج الدراسة:

  • ساهمت محكمة العدل الدولية من خلال قراراتها وآرائها الاستشارية في ترسيخ وتطوير قواعد القانون الدولي الإنساني.
  • لا تخضع اتفاقيات القانون الدولي الإنساني لشرط المعاملة بالمثل.
  • خرق أحد الأطراف لبنود الاتفاقيات الإنسانية لا يؤدي إلى تعليق أو إنهاء العمل بها طالما كانت تلك الاتفاقيات تهدف إلى حماية الأفراد.
  • أحكام محكمة العدل الدولية تكون ملزمة للطرفين إذا وافقا على اختصاص المحكمة القضائي الإلزامي، ولكن المحكمة لا تمتلك الوسائل اللازمة لفرض تنفيذ أحكامها، ويعد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هو الجهة التنفيذية الوحيدة التي يمكنها اتخاذ الإجراءات اللازمة.

التوصيات:

من الضروري على الدول احترام مبادئ القانون الدولي الإنساني والامتثال لأحكامه، مع ضرورة تقليص استخدام حق النقض (الفيتو) وذلك من خلال الإجراءات التالية:

  • تحديد المجالات التي يجوز فيها استخدام هذا الحق.
  • منع استخدام حق النقض في الحالات التي يكون فيها أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن طرفاً في نزاع، مع ضرورة اشتراط تصويتين سلبيين لرفض مشروع القرار، وتحديد حد أقصى لعدد الأصوات السلبية التي يمكن أن يدلي بها العضو الدائم.
  • حظر استخدام حق النقض في القضايا المتعلقة بالعمل الإنساني والإغاثة الإنسانية أثناء النزاعات المسلحة.

المراجع


[1]– محكمة العدل الدولية، قضية مضيق كورفو (المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وايرلندا الشمالية ضد ألبانيا)، في قرارها الصادر في 9 إبريل 1949، ص: 28.

[2]– الدكتور محمد المجذوب (القانون الدولي) ص: 762.

[3]– محمد عبد الجواد الشریف، “قانون الحرب (القانون الدولي الإنساني)، ط2، (القاهرة: المكتب المصري الحدیث، 2003)، ص: 55-65.

[4]– د/ محمد شوقي عبد العال،” مقدمة لدراسة القانون الدولي العام”، (القاهرة: دار النهضة العربیة 2018)، ص: 20-23

[5]– أيمن سلامة، “القانون الدولي الإنساني”، سلسلة مفاهيم، العدد 20، المركز الدولي للدراسات المستقبلية، القاهرة، أغسطس 2006، ص 5-9.

[6]– علي خالد دبیس، “دور محكمة العدل الدولية في ضمان الالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني”، مجلة أهل البيت، العدد السابع عشر، جامعة كربلاء، 2015، ص 33-40.

[7]– د. محمد شوقي عبد العال، “مقدمة لدراسة القانون الدولي العام”، دار النهضة العربية، القاهرة، 2018، ص 20-23.

[8]– الموجز الرسمي للأحكام الصادرة عن محكمة العدل الدولية.

Available at: un.org/cod/icjusmmaries/documents/Arabic/180.a.pdfP.W. Kahn, “From Nuremberg to The Hague: The United States Position in Nicaragua v. United States”, Yale Journal of International Law, Vol.12, 1987, pp.12-15.

[9]– المرجع السابق نفسه.

[10]– د. أحمد الرشیدي، “الوظیفة الإفتائیة لمحكمة العدل الدولیة ودورها في تفسیر وتطویر سلطات واختصاصات الأجهزة السیاسیة للأمم المتحدة”، (القاهرة: الهیئة المصریة العامة للكتاب 1993)، ص: 117-125.

[11]– حافظ حمدي، “العدالة الدولیة”، (جامعة القاهرة: كلیة الحقوق، 1980)، ص: 60-65.

[12]– عبد العزيز محمد سرحان، “دور محكمة العدل الدولية في تسوية المنازعات الدولية”، القاهرة: دار النهضة العربية، 1993، ص: 44-50).

[13]– عبد الهادي محمد العشري، “السلطة التقدیریة لمحكمة العدل الدولیة في مباشرة وظیفتها الأفتائیة: دراسة تحلیلیة للرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولیة بشأن الجدار الإسرائیلي العازل”، (القاهرة: دار النهضة العربیة، 2005)، ص: 12-20.

[14]– د/ أحمد الرشیدي،” الوظیفة الأفتائیة لمحكمة العدل الدولیة ودورها في تفسیر وتطویر سلطات واختصاصات الأجهزة السیاسیة للأمم المتحدة”، (القاهرة: الهیئة المصریة العامة للكتاب 1993)، ص: 117-125.

[15]– رشا حمدي، “الجدار الإسرائیلي في میزان محكمة العدل الدولیة”، مجلة السیاسة الدولیة، (القاهرة: مركز الدراسات السیاسیة والاستراتیجیة بالأهرام، عدد (156)، أبریل 2004.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني