لكل زمان ابتسامة…!
هرب… أصاخت السمع.. هرب في طائرة لم تُعرَف وجهتها.. صاعقة زلزلت كيانها.. كادت تُشلّها.. تماسكت.. اتكأت على الطاولة.. أيعقل ما سمعته.. لا..لا.. إنها إحدى الأكاذيب الملفقة.. إنه جبل لا يتزعزع، ولا تهدّه النوائب.. رجل تمرّس في إدارة الصعاب.. حوله أسود تحميه.. كم تعرّض للمخاطر وخرج منها منتصراً.. لا يمكن النيل منه.. لن أصدق ما سمعت.. أنا المؤمنة بحكمته لن يفعلها.. نعم لن يفعلها.. إنّي على قناعة أنه ليس جباناً.. يفضل الموت برصاص الحاقدين على الهروب.. لمن يترك الآلاف بل الملايين؟ جلست أمام التلفاز، وبيد مرتجفة راحت تتابع القنوات. كانت كلها تؤكد الخبر.. ضغطت أرقام هاتفها.. صباح الخير سيادة الوزير
– أهلاً كيف الحال
– لست بخير.. أصحيح ما أسمع؟
– وماذا تسمعين؟
– هرب… إلى جهة غير معلومة
– نعم، علمت قبل قليل أنه…
– وما العمل؟
– ننتظر المجهول.. لا تتصلي ثانية…
تراخت أعضاؤها.. تهامدت.. اجتاح رأسها ألم ممض.. عصّبته.. شدّته بقوة.. ألقت رأسها على مسند الكنبة.. أغمضت عينيها.. تساءلت عمّا ستؤول إليه الأمور.. شقت دمعات طريقها من بين الرموش.. تحدرت على وجنتيها إلى الشفتين.. تذوقت ملوحتها.. شعرت بخسارة كبرى.. ضاعت كرسي الإدارة.. تبخّر ما كانت تحلم به… وأبحرت في الماضي تسترجع الأيام.. كم نشطت…، وكم بذلت من محاولات، ومن جهود لتثبت وجودها وولاءها.. كيف تحكمت بزميلاتها وبزملائها.. كم من الصور علقتها في مكتبها وعلى الجدران.. وكم أهدرت من كرامة لتحقق حلمها بذلك الكرسي…
تنهدت.. ما كنت أظن يوماً ولا حتى ساعة أن ينهار كل ما خططت له وبنيته، وما حلمت به.. آهٍ.. يا لسوء العاقبة!.. ماذا ينتظرني؟ ماذا سأفعل عندما ألتقي غداً أو بعد غد بتلك الوجوه في الدائرة؟ ترى هل أستطيع تحمّل نظرات الشماتة في عيونهم وأنا أرفع الصور عن جدران مكتبي؟ ماذا سأفعل إذا ما داسوها أمامي؟ ليتني مت قبل يوم أو يومين وارتحت…
أيقظها رنين الهاتف.. إحدى زميلاتها.. لم تمدّ يدها.. ماذا أقول؟ لا بدّ أنها شامتة.. الأفضل أن لا أرد، ولا أسمع أحداً كائناً مَن كان.. دعوني لوحدي أجتر بعض أحلامي.. أمنّي النفس أن أجد مكاناً قصياً لا أرى فيه بشراً، وأقضي ما تبقى لي بعيدة عن الواقع وعن الهموم استرجع المغفرة عن كل سوءة فعلتها.
رن الهاتف.. زميلة ثانية.. وأخرى.. ماذا تردن مني.. لن أجيب.. هذا قرار.. لن تروا وجهي إلا عندما يبدأ الدوام.. يجب أن أصمد لتحدياتهم في الدائرة.. سيرون جميعاً ما سأفعله.. سأفاجئهم.. نعم.. سأفاجئهم…
أعلن المدير بدء الدوام.. استعدت.. ذهبت مبكرة.. أزالت الصور عن جدار مكتبها، والصور في مكاتب الدائرة كلها، والممرات.. وضعتها في كيس.. رمتها في الحاوية.. عادت إلى مكتبها.. أغلقت على نفسها تنتظر…
وصل الموظفون جميعهم.. تغامزوا.. هيّا ندخل.. طرقوا الباب.. جاءهم صوتها: تفضل.. فتحوا الباب.. لا صور على الجدران، وفوق الطاولة أنواع شتّى من الحلويات، وعلى غير عادتها وقفت استعداداً لاستقبالهم، ومستبشرة راحت ترحّب بهم، وترفع عقيرتها: مبارك علينا ولنا…