fbpx

لا مناصب في الحب

0 19

ينسج الكاتب رضا أسعد المغترب في الولايات المتحدة منذ قرابة نصف قرن عباءته الأدبية بخيوط سورية حملها معه من مدينته الساحلية طرطوس، ولو استطاع لحمل المدينة وشواطئها ورمالها وبحرها الواسع العميق معه في حقيبته إلى منزله في بلاد الاغتراب.

لقد كان أمراً عجيباً كيف يصوّر رضا الطبيعة والناس والمشاعر بهذه الدقة وبهذا الصدق، وكيف يتحوّل شوقه إلى مدينته السورية إلى نبع غزير من الإبداع، فتشتعل ذاكرته بتفاصيل صغيرة وعميقة، فلا ينسى شيئاً من حياته إلّا ويذكرها في مقالاته، لتبقى روحه معلقة بالوطن كما تتعلق الشجرة بجذورها.

خيط من الوفاء والمحبة والصدق والشوق تربط الخواطر والمقالات التي احتواها كتابه ( لا مناصب في الحب) الذي ضم 31 مقالة نشرها في المواقع والصحف والمجلات وضمّها كتاب واحد مع الترجمة إلى الإنجليزية تحت عنوان “لا مناصب في الحب” – خواطر متناثرة، تناول خلالها عوالم كثيرة، وعكس ثقافته الواسعة وشغفه باللغة العربية والأدب والفن، وكل ما له علاقة بإنسانية الإنسان من ثقافة وتراث، ومن حاضرٍ وماضٍ ومستقبلٍ.

حقاً كان رضا أسعد في هذه الخواطر كالمتصوفين يشبه ابن عربي، يدين بدين الحب، ولا يدين بغير الحب أبداً.. في كل جملة، وفي كل سطر، وفي كل فكرة، تلحظ قدرته على وضع اللفظة والكلمة بمكانها فيبدو نصه مرصوص البنيان عامراً بالأفكار، وفي كل فكرة أو عنوانٍ يطفح الحب على السطح وتظهر عناوين رضا أسعد كما لو أنها باقات زهر يريد أن يقدّمها للقارئ، يجذبه، ويبهره، ويشده إليه شداً ببساطةٍ عميقةٍ وأسلوبٍ جميل، يدركها عقل الأمّي ويفهمها كما المثقف والأكاديمي، فلا تعقيد في كتاباته ولا تهويل بل حكمة وتوازن تنساب كالماء الزلال أمام القارئ، فالإنسان بروحه وطيبته يمتزج مع الطبيعة والحياة، ومع الجبال والبحر والسهول والصحراء، فالأحياء عنده روح واحدة لا فرق بينها. الشجر والبشر والحيوانات لها أرواح تتكلم وتتألم وتحزن وتفرح.. فالطبيعة والإنسان عند رضا أسعد صنوان، وكل شيء حي ينبض بالحرية فهو يأخذك إلى عالمه الأدبي الغني والفسيح، وهو عالم خاص بات يعرفه كلّ من يقرأ مذكرات نيكوس كازانتزاكي (تقرير إلى غريغو) فهو من أولئك الكتّاب والأدباء المثقفين المولعين بالحياة، الذين يعيشون في بحبوحة ونعيم وعزّة، وهم يحوّلون العالم بفرحه وآلامه إلى كلمات وحكايات جميلة تسرّ القلب، كما يفعل رضا سعيد الذي يحدثك عن خروفه وعصفوره وكلبه، كما يحدثك عن ذكرياته وحكاياته كجزء من حياته، وينقل لنا حياته الشخصية بصدق، كما لو أننا نعيش معه في منزله في الولايات المتحدة، وقد حمل معه من حديقة منزله في المشبكة بطرطوس تينةً صغيرة وزرعها في حديقة منزله في الولايات المتحدة وبجانبها كرمة صغيرة، ولو استطاع أن يحمل طرطوس وجبالها وبحرها وعصافيرها وخرافها ورمالها معه لفعل، ولكنه فعل أكثر من ذلك في خواطره ومقالاته التي تشدّك إليها، وتجعلك تقرأ مقالاته وحكاياته تترا وكأنك تتناول قطعاً من الحلوى واحدة بعد الأخرى (حلمٌ يوقظنا وحلمٌ نستيقظ عليه) خروف وعصفور وكلب، حكاية وفاء، القرطاس والقلم، الأرض – إنه البحر – المغترب ما بين الوطن الأم وبلد الاغتراب.

31 مقالة كما لو أنها طبقٌ من الفواكه الشهية، التي لا تشبع منها العين، ولا القلب، وكلما قرأتها مرة تعيد القراءة كما لو أنك تحضّر لامتحان تعيدها مرةً بعد أخرى..

لغة رضا أسعد العربية متينة وقوية يدرّسها لطلابه في الولايات المتحدة، كما لو أنه يبني مشروعاً اقتصادياً عملاقاً، ليعيد صياغة التاريخ ويعمّم الثقافة العربية والحلم العربي هناك في الولايات المتحدة، وإذا ما استخدم العامية فإنه يستخدمها ليزيد الفصحى لمعاناً وألقاً كحسناء تضع قرطاً.

ومن أجل أن يوصل أفكاره يستخدم ثقافته وإرثه وتاريخه وذاكرته ومحبته ليقطع دابر الكراهية والبغض والكذب من الوجود كله.

فها هو يستخدم عبارة من أغنية لأم كلثوم (من كتر الحب لقيتني بحب) وكأنه يقول لنا أحبوا بعضكم كثيراً كثيراً، وعندها ستذوب وتنتهي الكراهية من حياتكم.

حتى الطعام الذي يأكله الناس في الشرق الاوسط أراد سعيد أن يجعله مأكول الغرب فإذا به يفتتح مطعماً يسوّي فيه أطعمة شرقية.

ولأنهم هناك لا يأكلون النخاعات فقد أصر رضا أسعد على أن يصنع من النخاع سندويشة نخاعية ويأكلها، لتبقى روحه وجيناته وجسده عربية، ولكي يعيد هناك فيما وراء البحار إحياء الطقوس والأعياد والعادات الشعبية، التي كان يعيشها مع أبناء سورية في المشبكة في وسط طرطوس، وكلّ ذلك يمكنك أن تعيشه عبر حكاياته الشيّقة والممتعة، والتي يزاوج فيها بين روحين.. روح الإنسان وروح الطبيعة (أحياء بلا دماء) شجرة الكاردينيا – الموسيقا والرقص.

رضا أسعد لا يمكنك أن تشبع من كلماته وشخصياته الحقيقية التي تعيش معنا وترافقنا في حلّنا وترحالنا، وهو يعرّفك على الأشخاص المتميزين الطيبين ولا يذكر أبداً المنبوذين والمجرمين والقتلة ويحوّل اللحظات القاسية إلى فرصة للخير والجمال.

وها هو يرافق ضريراً داخل مصعد فيحكي لنا حكاية البصر والبصيرة، إنه يحكي لك عن الجمال والأمل والكرامة، ويأخذك معه إلى عالمه الأدبي الغني وكأنه في عالم الصفاء والنقاء، لا يعرف الكراهية ولا البغض، ولم يتعرف في حياته على الأشرار أبداً، فهو في جنة الخلد الأدبية التي رسمها لنفسه، يعيش إنسانيته الكاملة مع الطبيعة والناس، كما لو إنه في جنان الخلد.

رضا أسعد غير مشهور على مستوى الوطن العربي، ولكنني أعتقد إن ما كتبه في مجموعته خواطر متناثرة من أفكار أدبية وإنسانية وعلمية وتاريخية أشبه بقاموس مفتوح على الحياة..

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني