كاسيت جدي
شببتُ عن الطوق.. صرت رجلاً ملء الحزام.. نظرت في المرآة، لأول مرة أكتشف شبهاً كبيراً بجدّي – رحمه الله – في قسمات وجهه.. عينيه السوداوين.. أنف أبي الهول.. الجبهة العريضة.. خديه والذقن البيضاوية. تمعّنت فيها جيداً، تساءلت كيف لي أن أكتسب هذه الصفات كلها منه؟ وأين ملامح أمّي الأجنبية؟ ولماذا لم تورّثني بعضها؟ ألم يقولوا “العرق دساس”؟! افترّت شفتاي عن ابتسامة ماكرة، تذكّرت عبارته التي كان يكررها كلما قطّب جبينه وهو يسمع والدتي تقول لأبي: “وأنت في طريقك إلى المتجر ارمِ كيس الزبالة في الهاوية”؛ ليعلو صوته: يا مرأة “الرجال قوّامون على النساء” ارمها أنتِ، فتغمغم بكلمات غير مفهومة، ربما كانت شتائم، ثم تقترب منه محيية “أمرك يا هاج”، وتحمل كيسها الأسود وهي تردد على مسمعي بلكنتها المعهودة “إيّاك أن تزعج جدك يا مدفّر “، وتغادر خلف زوجها.
كان المرحوم يضع شريط كاسيته المحبب في جهاز الفيديو ويتابعه بشغف، رغم تكراره يوماً بعد يوم، حتى تآكلت بعض صوره فبدت مشوّهة، ولا يني أن يشرح لي: هذه القرية جاء منها جدّك.. انظر ما أجملها!.. في هذا البيت ولد أبوك.. هذه جدّتك، أنت لا تعرفها، ماتت دون أن تودعني.
– لماذا؟
– يتنهّد.. مرضت وتوفيت، ثم لحق أبوك بي مخلّفاً وراءه البيت والقرية.
مازالت أحتفظ بذلك الكاسيت المشوّهة صوره ذكرى منه، وإنّي أتذكّر ما فيه من مناظر الطبيعة الجميلة، والأغاني، وأجزاءٍ من حفلات الأعراس التي شدّتني إلى الجذور، ومعرفة الأرض والأقارب والناس هناك. لقد غرس جدّي محبتها في نفسي، فسكنت في قلبي. قررت أن أتعرّف عليها، فكّرت بالسفر، وأخبرت والديّ فاعترض أبي: يا ولدي أنت هناك غصن مقطوع من شجرة.
– كيف؟!
– ليس لك أخ، أو عم، أو خال هناك، أقلع عن التفكير بذلك.
أريد أن أعرف جذوري، ولم أطعهما.
وصلت ديار جدّي، في المطار فتشوني بدقّة متناهية.. سألوني عن أصلي وفصلي.. عن كلّ كبيرة وصغيرة.. سخروا من لغتي العربيّة المكسّرة – كما يقولون – استقبلني أهل القرية وأقارب جدّتي بحفاوة لم أتوقعها.. فما زال إكرام الضيف من فضائلهم الكثيرة التي يعتزون بها.
تجوّلت في الأنحاء، لم أشاهد ما كنت أراه في شريط الكاسيت، فالطبيعة، والبيوت، والأزقّة تغيّرت، وانكفأت حجارة البازلت السوداء مقيمة في الوسط القديم، وعلا بعضها الإسمنت، وانتشرت حولها بيوت جديدة مختلفة التصميم واللون، وغابت منها قطعان الماشية حتى الدجاجات فقدت حريتها إذ وضع أكثرها في أقفاص، والناس تخلّت غالبيتهم عن ثيابها الشعبية وقلّدت الغرب، وتغيّرت مظاهر العرس، وتبدّلت الأغاني. أحسست أني في عالم آخر غير ما كنت أشاهده، وأحببته، وشغفت به.
صادقت شاباً من أقارب جدّتي، أخبرته عمّا كنت أراه في شريط الفيديو من مناظر جميلة وغيرها، سألته: أين اختفت؟ حدّثني عن التغييرات المتسارعة في نمط حياتهم.. عن الانقلابات المتعددة.. عن الأزمات الحادة التي مرّوا بها.. عن ضنك العيش وتدهور الحياة الاقتصادية.. عن الجوع وفقدان المواد الأساسية.. عن بطالة الشباب.. عن الهجرة والتهجير.. عن البيوت المدمرة أو التي خلت من سكانها.. عن بلد أصبح طارداً لقواه الشابة.. عن تشاؤم الناس ومعاناتهم، وعن أمل مازال يلوح في الأفق لإنقاذ ما تبقّى.
حزّ في نفسي ما سمعته، شعر بضيق يرتسم على قسمات وجهي.. طمأنني ببضع كلمات التشجيع، وقدّم لي هديةً كتابَ أديب مشهور يدعو في إحدى صفحاته؛ سافر لتفهم معنى الإنسانية، ولتكتشف أن شعبك ليس أفضل الشعوب كما يدعون، وأن بلادك صحراء لا خضرة فيها، وذهنيات أهلها متحجرة ومليئة بالخرافات والأساطير، شعرت بمرارة العيش في أرض الجذور، وفهمت لماذا اعترض والدي على سفري. لفحتني موجة تشاؤم أزالتها ثقة ذلك الشاب بأيام واعدة بالخير. سحرتني ثقته وهو يحدثني عن المستقبل وعن آماله.
توالت الأيام مسرعة.. لم أدرِ كيف انتهت إجازتي في تلك الربوع التي أحببت أهلها. وأدتُ حنيني وذكريات جدّي تحت شجرة معمّرة في قرية عشقها. دعوت لصديقي أن تتحقق أحلامه وآماله.. ربّت على كتفه.. شددتُ على يده.. انتزعت نفسي منه، وعدت أدراجي أحمل في حناياي غصة، وحباً كبيراً للناس وللأرض.