قراءة في رواية غرابة في عقلي
- الكاتب أورهان باموق
- ترجمة عبد القادر عبد اللي
- إصدار دار الشروق
- ط1، ورقيه، 2015
أورهان باموق روائي تركي متميز، حائز على جائزة نوبل، له روايات كثيرة، اطلعنا على أغلبها، يغطي بكتابته الواقع التركي المباشر وبعض من التاريخ العثماني بزوايا رؤية متنوعة.
غرابة في عقلي؛ رواية تؤرخ لاسطنبول في نصف قرن الماضي حتى عام 2012، تتحدث عن بداية النزوح الكبير من الأرياف عموماً إلى اسطنبول، بحثاً عن لقمة عيش صعبة الحصول في أرياف الأناضول والبحر الأسود، لكنها ممكنة في اسطنبول بتعب وجهد كبيرين، ستمتلئ اسطنبول ببائعي اللبن والبوظة وكل العاملين في المهن الدنيا، يستوطنون في الهضاب المجاورة للمدينة من كل الاتجاهات، هذه الهضاب المملوكة للدولة، والتي لا ملكية للناس بها، والتي أصبحت موطناً إجبارياً لهؤلاء القادمين الريفيين وعائلاتهم، حسن ومصطفى أخوين تركوا قريتهم البعيدة في الأناضول وجاؤوا إلى اسطنبول للبحث عن لقمة العيش.
حسن يأتي ومعه ولديه قورقوط وسليمان، أما مصطفى فيأتي لوحده أولاً، ثم بعد سنوات يلتحق به ابنه مولود بطل الرواية.
من خلال وجود وتطور هؤلاء وشبكة علاقاتهم وأعمالهم وتحولات اسطنبول تتشابك عناصر الرواية وتكتمل الصورة عبر ما يزيد عن خمسين عاماً.
مولود يتعلم في القرية المرحلة الابتدائية فقط، وبسبب صعوبة استمرار تعليمه يعمل في رعي الأغنام وهو طفل صغير، والده مصطفى وعمّه حسن وأولاد عمه قورقوت وسليمان سبقوه إلى إسطنبول، وهو حزين لأن والده لم يأخذه معه حيث هناك اسطنبول أم الدنيا.
هناك إمكانية إكمال تعليمه أفضل، واحتمال حصوله على عمل مجز، يؤدي لحياة من الغنى والحياة الهنية.
سرعان ما يذهب إلى اسطنبول ملتحقاً بوالده، يسكن مع والده في بيت مؤلف من غرفة واحدة على تل من أرض الدولة، كان قد وضع الأب وأخوه يديهما عليها وبنيا كوخيهما، عاشا سوية ومن ثم انفصلا، وها هو يعيش الآن مع والده في كوخهما الصغير على تلة من التلال الكثيرة المطلّة على اسطنبول.
في النهار يذهب للمدرسة وليلاً يدور مع والده في شوارع اسطنبول بائعاً منادياً على اللبن أو البوظة، يلتقطون لقمة عيشهم.
تستمر حياة مولود بهذا الشكل ويتواصل مع عمه وأولاده، وسيعرف أن هناك خلاف بين أبيه وعمه حول الأرض التي وضعوا يدهم عليها، والتي سيأتي يوم ويوثق المختار حقوق الناس ساكني هذه التلال، عندما تقرر الدولة التمليك أو التعويض.
يكبر مولود على هذه الحال ويحضر عرس ابن عمه قورقوت، ويتعرف على أخت زوجة ابنة عمه ويحبها على البعد، ويساعده ابن عمه لتوصيل الرسائل لها، تستمر حياة مولود عبر سنوات المدرسة التي لم يستطع إكمال التعلم فيها، ومن ثم في خدمته في الجيش، يستمر في الكتابة لحبيبته، يخرج من الجيش ويلتحق بالعمل بائعاً لللبن والبوظة، يفكر بالزواج، يساعده ابن عمه سليمان على التواصل مع حبيبته (رائحة)، يخطفها، لأن ذلك عرف سائد ولتخفيف الأعباء المادية ومتطلبات الأب.
سيخطف حبيبته رائحة بمساعدة سليمان، يكتشف أن من خطفها ليست من أحبها وكتب لها الرسائل عبر سنين بل أختها الكبرى، لكنه يتقبل قدره ويتزوجا ويعيشا حياة هانئة وينجبا طفلتين.
على مستوى آخر سيكون عند مولود أصدقاء في تلته والتلال المجاورة، خاصة فرحات الشاب اليساري، فأغلب أولاد العلويين والأكراد القادمين من الأناضول، يلتحقون بالحركات اليسارية، ويصبون جام غضبهم على الدولة وعلى الآخرين القادمين من قرى البحر الأسود، الذين أخذوا التوجه القومي أو الديني، بدعم من الدولة في أغلب الأحيان.
تزداد الحساسيات بين الفريقين، ويكون هناك مناوشات تصل لصدام، يؤدي لضرب اليساريين من علويين وأكراد وترحيلهم بشكل جماعي بعد أن قاموا بعصيان جماعي إلى تلال أبعد ومواقع أخرى.
يتحمل مسؤولية تغيير الحبيبة عبر تغيير اسمها ابن العم سليمان، فالحبيبة سميحه، والرسائل موجهة لأختها رائحة.
سينسى الموضوع مع الزمن ويتحول لمجرد ندبة في النفس، يصالح والد زوجته، ويعيش حياته بائع لبن وبوظة متجولاً في أحياء اسطنبول ليلاً ونهاراً.
اسطنبول التي لن تستمر على حالها، تتوسّع وتتحول الأكواخ والأراضي المسورة إلى أراض مهمة، يشق بها الشوارع وتدخل في المناطق المنظمة، يتملكها قاطنيها، وتبنى عليها الأبنية الطابقية أو الأبراج.
يحصل بعض الأذكياء الذين وضعوا يدهم على أرض أكبر أو اشتروا من آخرين حق التملك بورقة المختار، والذين أصبحوا على اطلاع على تنظيم المدينة ومستقبلها، سيتحولون بين عشية وضحاها إلى أغنياء ومالكي عمارات وأراض وسيارات…
كل ذلك باستغلال حاجة الدولة لأصوات الناس عند أي استحقاق انتخابي، عبر الالتحاق بالأحزاب وتمثيلها وتمثيل مصالحها أيضاً، أمّا بعضهم الآخر سيستمر على فقره وبؤس حاله عبر عشرات السنين. يحاول سليمان ابن عمه تزوج سميحة أخت زوجته وحبيبته السابقة. لكنها تهرب مع صديقه فرحات ويتزوجا. فرحات يعمل في جباية أثمان الكهرباء. يتعرّف على تفاصيل سرقة الكهرباء وأساليب تحصيلها، واستفادته من ذلك بأن يأخذ حصته كرشوة، يمتلك بعض البيوت ويراكم المال.
نطّلع على تطور الحياة في اسطنبول، الطبقة الجديدة المتشكلة من حديثي الثروة، المافيا ومشغلي المقامر والخمارات ومراكز الدعارة ومروجي المخدرات. يتشكّل مجتمع مواز من الملتزمين دينياً والحلقات الصوفية. تتوسع اسطنبول عشرة أضعاف ويتوسع ويتطور معها كل شيء، سيموت فرحات في ظرف غامض له علاقة بصراع المافيا وتورطه معهم، ويموت والد مولود باكراً، وتموت زوجته أيضاً بعد أن حملت بطفلها الثالث، الذي رفضته لأنها كبرت، ولأنها تشوّشت نفسياً وعاطفياً، حين تناهى لها خبر الرسائل وأنها لأختها سميحه وليست لها، حاولت إجهاض نفسها وماتت.
البنتان تكبران، وسميحة أصبحت وحيدة بعد موت فرحات، أما سليمان فيتزوج مطربة التقطها من ملهى، وأنجب منها ولدين، ابنتا مولود تتزوجان، الأولى زميلها في الجامعة، والثانية خطيفة مع من تحب، يتقبل مولود ما حصل ويعيش وحيداً، موظفاً في جمعية نهاراً، وبائع للبوظة مساء، لكن ذلك لا يستمر، حياة الوحدة جحيم، والإخلاص لزوجته رائحة المتوفاة لا يحل مشاكل الحياة التي تحتاج لوجود زوجة، سرعان ما يتقرّب من سميحة، التي سيتزوجها ويعترف لها أن الرسائل كتبت لها أصلاً، لكنه اصبح أكثر إخلاصاً لزوجته المتوفاة، حياتهم المشتركة كانت أجمل ما عاش، يعيش الآن على اجترار تلك المرحلة.
تنتهي الرواية ومولود يعمل ببيع البوظة والتجوال في اسطنبول، وانتظار الدخول في الكهولة، وتذكر أيامه السابقة، لكنّ خمسين سنة من عمر إسطنبول، غيرت معالمها وكبرت عشرة أضعاف، امتصت القادمين واستوعبت ناسها، وتفاعلت مع الانقلابات العسكرية والتغيرات السياسية، ودخول الإسلاميين في السلطة، وبناء الجسور والتوسع العمراني وناطحات السحاب. مازال مولود يتجول في شوارع اسطنبول ليلا يبيع البوظة ويبحث عن روح اسطنبول في روحه هو.
الرواية قراءة في مرحلة مهمة من تاريخ اسطنبول الاجتماعي الاقتصادي والإنساني التفاعلي، والخوض عميقاً في الذات الفردية لأبطالها؛ وجدانياً وعقلياً وروحياً، وقراءة حياتهم ضمن الواقع المعيش وعبر تفاعلات الحياة المستمرة جيلاً بعد جيل.