fbpx

قراءة في رواية “جلد الثور”

0 254
  • الكاتبة: مي جليلي
  • الناشر: دار يافا للنشر والتوزيع – الدنمارك
  • ط1، 2022م

مي جليلي كاتبة فلسطينية، درست الفلسفة في دمشق ودرّستها بعد ذلك، استقرت أغلب حياتها في سوريا في ضواحي دمشق، قرأت لها روايتين سابقتين، براري النرجس وقبضة غبار.

تعتمد الكاتبة في رواية جلد الثور السرد بصيغة المتكلم على لسان شخصياتها الأساسية: شاهين وجمان ومايا. تتناول الرواية هؤلاء ودائرتهم الحياتية والمجتمعية، لا تتقيد الكاتبة بالتطور الزمني في سياق السرد، الابطال يعيشون حياتهم ويتحدثون عنها ذهابا وإيابا بين ما عاشوه في ماضيهم وما يعيشونه في الحاضر، وما يأملون أن يفعلونه لمستقبلهم.

شاهين ابن الأحياء الاكثر فقراً، المحيطة بدمشق، عاش طفولة مؤلمة جداً، حضور والده الظالم له وللعائلة، أمه المظلومة أيضاً تحاول حمايته من بطش والده، لم ينجح في علمه، لذلك قضى حياته في سن الطفولة والصبا محاولا أن يتقن مهنة ما يعيش منها ويساعد عائلته الفقيرة.

عاش شاهين إحساساً بالحقد والغضب على ظروف الحياة التي عاشها، جعله ذلك ينمي داخل نفسه المشاعر العدوانية تجاه الكل، وجعلته يتصرف مع المحيط المجتمعي له، بمنطق المصلحة المتوحشة، كل ما يصل إليه غنيمة، وما يريده هو حقه، سواء كان بوجه حق أو باطل.

شاهين الذي تجرع الظلم العائلي والفقر، حيث قرر والده أن يرسله إلى الخليج ليعمل عند عمه، عمه الذي لم يهتم به بل تصرف معه كنكرة، سلمه لأحدهم ليعمل صبي في محمصة بأجر زهيد بالكاد يكفيه معيشته، بيته مستودع المحل، حياته أشبه بالجحيم. عاد إلى سوريا بعد سنوات صفر اليدين، وقرر الانتقام من العالم كله حسب طريقته. حيث وجد نفسه في سن المراهقة يصاحب رفاق السوء، ويتردد على دور الدعارة، وهناك التقطه أحدهم وجعله حارساً ومراقباً وحامياً للنساء العاهرات في سوق الجنس، بكل ما يحمل من مهانة وسوء، سنتعرف على حياة هؤلاء النساء وما أدّى بهم لأن يمتهنّ بيع أجسادهنّ ويعشن حياة أقرب للجحيم، بسبب الظلم المجتمعي من الأهل أو الزوج أو الاغتصاب أو اليتم أو الفقر، كلها طرق مفتوحة لتجعل المرأة تلجأ لآخر الحلول في حوزتها الإتجار بجسدها.

تركز الرواية على حياة جمان إحداهن، التي بدأت حياتها لقيطة تركتها أمها الاجنبية أمام ميتم وحيث كبرت هناك، ثم ليحنّ عليها رجل ويأخذها طفلة تعيش في أسرته، كتبني غير رسمي، وعندما تكبر تصاب بأسوأ حدث في حياتها حيث يموت من تبناها، وتطردها الأسرة وتجد نفسها في الشارع، ومن هناك تتلقفها أيدي تجار الجنس وتصبح سلعة مجزية. يتقاطع مسار حياتها مع شاهين، وتكنّ له حباً، وتأمل أن يكون حاميها. لكنه تركها لمصيرها الذي كان غوصاً في عالم تجارة الجنس، كبرت في هذا الوسط وتعلمت كيف تصطاد زبائنها وكيف تمتص خيراتهم، وتتركهم لجحيم مستقبل مظلم، موثقة كل ما يعيشونه معها، تبتزّهم بها، صنعت مجدها الذاتي مال وثراء وبيوت، كل ذلك مقترن بإحساس وحدة قاتلة وخوف من المستقبل، وغياب الأمان، حيث لا تثق بأحد في الدنيا.

أما المرأة الثانية التي دخلت حياة شاهين فهي مايا، التي تقاطعت حياته معها في أيام مجده، حيث أصبح من اصحاب الملايين وله ارتباطات دولية يتاجر بكل شيء، ممنوعات وغيره، بما فيها السلاح والمخدرات، وجد فيها الجانب النقي الإنساني الذي افتقده في نفسه طوال حياته. أحبها وأرادها.

مايا المرأة التي تبنت نوعاً من التدين الصوفي المتصالح مع الدنيا ومع البشر، كانت رقيقة كنسمة، طيبة وجميلة، دخلت في أعماق شاهين دون استئذان وخلقت بقعة ضوء في ذاته المظلمة. حاول أن يضمها إلى قطيع النساء اللواتي استباح أجسادهن، لكنها لم تتجاوب، كانت وفية لزوجها المقعد، والمتفانية معه، تابعت حياته بصبر ودأب، رعته حتى وفاته وتابعت حياة ابنتها التي هربت مع حبيبها الملتبس واستقرت معه في حياة قاسية.

صبر شاهين على أحوال مايا ووفائها لزوجها حتى وفاته. ثم بنى معها علاقة جسدية كاملة، جعلها مأواه النفسي والروحي، يعود إليها كلما أوغل في أفعاله الشريرة، لعله يتطهر ويعيد توازنه.

كانت آخر غزواته الاستحواذ على ميراث وتركة جمان. جمان التي أصبحت بعد عمر قضته في بيع جسدها، واصطياد الزبائن الميسورين وخلق فضائح لهم واستنزافهم مالياً. لديها بيوت وأموال وتحف، لكن ليس لها أي أحد في الدنيا. لعب عليها شاهين وطلبها للزواج وخطط أن يقتلها بعد عقد القران، غادر إلى خارج سوريا لأيام وعاد بعد اتصال من الأجهزة الأمنية به تخبره بقتل زوجته، يعود بريئاً من تهمة قتلها. يستحوذ على ثروتها كاملة. لكن فرحته لم تكتمل حيث يتدخل أحد المسؤولين الأمنيين من أقرباء والد جمان بالتبني، ينتزع منه كل ما حصل عليه. مكسبه الوحيد كان قتل الفتاة المظلومة التي وثقت به وأحبته.

مع انبثاق الربيع السوري واندفاع الناس للحصول على حقوقهم الإنسانية بالحرية والكرامة والعدالة، ورد النظام الباطش والعنيف على مطالب الناس، وحصول التدخلات الدولية والاقليمية تزكي في نار الحرب التي صُنعت في سوريا، وقودها الشعب السوري وأداتها النظام المستبد المجرم، وإحساس شاهين أنه غير معني بكل ذلك. فبعد أن خسر كل ما حصله من ثروة جمان. وكيف تعامل معه الأمن وكأنه نكرة وتافه ولا يهمهم حياته أو موته. عاد يلملم جراحه ويرى بمايا أمله الوحيد، مايا المهتمة بابنتها التي عانت كثيراً حتى استردتها من زوجها الظالم، ساعدها شاهين بعلاقاته لاستعادتها ومعالجتها من الأذيات التي حصلت لها، ثم دفع مايا وابنتها للخروج من سوريا، حيث بدأ الناس يهربون إلى تركيا ودول الجوار السوري والعالم هرباً من الموت المحاصر للسوريين، دفعهم للخروج على أن يلتحق بهم لاحقاً..

تنتهي الرواية هنا.

في التعقيب عليها نقول:

إننا إمام رواية تتابع القاع الاجتماعي الذي عاشه كثير من السوريين، وما نتج عنه من شخصيات مشوّهة موتورة وسيئة، نموذجها شاهين، الذي أصبح الشر طبعة والأعمال الخارجة عن القانون مسرحه، لا يتورع عن الإتجار بالنساء للدعارة والسلاح والمخدرات، يقتل إن احتاج، ينتقم لذاته وعقده، دون مبررات من حق أو مظلومية. لقد كان نتاج واقعنا المتخلف وشعبنا المقموع، ضحية الاستبداد والتفاوت الاجتماعي وضياع الحقوق.

كما تضعنا الرواية وجهاً لوجه أمام جانب مسكوت عنه، لكنه حاضر جداً، إنه ظلم المرأة وسلبها حقوقها. جعلها ضحية أولى. تهرب من واقع ظلم أهل أو زوج أو بيئة سيئة أو اغتصاب أو يُتم… إلى الاسوأ حيث تبيع جسدها في تجارة هي مادتها وضحيتها كل الوقت.

كما أن عدم اقتراب الرواية من الربيع السوري والغوص فيه، والحديث عن مبررات حصوله وتطور الأوضاع منذ آذار 2011م حتى عام 2015م زمن انتهاء تدوين الرواية، حيث كان الحدث السوري حاراً جداً ويحتاج من يضيء ظلمته. لعل الكاتبة تعدنا برواية أخرى تتحدث عن الثورة كما تراها.

الرواية ممتلئة بالسخرية المرة، وكثير من التفاصيل، تختزن خبرات الحياة، تغدق على القارئ بحيث يعيش معها كثيراً من الشغف للقراءة والمتابعة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني