fbpx

قراءة في رواية: الهجير “جنة رياح”

0 283
  • الكاتبة: سماح العيسى
  • الناشر: دار فضاءات للنشر والتوزيع
  • ط1، ورقية، 2021م

سماح العيسى روائية سورية من الجيل الجديد، متميزة جداً، قرأت لها سابقاً رواية الحرملك وكتبت عنها.

الهجير “جنة رياح” رواية سماح العيسى الجديدة، كتبت بطريقة مبتكرة، حيث تعتمد على أسلوب القفز في الزمان والمكان لمقاطع صغيرة، لا تتجاوز صفحة أو عدة صفحات أحياناً، محكومة بمخطط الكاتبة، أفق الراوية تتكلم عن أزمان متباعدة يصل امتدادها إلى أكثر من قرن من الزمان، لا يوجد ماض في الحدث الروائي، فكل مقطع مكتوب على أنه معاش في ذات الوقت، يميز كل مقطع عبر الترويسة على رأس صفحة اول المقطع، الحدث في عام 1915م مثلاً في غزالة القرية الحورانية، أم 2020م حيث تعيش أفق الراوية في هولندا بعدما وصلت إليها هاربة من عنف ووحشية النظام، الذي حارب الشعب الذي ثار عليه، استشهد من استشهد واعتقل من اعتقل وتشرد من تشرد، حيث وصلت أفق إلى هولندا كمثال كثير من السوريين المنتشرين في دول الدنيا، بعدما لم يعد لهم وطن يحتضنهم.

مقاطع الرواية المتسلسلة في الزمن ذهابا إياباً، ليست مجرد سرد لأحداث، إنها إعادة إنتاج حياة كاملة لأفراد نموذجيين يشكلون بنية المجتمع، الناس رجاله ونساؤه، الأطفال والشباب والصبايا، متحدثة ضمناً عن الأعراف والعادات والقيم المهيمنة الراسخة، وعن الحالة المشاعرية لكل هؤلاء، نصغي لما يجول في خواطرهم، وما يتناولونه فيما بينهم، ما يخفون وما يعلنون، حياة كاملة متاحة بين يدينا، بتكثيف شديد، جميل ولا يخل بتوصيل الرسالة.

دون هذه الإيضاحات لرواية الهجير جنة رياح لسماح العيسى ستكون حكاية الرواية عادية جداً، مثلها مثل كل حكايا أهلنا في حوران، وبلداتها المتناثرة فيها، عبر قرن من الزمان، لكن أسلوب الكاتبة جعلها نابضة بالحياة، جاذبة للمتابعة، صميمية في الخوض بما في النفس وما في المجتمع، والانخراط بالثورة بعد ذلك، بتعابير قليلة لشباب انتمى لإنسانيته وقام بدوره في ثورة آمن بها، دون الدخول في حبائل السياسة، أو تداعيات استثمار ظلم الشعب السوري، من قبل أطراف دولية وإقليمية، إنهم ينظرون إلى الحال بمنطق إحساس المظلوم المقهور بشكل جمعي وحق الثورة حق انساني، هكذا فهموا وهكذا مارسوا، استشهد الكثير واعتقل الكثير وتشرد الملايين، ومازالت القضية السورية عار يجلل العالم، ومازالت دماء الشعب السوري تصرخ مطالبة بالعدالة.

تبدأ الرواية على لسان أفق الراوية المستقرة في هولندا وذلك في عام 2020م، هاربة بروحها ومعها “العبد” أخوها المقعد إثر إصابة في خدمته العسكرية، أما أخوها الآخر ثائر، هو أحد شباب الثورة شارك في المظاهرات السلمية ومن بعد ذلك اعتقل ولم يعرفوا عنه أي شيء، أما قريبها خليل فقد كان مصراً على دور إعلامي توثيقي مستخدماً كاميرته متابعاً الحدث أول بأول، لم يكن مقتنعاً بالعنف الذي قام به الثوار لمواجهة النظام، لم يكن النظام منتظراً عنف الثوار مبرراً ليفعل بالشعب السوري ما فعل، واستشهد أثناء تغطية فعاليات الثورة وأصيب من سلاح النظام الذي وجهه إلى صدور المتظاهرين السلميين، النظام الذي فتك بالشجر والحجر والبشر، وجعل سوريا خراباً.

أفق في هولندا تحاول التكيف والعيش في “الكمب”، حيث المجمع السكني الذي وضعوها فيه مع آخرين بشكل مؤقت حتى يدرسوا ملفات لجوئهم، لقد قبلوا لجوءها وبدأت تأخذ دورات لغة حتى يعاد دمجها في الحياة الاجتماعية والعملية في هولندا، لكن أفق لم تكن لتعيش مقطوعة التواصل مع ذاكرتها وذاتها وما حصل في سوريا ومعهم هم حتى لحظة وصولها إلى هولندا.

تعود أفق إلى جذورها البعيدة في بدايات القرن العشرين، حيث جاء مؤسس عائلتها الملقب الغريب من بلدة الحرة، حاملاً عائلته زوجته وأمه على عربة صنعها من سعف النخل، متوجهاً إلى بلدة غزالة في حوران، حيث تم قبوله وعائلته داخل البنية المجتمعية للبلدة، وبدأ ينشئ لنفسه حياة جديدة، في البلدة ولد له ولده الأول علي، ستكون سوريا قد خرجت من حكم العثمانيين قبل سنوات إثر الحرب العالمية الأولى، وستكون سوريا من نصيب المستعمر الفرنسي، سيجتمع كثير من شباب ورجال غزالة للمشاركة في بدايات الثورة التي ستقوم ضد المستعمر الفرنسي، يشارك بها أحد أولاد جدها الغريب المؤسس للعائلة ويستشهد.

تمر السنين، سيكبر صغار العائلة علي وفارس الذي سيستشهد في مواجهة الفرنسيين أيام هجومهم على درعا أول احتلالهم لسوريا، يرسل الغريب ابنه فارس إلى الشام للتعلم ليعود حاملاً القدرة على تحسين حياة العائلة في غزالة، يعود فارس بعد سنوات لكن معه زوجة، لم تكن لترضى عنها الجدة صبحة، المرأة القوية الحاكمة في عائلتها، لقد تزوج من خارج بيئتها، وحتى خارج دينها، تسميها “اليهودية”، من باب التشهير والوصم، ستنجب طفلة أسموها جفرا، كما يتزوج علي وتلد زوجته ابنه خطّار ولكن بولادة عسيرة وسيكون معاقاً بصعوبة التحدث بحيث وصمه بعضهم بأنه أخرس، وزاد على ذلك أنه عندما كبر انتقل لحياة أقرب للتوحد بذاته، يعيش منعزلاً متنقلاً في أركان البلدة وجوارها، لا يتفاعل مع الناس، بعضهم اعتبره مبروكاً، أضيف ذلك لخرسه، تتوفى زوجة فارس تاركة طفلتين وردة وجفرا مع خطار بن علي الذي توفي أيضاً، وتنتقل رعايتهم جميعا لجدتهم صبحة.

تمر السنين على أبناء الغريب وأحفاده، ويكبر الأولاد خطّار الذي كبر مسكوناً بهاجس وحلم وكأنه مبعوث ليقوم بدور ورسالة، بحث كثيراً لكنه لم يلتق بما يسكنه ويحلم به، وتكبر جفرا ابنة عمه، تزوجهم الجدة، عند نضجهم، كانت جفرا حلم خطار وحبه الصامت منذ طفولته، لكن جفرا لم تكن ترى خطار مناسباً لها وأنها ظلمت بهذا الزواج، ولذلك تقبلت أن يحبها ويتحرش بها جواد أحد أبناء البلدة، وأن تهرب معه بعد وقت تاركة خطار مفجوعاً ومسكوناً بحلم عودتها وغفرانه لها، تاركة طفلها إسماعيل تغادر مع حبيبها جواد إلى غير رجعة.

تتداعى الأحداث ويكبر الصغار وترسم الرواية معالم حياة كل من الأحفاد ذكوراً وإناثاً، وظل المعيش العام حاضر كل الوقت، حيث تنتقل الرواية إلى عام 2006م، حيث يتم الاجتياح الإسرائيلي للبنان إثر عمليات لحزب الله ضد الكيان الصهيوني، تشدق نصر الله بانتصاراته المزعومة، لكن واقع تشرد مئات آلاف اللبنانيين إلى عموم المدن السورية، ووصول بعضهم إلى غزالة والتكاتف المجتمعي معهم ومساعدتهم بكل الممكن، كان هو الحقيقة الصادمة، تبدو الإشارة رائعة إلى الدور الشعبي السوري عند تشرد اللبنانيين، وردة فعل أغلب اللبنانيين على لجوء السوريين إلى لبنان أيام الثورة عام 2011م وما بعد، وتبعات ذلك تنكيل حزب الله وأنصاره وكذلك الدولة اللبنانية الذي طال السوريين الهاربين من الموت المسلط عليهم من النظام المستبد المجرم، نصر الله وادعاءاته ودوره القذر الدموي في قتل السوريين وتشريدهم بالتعاون مع روسيا وإيران ضد الشعب السوري وثورته، لقد تبين أن ادعاء العداء للكيان الصهيوني مجرد ادعاء كاذب وأن حزب الله مجرد أداة قذرة بيد النظامين الإيراني والسوري المجرمين.

وتمر السنين يكون من أحفاد الغريب شباب وصبايا يشاركون في الثورة السورية عام 2011م، بعضهم يستشهد وبعضهم يعتقل وبعضهم يهرب إلى خارج الوطن الذي لم يعد يحتضن أبناءه.

الفتيات اللواتي تتلمذّن على يد مدرسات إسلاميات في إشارة للقبيسيات، والدور المجتمعي الديني والتوعوي، قبل أن يظهر أن المسؤولة عنهن مجرد أداة بيد النظام المجرم، وكذلك أفق التي استشهد بعض أقربائها وحملت العبد ورحلت معه إلى هولندا حيث استقرت بجسدها، لكن روحها ما زالت تحوم مع الأسلاف ومع بلدة غزالة مهوى الروح والفؤاد، معيدة لنا تاريخاً عاشه أغلب السوريين بصورة مختلفة لكل منهم متميزاً روحاً وواقعاً.

تنتهي الرواية وأفق تحاول التأقلم مع خسارة وطن وخسارة جزء من الوجدان معه.

في التعقيب على الرواية أقول:

إننا أمام عمل روائي متميز جداً، مسكون بهاجس البشر الذين يعطون للأماكن والأحداث المعنى والجدوى والأهمية، البشر الذين عاشوا حياتهم بكل امتلاء وصنعوا من وجودهم منارات خلود متواضعة، سواء بحياتهم اليومية المتواضعة، حيث أحبوا وعملوا وأنتجوا وأنجبوا وثاروا واستشهدوا وحلموا بالنصر وان لم ينتصروا، هاجروا وأعادوا صناعة حياتهم لكنهم لم ييئسوا ولم يندموا لأنهم انتصروا لأجل إنسانيتهم يوماً.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني