قراءة في رواية “الروايات”
- المؤلفة: مها حسن
- الناشر: دار التنوير للطباعة والنشر
- ط1، ورقية، 2014م
مها حسن روائية سورية متميزة، لها الكثير من الروايات، قرأنا سابقا روايتها مترو حلب وكتبنا عنها، مستقرة في فرنسا، مواظبة على الكتابة الروائية.
الروايات، رواية مختلفة، فهي نسوية بامتياز، شاغلها الأساسي عالم المرأة من خلال تشعبه، ليطال ذاتها والمجتمع التي هي منه وفيه، ويطال العالم من منظورها. هي رواية السرد الذاتي، البوح، التفريغ، الشكوى، البحث عن الاعتبار الذاتي، هي كل ذلك في ذات الكاتبة، وفي ذوات كل النساء على تعددهم وفرادتهم. لا وقوف كثيرا عند الزمان او المكان او الجغرافيا او التاريخ او المعاش المجتمعي، الا بمقدار ما يعني لذات المرأة الساردة أو الروائية وبمقدار ما تهتم وما يعنيها. سنتعب لنعرف هل الحدث في بلد اوربي او عربي، او اي مدينة، ما هو الوضع العائلي أو الاجتماعي للنساء الجالسات على كراسي الحكي؟. وكأنه مقصود أن نرى ما أرادت الكاتبة أن نراه فقط؛ نساء البوح بحالتهم المختلفة.
تقسم الكاتبة روايتها الى ثلاث روايات، الرابط بينها انها تتعلق بنساء يتحدثن عما عشن، أو ما احببن ان يعشن، وبعض الشخصيات تستمر في الروايات الثلاث، اغلبهم بأسماء مختلفة، كما يتطلب مقام الكتابة عند الكاتبة التي، تتعب في سردها، وتتعبنا في تعقبها، لكنها تجعلنا أقرب لروح الرواية وروح بطلاتها المتميزات.
الرواية الأولى:
بطلة الرواية هي التي لا نعرف اسمها، التي سُميت أبدون بطلة إحدى الروايات، تعمل في إحدى الشركات في المستودع ترتب البضاعة، إنه عمل لتأمين لقمة العيش، لا علاقات لها، باستثناء صديقة وحيدة، عالمها الكامل تعيشه في قراءة الكتب وخاصة الروايات، لا تترك وقتاً فارغاً دون أن تستثمره لمزيد من القراءة والمعرفة، إضافة إلى أنها تعيش داخل نفسها عالمها الخاص الذي تنسج به الحكايا وتعيد صياغة الحياة تتذكر طفولتها وجدتها وحكاياها. بقيت على روتينها هذا إلى أن جاء إلى محل عملها، رجل وسيم أحست بالانجذاب له، لاحظ وجود كتاب معها، عرفه من غلافه، فتح معها حديثاً، كانت فرحة به، رجل حقيقي تتفاعل معه، هذا غير الرجال الذين تستدعيهم في مخيلتها حين تداعب نفسها للوصول إلى لذة عصيّة ومرغوبة، وحضوره طاغ وجذاب، يناقشها بما تحب وتعشق، إنها الكتب والرواية والسرد، يقترح عليها أن تتفرغ لثلاثة أشهر لكتابة رواية قالت إنها موجودة في ذهنها يكفيها الوقت لتتفرغ لصياغتها على الأوراق، اتفقا وقدم لها أجرة عملها لثلاثة أشهر مقدماً، واشترط عليها ألا يحصل بينهما تواصل جسدي جنسي. كان مطلبه منغصاً عليها متعتها بالتعرف عليه ورغبتها الجنسية به، قبلت بالكتابة لأنه أراد ولأنه بقربها، كتبت في وقت قصير وقياسي روايتها، وانتهت الرواية بحصول فعل جنسي بين بطلة الرواية وحبيبها، لقد انتقمت من مطلبه بأن ختمت روايتها بما رغبت به حقيقة. أخذ الرجل الذي أطلق عليه اسم ساباتو الرواية، أما هي فقد أمضت أشهرها التي تفرغت بها في راحة، ثم عادت إلى عملها، وروتينها السابق، والروايات بقيت تتناسل في ذهنها كل الوقت.
أما ساباتو فله حكاية مختلفة، رجل ثري ولديه أعماله، كان قد تزوج عن حب وبنى أسرة، لكن زوجته تركته إلى غيره. قلب ذلك حياته، فبدأ ينتقم من كل النساء بعلاقات مجون وجنس وشراب. لكن ذلك لم يرحه كل الوقت، رجع يبحث عن المعنى والحب في حياته، اقترحت عليه صديقة صاحبتنا أبدون الروائية أن يلتقي بها، وهي ستساعده على العلاج مما يعاني، وبالفعل التقى بابدون واتفق معها، وكتبت له الرواية. وعندها عاد إلى حياته العادية، محملاً بأوراق الرواية، حيث اطلع عليها صديق ناشر وتشجع لنشرها باسمه. الرواية نجحت بشكل كبير جداً. جعلته مشهوراً وثرياً من ريعها. الروائية أبدون عرفت بذلك، كانت سعيدة لأن روايتها قد اسعدت ذلك الرجل التي احبته. وكان يوم التوقيع على روايته، وقفت بالطابور، لتوقع على نسختها من الرواية، شاهدها وارتبك، باركت له، وهمست في أذنه، تعال إليّ عندما تريد رواية أخرى، لدي الكثير من الروايات.
تركته منتظرة عودته لها.
الرواية الثانية:
بطل الرواية الأولى يعاني من كونه أصبح مشهوراً وغنياً من وراء الرواية التي كتبتها الروائية، اعتبر نفسه ظالما لها، ومع ذلك تستمر الحياة.
تبدأ الرواية الثانية من أليس الفتاة ابنة الريف التي تتذكر صديقتها ابنة صاحب الأرض التي يعمل بها والدها، تأتي في كل عطلة اسبوعية او صيفية، تعلم صديقتها فريدا القراءة والكتابة، وتتحدثا وتصنعا الحكايا وتكملاها، تتصوران نفسيهما وقد كبرتا، وأجبتا وتسميان أولادهما، تتصور صديقتها أنها ملاحقة من أبيها الذي لا يريد لها أن تتعلم كما تحب هو يريد إرسالها إلى أمريكا لتتعلم كما يشاء، وهي ترفض وتحاول الانتحار بشنق نفسها أمام صديقتها. فريدا تتذكر صديقتها وتستحضرها دوما، وتكتب الحكايا وتسرد لها وتخبرها عن كل شيء. لكن صديقتها لم تمت، أنقذها والدها، وحرمها من صحبة صديقتها، سجنها في البيت لكونها رفضت مطلب والدها بالذهاب والتخصص في أمريكا. هي ايضا تعيد قص الحكايا لصديقتها التي افتقدتها، وهي في محبسها أيضاً تستحضرها كل الوقت. الاثنتان عاشتا حياتهما، بخلط عجيب بين حياة واقعية وحياة مع الأخرى متخيلة وضمن رواية تتبلور وتنمو كل يوم. عاشتا الحب ودخل الرجل لحياتهم. وروابطهما لم تنفصم أبداً.
الرواية الثالثة:
هي فريدا فتاة كانت تتهيأ من أجل الانتحار، لكنه لفت نظرها مقهى غريب عليها إنه مقهى شهرزاد، وهي في باريس. دخلت إليه، وجدت نفسها تدخل إلى عالم آخر كلياً ممتلئ بروح الشرق، فيه عيش على السجية وفيه بوح وراحة نفسية، تغيير بزي اللبس والتفاعل، والتعامل، فيه مشاريب تساعد على تفكيك الذات المأزومة وتعيد تركيب النفس المنفتحة المرتاحة، تستمع لموسيقا مختلفة تشارك برقص يحلق بالنفس عالياً. هي بالأصل فتاة من أسرة الأب فيها سكير ومقامر والأم منضبطة بشكل قاس جداً. ضاعت بين الأب والأم، مات الأب مبكراً، والأم هيمنت على حياتها وجعلتها أقرب للجحيم. ابتعدت عن أمها وفقدت معنى حياتها. كان مقهى شهرزاد بديلها، من خلاله أعادت ترتيب نفسها وأولوياتها، تعرفت على مجموعة من الناشطات النسويات، اللواتي يعملن من أجل السلام العالمي، خاصة في البلاد العربية، حيث الإنسان ضحية ظلم اجتماعي وسلطوي نتاج الاستبداد، تعرفت عن بعد على عليا الناشطة مثلها في كندا من أصول عربية، عليا وفريدا وجدتا بعلاقتهما ذواتهما وقررتا أن تعملان سوية لأجل أفكارهما المشتركة. وعندما بدأت الثورة في مصر مطلع عام 2011م، قررتا الذهاب إلى مصر بلد عليا صديقتها، ومتابعة حدث الثورة عيانياً. كانت معايشتهم للثورة المصرية والثوار تجربة إنسانية ونفسية واجتماعية رائعة، تشبعتا بروح شباب الثورة الذين تحدوا نظام الاستبداد المصري للرئيس مبارك الممتد لعقود، وكيف وصل الثوار لمرحلة أجبروه بها على الاستقالة، وراقب الثوار دولة الثورة الأولى لمرسي، وخافوا من تغول الإخوان، وسرعان ما انقلب العسكر على الثورة، وعاد الاستبداد إلى سيرته الأولى، والثوار يرفضون كل ذلك. عايشتا أليس وعليا صديقتها كل ذلك كان لهما أحباب وعلاقات وارتباطات. وتبين بعد حين أن أليس هي ابنة أبدون بطلة الرواية الأولى. وأن هاجس القص وكتابة الرواية بعضه إرث، وأن عيش هاجس السرد المستمر، موجود في كثير من النساء أن لم يكن بهنّ كلهنّ.
تنتهي الرواية بسيرة سرد مختصرة لفتاة هندية تعيش هاجس السرد والقص وصناعة الحكاية.
وكأن الكاتبة تريد القول ان السرد الروائي مكون فطري عند كل النساء في كل زمان ومكان.
في تحليل الرواية نقول:
إننا أمام رواية مختلفة ومتميزة، فهي تغوص كثيراً في الذات الجوانية النفسية لبطلاتها، متجاوزة كثيراً عن سرد واقعهن الحياتي بتفاصيله. لنقل إنها رواية وجودية في تحليل منعكس الحياة وما تريد ذوات البطلات في عقولهن وأنفسهن، وعدم تقديم صورة نمطية عن حياة عادية. هنا فرادة الرواية وغرابتها. التنوع داخلها كبير فنحن أمام روايات وليس رواية، لا حدث نتعقبه، بل أنفس نساء يحكين ذواتهن وما يتخيلن من حيوات موازية محكية كرواية. نركض خلفهنّ لعلنا نصل الى معنى ما، يراد لنا أن نعرفه. المرأة العالم المختلف والمتميز، الذي لا يعيش إلا في وسط يحضر به الرجل بصفته مكمل الحياة في العالم ومزينها.
في الرواية حشد الأحداث والتداعيات والاسماء، بحيث يتوه المتابع لقراءة العمل.
في الرواية أيضاً حضور للربيع العربي في مصر بالذات، وكأن الرواية تقول أن الذات الفاعلة والمنفعلة والخالقة لعالمها الخاص في المرأة، الباحثة عن الامتلاء الذاتي والمعنى تحقق بعض مطلبها في الربيع العربي حيث حصل انتصار لإنسانية الإنسان، وحقوقه بالحرية والكرامة والعدالة والتشاركية المجتمعية والسياسية والديمقراطية، وعبرت عن الحضور الطاغي للمرأة في حراك الثورة.
كنا ننتظر أن تطل مها حسن على واقع الثورة السورية التي حدثت في ذات الوقت للثورة المصرية وتالية لها. رغم كونها تحدثت عنها في مترو حلب كعمل روائي منفصل… إلخ.
أخيراً نحن أمام روائية سورية متمكنة ننتظر منها مزيداً من الإبداع والعطاء.