fbpx

قراءة في السيرة الذاتية “خمس دقائق.. وحسب”

0 286
  • الكاتبة: هبة دباغ
  • الناشر: أفق للدراسات والنشر- لندن
  • ط3، ورقية، 2018م

هبة دباغ: هي المرأة السورية التي توثق في سيرتها الذاتية خمس دقائق.. وحسب، تجربتها في الاعتقال في سجون النظام السوري المستبد، منذ 1980م حتى 1989م، وذلك على خلفية الأحداث التي حصلت في سورية في ذلك الوقت، حيث حصل حراك سياسي معارض للنظام من جميع القوى السياسية ومنهم الإخوان المسلمون؛ الذين تميزوا عن غيرهم بالعمل المسلح ضد النظام السوري.

تبدأ السيرة خمس دقائق.. وحسب، من سرد هبة دباغ لأحوال مواجهة النظام والإخوان المسلمين في نهاية 1979م وبداية 1980م، وأنها من عائلة حموية، أسرتها كبيرة، وهي تدرس الشريعة في دمشق.

لاحظت مع زميلاتها في السكن الذي تعيش به في دمشق، متابعات ورصد أمني لها ولصديقاتها، اللواتي كان أغلبهم من مدينة حماه، التي كان حراك الإخوان المسلمين وصراعهم مع النظام حاضر أكثر من غيره في بقية المدن السورية. وسرعان ما تحول الرصد الأمني إلى اعتقال هبة وزميلاتها من المنزل الذي يقطنون فيه، وأخذهم إلى أحد الفروع الأمنية في مدينة دمشق، كانت المعاملة منذ اللحظة الأولى قاسية جداً، والتهمة الموجهة لهم الانتساب للإخوان المسلمين، حيث اعتبر ذلك وقتها جريمة، وأصبح المنتسب لهم بعد ذلك ضحية حكم إعدام مُسبق. تعرضت هبة وزميلاتها إلى التعذيب والتحقيق، للاعتراف بانتسابهم للإخوان المسلمين، إضافة لكون الأمن يطارد ويبحث عن أحد إخوة هبة، متهم أنه من الإخوان ومطلوب للمخابرات، وطلب منها أن تقدم معلومات حوله وكيف يتم الوصول له واعتقاله، كما اعتقلت أمها ووالدها في البداية.

تسرد هبة كيف كان التعذيب قاسياً والتحقيق معها لتعترف أنها من الإخوان المسلمين، وهي ليست منهم، وأنها لا تملك أي معلومات عن اخوتها المطلوبين أمنيا، لكن ذلك لم يكن ليقنع الأمن، الذي استمر يحتجزها لأشهر طويلة ويكرر طوال الوقت التحقيق معها وتعذيبها لتعترف وتقدم لهم معلومات يستفيدون منها.

استطاعت أن تتواصل مع أمها التي سيطلق سراحها وسراح أبيها بعد ذلك، وستبقى بالمعتقل، على أنها رهينة ليسلم أحد إخوتها المطلوبين نفسه للأمن، وهذا الأخ يقال إنه قد توارى وهرب إلى الأردن. تتحدث هبة عن واقع اعتقالها ومن مر عليها من نساء كثيرات يعشن وضعاً مشابهاً لوضعها. فقد كان النظام السوري قد اتخذ قراراً باستئصال جماعة الإخوان المسلمين، وبدأ بحملة اعتقالات واسعة في كل القطر لكل من يمت بصلة لهم بمن فيهم عائلاتهم، الأمهات وأحياناً مع اطفالهن والأخوات والزوجات، لقد امتلأت الفروع الأمنية بالنساء على خلفية ملاحقة الإخوان المسلمين. بقيت هبة في أحد الفروع الامنية لعدة أشهر، ثم نقلت إلى سجن كفرسوسة الذي يعتبر سجناً مع معتقل، كانت المعاملة فيه قاسية جداً، ولم تتوقف فيه جولات التحقيق معها ومع غيرها. التقت فيه بكثير من النساء مثلها، وعلمت بحدة الهجمة من النظام وقسوتها على جماعة الإخوان. كانت المعاملة القاسية لهن في سجن كفرسوسة، مبرراً لهم لإعلان إضرابهم عن الطعام، الذي كاد يودي بحياة بعضهن، ونجحن أخيراً بعد سنة تقريباً من فرض نقلهم إلى سجن قطنا المدني للنساء، كان من آثار النقل التغير في المعاملة نحو الأفضل نسبياً، حيث أصبح حالهم أقرب للاحتجاز منه للاعتقال. لكن لم تنته الإساءة وذلك حسب الضباط والعناصر، بعضهم حاقد وبشكل طائفي، وبعضهم متعاطف معهن، ولكن سراً، وبعضهم قدم بعض المساعدة البسيطة التي أسعدت هبة ورفيقاتها، على تواضعها، حيث كانت عندهن ذات أهمية كبيرة. حيث حصل ذلك في المعتقل والسجن وحتى خروجهن. تحدثت هبة باستفاضة عن ظروف الحياة وقسوتها أيام الاعتقال؛ الطعام السيء، والاعتقال في منفردات أو جماعيات تحت الارض، لا تمتلك أي من شروط تلبية حقوق الحاجات الانسانية الأولية، المراحيض السيئة، صعوبة الاستحمام، التحرش الجنسي أحياناً من بعض الضباط والعناصر.

كانت هبة تملأ وقتها بتتبع أحوال الأعداد الكبيرة من النساء القادمات الى المعتقل او سجن قطنا بعد ذلك، كانوا من كل أنحاء سورية، وأغلبهن من حماة وحلب، علمت عن الاعتقالات العشوائية وعن القتل دون رحمة، وكان أقسى ما عاشته عندما علمت بهجوم النظام على حماة، والمجازر التي حصلت، وقتل كل ما بقي من عائلتها هناك. علمت عن سوق الكثير من الشباب إلى سجن تدمر ومن ثم قتلهم وإعدامهم.

استمرت هبة في سجن قطنا لمدة أربع سنوات حتى عام 1984م، كان تواجدهنّ داخل السجن في غرف خاصة بهن، وكان هناك غرف للسجينات القضائيات، كان ممنوع التواصل بينهن، لكنهن كن يتواصلن عن بعد، كانت غرفهنّ تمتلئ زيادة عن قدرتها على الاستيعاب، انتشرت الأمراض الجسدية والنفسية، عشْن متزاحمات أغلب الأحيان، متحملات ظروف البرد القارس أو الحر الشديد حسب الفصول. لم يكن يمر وقت دون مجيء معتقلات جديدات، أغلبهن أمهات أو زوجات أو أخوات معتقلين أو متوارين ومطلوبين من النظام، كما حضر بينهم نساء ينتمين إلى أحزاب يسارية شيوعية، بدأت حملة اعتقالات لهن، لمعارضتهم للنظام، بعضهن علويات أو مسيحيات، بعضهن كن متعاطفات مع هبة ورفيقاتها، وبعضهن كن عدوانيات معهن، لاعتبارات عقائدية، بكونهم محسوبات على الإخوان المسلمين.

كان النظام يدس بعض النساء المخابرات كجواسيس بينهن على أنهن سياسيات، ليحصلنّ من خلالهنّ على معلومات لصالح النظام، لكن سرعان ما يُعرفن، ويسحبهن النظام من الاعتقال مجددا. كانت معاملة النظام للنساء المحسوبات على الاخوان هي الأسوأ، الأخريات زيارتهم أسهل وحصولهن على حاجاتهنّ بصورة أفضل.

كانت المعاملة القاسية والمزاجية تجعل حياة هبة ورفيقاتها أقرب لجحيم مستمر، لكن هبة وزميلاتها كن يعتمدن الصبر وتلاوة القرآن وحفظه مع الحديث وتكرار الأوراد الدينية والحديث المتبادل بينهن يؤدي لتفريغ الأحزان وتحمل حياة الجحيم التي يعيشونها.

سمح لهبة وزميلاتها ببعض الزيارات العائلية، حيث زارتها عمتها وخالتها وأخوها وزوجته وبعض أقاربها، وكان أغلب من يزورها ممن اخترقوا أمنياً ويعملن مُخبرات عند النظام، حيث كانوا يطالبنها ببعض المعلومات، وكان ذلك مريباً لها، ومن جملة ما قدم لها كحل لوضعها ويتم الإفراج عنها، أن تتزوج ابن خالتها، ولأجل ذلك عليها أن ترسل برسالة لأخيها المطلوب تستأذنه بالخطبة والزواج، كل ذلك ضمن خطة لتوقع به ويعتقل، لكنها اكتشفت الفخ، وأخبرتهم أنها تنتظر أن تخرج من المعتقل أولاً، ثم تقرر من تتزوج.

عاشت هبة علاقات حميمية مع أغلب زميلاتها بما فيها قط ربوه بينهم وأصبح أنيساً لهم.

دام حبس هبة ورفيقاتها في قطنا أربع سنوات حتى عام 1984م، ثم نُقلن إلى سجن دوما المدني الذي كان أفضل قليلاً واستمرت به حتى عام 1989م حيث أفرج عنها.

كانت هبة تعيش إحساساً باليأس من الإفراج عنها، وكانت تفكر أنها قد تساق إلى الإعدام في أي وقت، وخاصة عندما أخرجت ورفيقاتها من سجن قطنا إلى سجن دوما، اعتقاداً منهن أنهن سيؤخذنّ إلى حقل الرمي على الطريق حيث يُعدمن، لكن ذلك لم يحصل.

في سجن دوما عادت حياتهم إلى روتينها السابق، مجيء معتقلات جديدات وخروج بعض المعتقلات القديمات، حيث لم يبد لهبة وبعض رفيقاتها أي أمل في الإفراج عنهن، ومن سوء حظها، أنها أعيدت لأشهر عدة إلى معتقلات الأمن بناء على وشاية مخبرة بأنها تملك معلومات، ويجب أن تقدمها للأمن. عادت هبة في تلك الفترة إلى معاناتها الشديدة، من الاعتقال تحت الأرض في منفردة، التقت بالمعتقل مع رياض الترك الزعيم الشيوعي الذي اعتقل لحوالي عشرين عاماً، كانت زنزانته بجوار زنزانتها، وكان لديه بعض الميزات مثل الراديو وفتح الزنزانة وحصوله على بعض الحاجات بما فيها صنع الطعام الخاص به، كان يقدم لها بعضه أحياناً. كانت تتعرض للتحرش الجنسي والإساءة، من بعض العناصر، وكل ذلك لدفعها إلى تقديم معلومات لا تملكها أصلاً.

أعيدت هبة للسجن في دوما مع رفيقاتها بعد ذلك، واستمر الوضع على حاله، حتى بدأ الحديث عن إفراجات للنساء وضعهم مثلها، خرج الكثير قبلها، وكانت هي مع بعض رفيقاتها من أواخر من أفرج عنهم، حصل ذلك بعد أن مررن بوعود كثيرة كاذبة، وبعد أن أعدن إلى المعتقل أكثر من مرة، وعرضن على لجان أمنية، وافقت على الإفراج عن بعضهم وترك بعضهن معتقلات، وكن يعشن على أعصابهن، اليوم إفراج، لا بل غداً، ثم يؤجل إلى وقت آخر. وأخيراً تم الإفراج عن هبة مع حوالي عشر نساء نصفهم من حماة والنصف الآخر من حلب، وأخذن مكبلات إلى حماة ومن ثم حلب، سلمت هبة مع النساء الحمويات إلى فرع الأمن في حماة، ودعي أقارب كل منهن لاستلام هؤلاء النساء، أما هبة فلم تجد من يستلمها، فقبلت أن يستلمها والد رفيقتها ماجدة، واتصلوا بعد ذلك بعمها الذي أخذها إلى بيته.

عادت هبة إلى حماة بعد تسعة سنوات لتجد أن بيتهم والحي الذي كانوا يسكنونه مهدم كله وسوي بالأرض. هنا كان بيتها، وهنا قتل من تبقى من أهلها مع الآلاف من أهل حماة في عام 1980م وما بعد.

تحررت هبة لكنها بقيت ممتلئة بمرارة تجربتها وما عاشته من ظلم وقهر وتعذيب وفقدان الكرامة والحقوق الإنسانية.

في تحليل السيرة الذاتية لهبة الدباغ نقول:

تنتمي السيرة الذاتية لهبة الدباغ إلى ما يسمى أدب السجون الذي أصبح له حضور كبير في العالم العربي منذ عقود، لما للقمع والاعتقال والسجن من حضور في حياة إنساننا العربي في دول القمع العربي قاطبة. كان ذلك منذ رواية شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف، إلى القوقعة لمصطفى خليفة، إلى يسمعون حسيسها أيمن العتوم، وليس آخرها تجربة الاعتقال التي عاشها وائل الزهراوي في روايته لهذا أخفينا الموتى، التي أظهرت الوحشية في تصرف النظام المجرم السوري مع المعتقلين من الثائرين عليه في الربيع السوري، فوق ما يتصوره العقل، وكذلك عشرات التجارب والتوثيقات. كل ذلك مهم لفضح القمع العربي بدءاً من السجّان إلى نظم الحكم الاستبدادية ومسؤوليها، منتظرين محاسبتهم ولو بعد حين. ومهم أيضاً هذا التوثيق ليبقى حاضراً في ذاكرة ووجدان الإنسان العربي الذي يتوق للحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية والحياة الأفضل، ومستمراً لتحقيق ذلك.

لم تتحدث هبة الدباغ عن الواقع السياسي لسورية أيام اعتقلت، عن سورية التي حولها حافظ الأسد منذ 1970م لدولة له ولعائلته ولبعض من طائفته العلوية ولجيش من الانتهازيين والمستغلين للشعب السوري من كل الفئات، حيث استخدم الجيش والأمن ليكونوا أدوات قمع وتسلط واستغلال واستبداد داخلي، وأدوات استغلال إقليمي ودولي وعلاقات مصالح خارجية. جعلت الشعب السوري وقواه المعارضة من كل الأطياف يفكر منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي أن يسقط نظام الاستبداد، وكيف اعتمد الإخوان المسلمين أسلوب العنف المسلح، وكذلك الخطاب الطائفي السني مقابل العلوي، ما أعطى حافظ الأسد ونظامه المستبد المجرم المبرر لاعتقال كل الفعاليات السياسية السورية المعارضة تقريباً، ويبطش بالإخوان المسلمين وحاضنتهم الاجتماعية، التي وصلت إلى مجازر في حماة وحلب وجسر الشغور وغيرها، راح ضحيتها عشرات الآلاف من الناس الأبرياء من الشعب السوري، بحيث حول سورية لعقود طويلة إلى جمهورية الصمت والرعب. في هذه الأجواء السورية عاشت هبة الدباغ تجربة اعتقالها ومعاناتها.

أخيراً ها نحن في الربيع السوري بعد عقدين من الزمن تقريباً على خروج هبة الدباغ من الاعتقال، يعود الشعب السوري في ثورته بدء ربيع 2011 إلى الآن مطالبا بذات أهداف حراكه السابق، إسقاط نظام الاستغلال والاستبداد والفئوية والطائفية في سورية، وبناء دولة الحقوق والديمقراطية، وكيف واجه النظام ذاته عبر الوريث بشار الأسد الشعب السوري بأسوأ أنواع العنف والقتل والتدمير في سورية. مئات آلاف من الشهداء ومثلهم مصابين ومعاقين، ملايين من المشردين داخل وخارج سورية. مدن بكاملها مدمرة، احتلالات تطال سورية من روسيا وإيران وامريكا والمرتزقة الطائفيين وغيرهم. لقد تحولت سوريا إلى جحيم لمن تبقى يعيش بها، وحلم بالعودة الى وطن حر كريم عادل ديمقراطي لمن هرب من ذلك الجحيم.

ما زالت ظروف مأساة هبة الباغ حاضرة في سورية. وما زال مطلب إسقاط الاستبداد وبناء دولة الحقوق الديمقراطية في سورية المطلب الملح كل الوقت.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني