fbpx

قامة من قامات سورية والعرب ابن الرقة والفرات الوزير والكاتب والقاص والروائي الدكتور عبد السلام العجيلي (2-2)

0 137

إلى جانب الشعر كتب هذا الطالب المقامة. وقد ذكر في كتابه الوحيد من هذا الفن – وهو كتاب (المقامات) – أنه بدأ كتابة المقامة ألهيةً على مقاعد الدرس في تجهيز حلب، ولم يكن يعلم من فن المقامة إلا قليلاً. لكن الأمر راق له فعاد إليه حين صار طالباً جامعياً في دمشق. وقد كانت فاتحة ذلك (المقامة الطبية الأولى) التي نشرتها عام 1942 مجلة الصباح الدمشقية في عدد خاص أصدرته الرابطة الثقافية في المعهد الطبي العربي. وقد حملت المقامة توقيع (بديع الزمان) ونبضت كسواها من سائر مقامات العجيلي بالسخرية. وهي تبدأ بالبداية المعهودة في فن المقامة (حدثنا عبد السلام بن محب: قال:). وسوف يروي هذا المحدث المقامة الطبية الثانية والمقامة البرازيلية، بينما يروي (الأريب النجيب المحب بن حبيب) المقامة الحقوقية، ويروي (هيُّ بن بيّ) المقامة الصحفية، ويروي (الكسّاب الوهاب الدكتور والبة بن الحباب) المقامة القنصلية. أما مقامة (صديقي ثريا ذو الأنف) والمقامة البرلمانية والمقامة الباريسية فقد خرجت على السنن وجاءت بلا رواة. وقد تابع العجيلي في مقاماته سنن إنهاء المقامة و/أو تضمينها أبياتاً من نظمه. ومن ذلك ما ختم به المقامة الحقوقية (1942 أيضاً) التي تسخر من أساتذة معهد الحقوق (كلية الحقوق):

أخنى الزمان على أهلي وأرهاطي… ولفّهم دهريَ القاسي بأقماطِ

واستبدل الناس منهم كلَّ طاغيةٍ… وكلَّ علج لهم أسماء قرباط

يا طالب العلم منه أنت في شططٍ… ذا العلم كذب وأغلاط بأغلاط

وفي المقامة الطبية الثانية (1943) يحدثنا عبد السلام بن محب عن غفوته وهو يحتضن عظماً، ويحلم بالموت والحساب ودخول الجنة ولقائه بفاتنة، ويقول: “وبينما كنت أنهل من رضابها وأغبُّ، غريقاً في لجة الوجد والهوى، إذ سقط الكتاب من حجري وهوى، فانتبهت من حلمي مرعوباً، فوجدتني محتضناً من العظم ظنبوباً، وقد أهويت على قنزعته بفمي، حتى سال من شفتي دمي، فرفست عندها العظام بعيداً، وصغت حسراتي قصيداً”

في السنة التالية (1944) كتب العجيلي المقامة البرازيلية – نسبة إلى مقهى البرازيل الذي كان مهوى المثقفين والساسة والصحفيين – ساخراً من أدعياء الثقافة والأدب. وقد ضمّن الكاتب كتابه (المقامات)، المقامة النهدية التي أرسلها نزار قباني من أنقرة – حيث كان يعمل في السفارة السورية – إلى العجيلي الذي ردّ بالمقامة القنصلية (1949)، وفيها يسمي نزار قباني (صريع الغواني أبي النهد الأشقراني)، ومنها ما ينظمه العجيلي على لسان قباني معرّضاً بديوانه الأول (قالت لي السمراء):

قالت لي السمراء إنك باردُ فأجبتها بل أنت مني أبردُ

ترمين بالنعل العتيقة عاشقاً يروي حكايات الغرام وينشدُ

وقد جاءت المقامة الباريسية (1952) في هيئة رسالة أيضاً أرسلها العجيلي من الرقة إلى صحبه في باريس، ومنهم عبد الرحمن بدوي ويونس بحري وأديب مروة… وبهذه المقامة ودّع العجيلي هذا اللون / الألهية من الكتابة، دون أن يتخلى عن السخرية والإخوانيات.

على نحوٍ مماثل لهذه التجربة المبكرة في المقامة؛ والشعر، جاءت تجربة العجيلي في الكتابة المسرحية، ومنها ما أورده ابراهيم الجرادي الذي حرر كتاب (دراسات في أدب عبد السلام العجيلي – مجموعة من المؤلفين – 1984). حيث ذكر المحرر أن العجيلي كتب لفرقة الفنون الشعبية في الرقة عدداً من الأعمال، مغفلاً اسمه – كالعادة – ومنها (برج عليا) و(صيد الحباري). وفي هذا الكتاب يذكر وليد إخلاصي أن شهود عيان رووا له أن العجيلي كتب أعمالاً كوميدية لمسارح الهواة في الرقة. ومما يؤكد أن شأن العجيلي مع المسرح شبيه بشأنه مع الشعر، من حيث المحاولة فيه في بداياته، ثم العكوف عنه، هو أن مجلة (الحديث) الحلبية المرموقة نشرت عام 1937 مسرحية (أبو العلاء المعري) في ست عشرة صفحة، وقد حملت هذه المسرحية التي فازت بمسابقة المجلة، توقيع (المقنع)، أي عبد السلام العجيلي، طالب البكالوريا. وتتألف المسرحية من فصلين لكل منهما مناظر، ويدور الحوار فيها بين أبي العلاء المعري وأبو هدرش الشخصية الخرافية القادمة من (رسالة الغفران)، والذي يمثل ضمير أبي العلاء ونقيضه في الفترة التي حاصر فيها أمير حلب صالح بن مرداس مدينة المعرة، وتهددها بالخراب، فنادى أهلوها أبا العلاء ليشفع لهم لدى الطاغية، فنشب الصراع في دخيلة الشاعر بين ذلك النداء وبين ما عاهد نفسه عليه من الاعتزال.

هكذا يبدو أن شخصية العجيلي كانت تمور في فتوته وشبابه موراناً، فتراه يكتب الشعر والمقامة والمسرحية التي ستترك أثراً في حوار ومشهديات بعض قصصه وحكاياته ورواياته. لكن الشعر والمسرح سيوليان من كتابته مثل المقامة، مع عهد الشباب، لتصير الصدارة إلى ما كان يمور في ذلك العهد أيضاً من كتابة القصة، وهذا ما سيظل يمور في حياة العجيلي.

أول ما يلفت في القصة العجيلية في المجموعة الأولى (بنت الساحرة)، هو القصة العلمية الطبية، إذ لم تخرج عن هذا التصنيف سوى القصة التي حملت المجموعة عنوانها، ومضت – كما يؤشر العنوان – إلى عالم آخر هو عالم السحر الذي تنهض به ساحرة غجرية كما سينهض ساحر غجري بالسحر في قصة (العراف) وفي قصة (الظهيرة).. أما قصص (بنت الساحرة) العشر الأخرى فتتأثث بالأمراض والأدوية والأطباء والمرضى، ومنها قصته (قطرات دم) التي فازت في مسابقة مجلة الصباح كما ذكرنا، وكان عنوانها (حفنة من دماء). فالطبيب الداخلي في مستشفى المعهد الطبي، في هذه القصة، كان يعتقد أن دفاتره وكتبه قد حوت حقائق الوجود، وأن القول الفصل هو ل- “شبا أقلام فطاحل من العلماء”. لكن هذا الاعتقاد سيتزعزع منذ استقبل جريحة، وعالجها وتبرع لها من دمه، وأقنعها بمزاحه بأن الدم الذي نقله إليها من عروقه سيحدث تغييراً قوياً لأنه دم نبيل عريق لم يتهجن. وقد صدقت الجريحة مزحته، فعاهدته على أن تحافظ على نقاء دمه، وهي الجميلة التي حاول ذووها تزويجها من شيخ ثري، ففرت إلى الزواج من ضابط أجنبي من غير دينها. وبعد عام ونصف غادرها الزوج بلا أثر. ولم يلبث أن صادفها أخوها خارجة من السينما وسافرة، فانهال عليها طعناً حتى حسبها ماتت. لكن الطبيب أنقذ المرأة، والمرأة نأت عن حياتها المترفة، وأخذت مزحة الطبيب تنقلب جداً، فهمّ بمصارحتها: “هذا الدم الذي أثار هواجسها ليس إلا حفنة من ماء مزيج بآثار المعادن والدسم والزلال” وقد بلغ الأمر بالمرأة أن انتحرت أخيراً، مما حيّر المحققين. لكن السرّ تجلوه الرسالة التي كتبتها للطبيب: “لقد جاهدت طويلاً في صيانة وديعتك من الأذى”، ولكي ترتاح من جهادها وتكلله، انتحرت.

من عنوانات القصص الأخرى (الكمأة والكينين – الكأس والتخدير – انتقام محلول الكينا – حمّى – النوبة القاتلة…” يتبدى الأثر القوي المبكر للطب في القصة العجيلية، وهو ما سيعود في بعض ما تلا مجموعة (بنت الساحرة) من قصة أو رواية أو حكاية أو مقالة، حيث يرفد الكاتب اللغة القصصية بمفردات وعبارات علمية، يأخذها عليه نقاد بينما يراها آخرون إضافة وامتيازاً، مثلما سيأخذ نقاد على الكاتب انتصار هذا اللون من إبداعه للغيبي أو القدري أو الماورائيات على العلم والعقل والمنطق. أما الكاتب الذي يرى أن هذا اللون من إبداعه هو أهم ما كتبه، فيقول في حوار له مع صديقي إسماعيل (مجلة الموقف الأدبي، آب – أيلول 1973): “كنت شديد الالتزام لفكرة علمية معينة، أو إنها كانت فكرة ضد العلم إذ أردنا الدقة في التعبير. هذه الفكرة تقول بعجز العقل الإنساني، وعجز معطياته من العلوم السكولاستيكية، عن الإحاطة بمجاهيل النفس البشرية، فكان جهدي في قصصي تلك أن أبيّن ضعف العقل وسليلة العلم في إدراك خفايا النفس، أو أبين فشلهما أمام مشاكل الإنسان الروحية والميتافيزيكية”.

على أية حال، تؤكد هذه الفئة من قصص الكاتب أن خطابها الروحي القدري الغيبي… قد جعل التخييل فيها ينسج عرى أخرى بين الحلم والواقع، وبين الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، لتتعدد الألوان في القصة العجيلية. ففي قصة (سال الدم) من مجموعة (ساعة الملازم) نرى أهل القرية يذبحون ذبيحة كلما ركبّوا بكرة على الفرات لسحب مياهه إلى ريّ الأرض، ولم يخرج منهم على ذلك إلا الحاج صالح الذي جاء بمحرك بدل البكرة. لكن العامل أخفق في إدارة المحرك، حتى إذا عبث به حميد ابن الحاج صالح ووحيده، قتله المحرك، لكأنه استوفى الذبيحة – النذر – القربان قبل أن يدور.

وفي قصة (الخيل والنساء) التي عنونت مجموعة أخرى، يتجسد تعالق الإنسان والطبيعة فيما يلتبس بين وحدة الوجود وبين الخرافة أو المعتقد الشعبي أو المعجزة. ففي الفضاء البدوي الأثير لدى عبد السلام العجيلي تزفّ نجود بنت الساري إلى عثمان مع هدية أبيها: الفرس الكحلاء. وسرعان ما تقوم التجاذبات أو التناظرات، إن لم نقل: سرعان ما تعلن وحدة الوجود عن نفسها. فنجود تنجب، ومن تنجب يموت، والكحلاء تنجب، ومن تنجب يباع، حتى إذا سلم لنجود واحد (عز الدين)، لم يُبَعْ كرمى له مهر الكحلاء. لكن عز الدين يسقط يوم الطراد عن المهر ويموت، فَيُعَاقَبُ المهر بالإبعاد. وكما تمرض الأم تمرض الكحلاء، كلٌّ على وليدها.

للكثير من قصص العجيلي صلة عميقة بحياته، كأنها شطر من سيرته، وليست فقط من بنات خياله. تلك هي قصة (الحب والأبعاد) من مجموعة (ساعة الملازم) التي يرى راويتها بعين واحدة، فعينه الأخرى زجاجية، كما هو حال عبد السلام العجيلي. ولأن الأمر كذلك، ليس العالم بالنسبة للراوي ذا ثلاثة أبعاد، فالبعد الثالث (السماكة) لا يدركه إلا بعد جهد، لكنه يستعيض عنه بـ (العمق) الذي لا يدركه سليم العينين. وها هو يقول: “ليت لي أن أدخلك في عالمي كي ترى المرئيات والوجود بعيني، إذن لوجدت أنه من البساطة بمكان يمكن أن تحيا الصورة، فتنظر إليك وتبتسم”. ولقد رأى الراوي على جدار صورة فتاة هندية، فعايشها شهوراً ثم سافر طويلاً. وحين عاد قضى في مزرعة ابن عمه أياماً حيث رأى عاملة هندية مثل صاحبة الصورة، فعشقها، لكن الهندية ترحل إلى شرقها لتزف إلى ابن عمها، لاويةً عن العاشق الحضري وندائه إلى المدينة.

وتلك هي واحدة من بدائع ما كتب عبد السلام العجيلي من القصة القصيرة: إنها قصة (سالي) التي يرمح فيها الفضاء بين باريس وستوكهولم ومضرب العشيرة في البادية، فتُشرع بذلك الكوة على شاغل آخر من شواغل كتابة العجيلي، يتعنون بـ (الشرق والغرب). فالراوي (البطل) لقصة (سالي) شاب سوري وابن شيخ عشيرة بدوية، يدرس الحقوق في باريس ويستجم في استوكهولم، فيقيم لدى عجوز سيتبين أنها رافقت بعثة أثرية إلى حيث عشيرته، ويرى لديها كتاباً عن بلدته. وفي استوكهولم يلتقي مصادفة بسالي ويتبادلان الإعجاب: هي الحذرة الرصينة وهو الذي يتشهى وقتاً ماتعاً معها. لكن سالي تذكره بأخلاق أهل البادية وتطلب منه ألا يقرب سريرها، حين جمعهما فندق في مدينة أبسالا السويدية، فينصاع مكرهاً ويقرر مفارقة المرأة لاعناً الهوى العذري الذي سيجعله سخرية أقرانه في باريس. وحين يعود الرجل إلى أهله وقد أخفق في دراسته، يروي لأقرانه قصة سالي، فإذا بالخادم المسنّ دحام يدعي معرفتها، ويروي قصة امرأة قدمت في شبابها مع أبيها وخطيبها للتنقيب عن الآثار في البادية، وكان بينها وبين دحام هوى عذري على الرغم من حاجز اللغة. إنها عجوز استوكهولم التي أقام عندها بطل القصة، لكن دحام يعتقد أن سالي هي عينها تلك العجوز. وتوالي سالي مراسلة الراوي الذي يقنع والده بالموافقة على سفره إلى السويد، كي يحضر الوثائق المحفوظة لدى العجوز التي يتحدث عنها دحام، مما سيؤكد ملكية أسرته لمنطقة بئر الأكحل. وبالطبع، فما يضمره الراوي هو لقاء سالي. وبينما تتعذر عليه الوثائق المأمولة بسبب اختفاء العجوز، يعود بسالي زوجة له، لتنجز القصة إشارتها إلى لقاء الشرق والغرب. ولسوف تشغل هذه الإشارة قصة (رصيف العذراء السوداء) أيضاً.

مثل بطل رواية (سالي) هو عباس الطالب العراقي الفاشل المترف، بطل (رصيف العذراء السوداء). ولئن كانت القصتان تعريان الذكر الشرقي الطالب للعلم في الغرب، والمهجوس بالجنس، فالقصة الثانية تبدو كأنها تتبنى مقولة رينان الشهيرة: الشرق شرق والغرب غرب، ولا لقاء بينهما، على العكس من القصة الأولى. فها هي الشقراء ماريا لينا تخاطب عباس: “طريقانا مختلفتان يا عباس، بل لعلهما متعاكستان. أنت سرت من المعرفة نحو المحبة، وأنا بدأت من المحبة لأنتهي إلى المعرفة. في هاتين الطريقين المتعاكستين لا يمكن أن نلتقي إلا مرة واحدة.. ويبدو أننا التقينا تلك المرة. تقاطعت طريقانا مرة واحدة، والتقينا”. فماريا لينا ذات النزوع التصوفي المسيحي، والتي تتأثر بالتعبيرية الحسية للرقص الشرقي، تقبل ممارسة الجنس مع عباس ثم تختفي شهوراً، يندم خلالها ويبحث عن المرأة التي صار عاشقاً لها ومتقبلاً لفكرتها (الله محبة). لكن المرأة يصدمها تبدل عباس حين تعود، وترفض حبه.

لقد استأثر الفضاء البدوي بالكثير من قصص العجيلي. كما في قصص (الطراد – مصرع محمد بن أحمد الحنطي – النفق – على فم البئر – الجدب والطوفان..). وتنبغي الإشارة هنا بخاصة إلى قصة (النهر سلطان) من مجموعة (الخائن). التي رسمت بعمق الصراع بين الإنسان والطبيعة عبر علاقة العجوز مبروك مع النهر الذي اختطف ابنه منذ ثلاثين سنة، فقيّض للوالد المفجوع أخيراً أن يعمل حارساً للفرقة الهندسية التي تقوم بالدراسات الهندسية الماهدة لبناء سد الفرات، أي تلامح للعجوز أخيراً الأمل بالقصاص من النهر.

في مثل هذه القصص ينبض (الإنساني) بحرارة مثلما تنبض المحلية أو البيئية، ومثلما ينبض فضاء الآخر الغربي في قصص أخرى، سواء اشتبك هذا الفضاء بالفضاء البدوي أو الحضري العربي الإسلامي. ومهما يكن ما تنبض به قصص العجيلي نوعاً ودرجة، فقد تلونت جمالياتها حتى قرنها النقاد مرة إلى إدجار ألان بو، ومرة إلى ستندال، ومرة إلى بلزاك، ومرة إلى تشيخوف، ومرة إلى التراث السردي العربي. وهنا ينبغي التنويه بلعبة تفريع القصة وتفتيق السرد – وهو ما ينعت أحياناً بالاستطراد الجاحظي – في بعض قصص العجيلي، مثل (بنادق لواء الجليل) و(القفاز) و(الجدب والطوفان). وبالطبع، لا يعدم الإنجاز القصصي للعجيلي العورات، كاعتماد المصادفة أو إبهاظ القصة بالتعليقات، (قصة الحب والنفس: مثلاً) التي تجمع المصادفة بطلها في إيطاليا بألمانية، فيعشقها وتعشقه، وتنهض إزاء قصة حبهما قصة آمور وبسيثه لتبدأ تعليقات البطل على فن رودان وآراؤه في النحت والفن، بإبهاظ القصة. وإلى ذلك تنتأ النكتة والطرافة في بعض القصص (قصة هارب من الموت: مثلاً) أو ينتأ البناء المنطقي المحكم في قصص أخرى، ومثله الخطاب الأيديولوجي سواء ما تعنون منه بالسياسي أو ما تعنون بالقدري والغيبي. إلا أن كل ذلك لا ينال من الصرح الفني الذي شيده عبد السلام العجيلي قاصاً.

وكما تنسرب الحكاية إلى ما كتب العجيلي من القصة، وتتلبس بها، هو الأمر أيضاً فيما كتب من أدب الرحلات ومن المقالة. والأمر هو كذلك فيما كتب العجيلي من الرواية. ولعل جماع ذلك يؤكد للعجيلي لقب الحكواتي إضافة إلى ألقاب (الروائي) و(القاص) و(المحاضر) و(الرحالة) و(المثقف)، دون أن ننسى لقبي (الطبيب) و(السياسي).

لقد نافت كتب المقالة في إنتاج العجيلي – متلبسة بما ذكرت – على اثني عشر كتاباً. لكن امتياز وإنجاز الحكواتي يتبدى فيما كتب العجيلي من أدب الرحلات. ولعل هذه السطور من رسالته إلى أحمد الجندي أن تجلو أسّ ذلك: “إن أقوى الرحلات التي رحلتها أثراً في نفسي رحلة لم أقصّ أمرها عليك من قبل. كانت تلك الرحلة في زمن لم أكن قد تجاوزت السادسة من العمر فيه. وكان الفصل ربيعاً، وأعمامي في تلك الأيام ينزلون البادية في بيوت من الشعر في كل ربيع. ففي ذات يوم رحلنا أنا وَلِدَاتي من أبناء أعمامي من البلدة إلى حيث ينزل أهلنا، ومطايانا لا سيارة ولا طيارة، بل أرجلنا وبعض الحمير”.

استوحى العجيلي من قصيدة لبودلير عنوان كتابه (دعوة إلى السفر). ومن حكايات هذا الكتاب حسبي الإشارة إلى هاتين الحكايتين اللتين تتصلان بما تقدم من قصص اللقاء بالآخر (الغرب) في موطنه. أما الحكاية الأولى فهي (فتاة من زوريخ) التي يشتبه فيها حب عبد الكريم بالشفقة بعد ما اكتشف أن المحبوبة مارغوت مشلولة اليد. والحكاية الثانية تخاطب قصة (رصيف العذراء السوداء) عبر شخصية مارياس الصحفية الشاعرة ذات النزعة الصوفية، والتي كانت صديقة الوزراء ورجال الفكر وقطاع الطرق والمقاومين اليوغسلاف، قبل أن تجمعها الصداقة والمصادفة مع الراوي.

قبل ذلك كان العجيلي قد جاء بكتابه (حكايات من الرحلات) ومنه حكاية (ليل باريس) التي تصف الاحتفال بمرور ألفي عام على بناء مدينة لوتسيا (باريس القديمة). وفي باريس أيضاً تأتي حكاية الراوي مع طلبة عرب في ساحة السوربون، حيث يلتقي طالبة عربية متزمتة مع زميلتها الفرنسية المتحررة، ويسهر الثلاثة في ملهى شرقي يصخب فيه أثر الراقصة العربية على الفرنسيات. وفي باريس – ثالثة – تأتي في هيئة المشهد المسرحي (فرنسا وحمد) حكاية الراوي مع صديقه الفرنسي الدكتور كارل الذي يتبنى سياسة بلاده الاستعمارية في تونس. ومن الملحوظ أن الهاجس القومي/السياسي يحضر في حكايات شتى كهذه الحكاية، وكما في حكاية (ذات الشعر الأحمر) حيث ترتدي صديقة الراوي الأمريكية (الزي الوجودي)، وهي الفقيرة الجائعة التي تكتب الشعر. ويلاحظ الراوي في هذه الحكاية أن الدولار هو الشيء الأمريكي الوحيد ذو القيمة، والباقي تافه تفاهة الرؤوس الحاكمة في واشنطن.

إن هذا الحكواتي الذي أبدع في القصة القصيرة، سيمضي إلى الرواية. وأول ذلك كان – كما يروي – حين ظل رياض طه صاحب مجلة الأحد اللبنانية يلح عليه حتى تعاقد معه على أن يكتب للمجلة رواية مسلسلة. وفي عودته من بيروت تدهورت سيارته فكتب عن ذلك الحلقة الأولى من الرواية الموعودة، ثم تتالت الحلقات، وكانت الرواية الأولى عام 1959 للكاتب (باسمة بين الدموع)، والتي تقدم المحامي الشاب سليمان عطا الله، المتطرف المثالي الاشتراكي الذي يحبذ ملكية الدولة لوسائل الإنتاج الكبرى، والذي لا يؤمن بالحب. وفي المستشفى بعدما أصابه تدهور السيارة بكسور، يحلم بفتاة تدوس ظهره الكسير، هي هيام شقيقة معشوقته باسمة. والرجل إذن عاشق للشقيقتين. وسوف يقدم الفصل الأول من الرواية قصة باسمة من زواجها إلى طلاقها، كما سيقدم جولة سياحية في دمشق القديمة، وقسطاً في السياسة والحزب سوف يتضخم في الفصول التالية، ومنها الفصل الخامس الذي يغطي ندوة لسليمان وصديقه الدكتور إلياس في جامعة دمشق، مما يثقل على الرواية مثلما تثقل عليها الميلودرامية وأصداء العلم والطب التي رأيناها في بعض قصص العجيلي.

بعد خمسة عشر عاماً من رواية (باسمة بين الدموع) جاءت رواية (قلوب على الأسلاك) لتجعل من مشروع التلفريك الذي تعتزم تنفيذه في دمشق (مؤسسة عمران الهندسة والإنشاء والتعمير) معادلاً فنياً لعملية تغيير البلاد وتحديثها، وهذا ما تغطيه ذكريات بطل الرواية طارق عمران عن الفترة التي قضاها في دمشق من أجل المشروع، إبّان الوحدة السورية.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني