fbpx

في منتصف الطريق بين موسكو وأنقرة.. سوتشي احتضنت قمة الحلول الوسط

0 257

من الصعب التكهن بما تم في هذا نوع من القمم، لكن إذا تم رصد للتاريخ والواقع الحالي من حيث ظروف وطبيعة الزمان والمكان والمصالح الدائمة والآنية وتبدلها المستمر، إضافة لبعد آخر يتكرر تاريخياً بوجود كاريزما شخصية يتمتع بها القادة تذلل الكثير من الصعاب.

كما كان يحدث في لقاءات تشرشل رئيس الوزراء البريطاني مع الرئيس الأمريكي روزفلت قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، فعندما يعجز الوزراء والخبراء والمدنيون والعسكريون عن التوصل لنقاط تفاهم مشتركة يصبح اللجوء إلى لقاء قمة بين الزعيمين هو الحل الوحيد لحلحلة العقد المستعصية.

حدثت تاريخياً كثيراً وتتكرر بلقاءات الرئيس التركي ونظيره الروسي، ويمكن إطلاق تسميات كثيرة على علاقتهما كالأعدقاء أو الأنداد الأصدقاء، حيث وعلى مر التاريخ كان الطابع الغالب على علاقات الإمبراطورية الروسية والخلافة العثمانية هو سمة الصراع والذي كثيراً ما تخللته حروب دامية وطويلة، لم تلتق يوماً (ويمكن ألا تلتقي) المصالح الحيوية لكلا الإمبراطوريتين، واللتان هما دولتان ولكن لكل واحدة مجال حيوي أو (إمبراطوري حديث) فروسيا دولة كبرى في محيطها لها مصالح جيوبوليتيكية هامة جداً وهي ورثت دولة عظمى وتحاول إضفاء العظمة على قوتها التي تعافت من آثار سقوط الاتحاد السوفييتي، في مواجهة قوة تركية صاعدة عسكرياً وأمنياً واقتصادياً تكون قائدة للعنصر القومي التركي بدوله المتعددة تقدم نفسها كقائدة بالنموذج. وتتشابك بل تتدافع المصالح الجيوسياسية بين الدولتين اعتباراً من شرق أوروبة وصولاً إلى آسيا الوسطى (القفقاس). وهذه المنطقة إضافة لأهميتها الكبرى للبلدين فإنها تضم حسب تقديرات الخبراء 40% من المواد الخام الأولية التي ستستهلكها البشرية في القرن الحالي.

لذلك قمة الثلاث ساعات إلا ربع تطرقت إلى كثير من الملفات. وإن كان الملف السوري هو الأسخن بل يمكننا اعتباره هو الساحة الرئيسية لتبادل الرسائل.

حمل الرئيس التركي في حقيبته ملفات ليبيا وسورية وأوكرانيا وأفغانستان وأذربيحان، إضافة إلى ملفات شائكة اقتصادية وعسكرية ولتلك الملفات كلها أبعاد دولية وليست ثنائية بينهما تحل بالتوافق بل يرتبط بكل ملف العديد من مصالح الدول الإقليمية والكبرى ويجب أخذ ذلك بعين الاعتبار عند مناقشتها.

ما يهمني هنا التطرق للملف السوري بالقمة ومناقشة بعض الآثار المرتبطة به، لكن لابد من الإشارة أولاً إلى نقطة هامة يجب ألا تغيب عن البال وهي:

ظن الجميع أن التدخل العسكري الروسي المشؤوم الذي حدث في 30 أيلول 2015 سيكون خاتمة للتدخلات العسكرية الأجنبية وبالتالي أيقن الجميع أن صفعة روسية استراتيجية قد تم توجيهها لتركيا وحلفائها من قوات الثورة السورية، وأن عليهم دفع ثمن ترددهم الطويل وأن حلاً روسياً سياسياً سينتج عن التدخل العسكري الروسي يرسم نهاية للمشهد السوري المؤلم بسيناريو وإخراج روسي سيذهب بأدراج الرياح تضحيات وأحلام السوريين بالتغيير ويؤدي بالأمن القومي التركي للتحكم به من موسكو ودمشق ويمكن طهران.

حدث العكس تماماً وكما لم يتوقع أحد، فبعد مضي ثلاثة أشهر وراء ثلاثة أخرى تضمها القيادة الروسية لتحقيق انتصار عسكري ساحق، وإزاء المقاومة الشرسة للشعب السوري (مدنيين وعسكريين) أيقن الروس أنه لابد من إشراك الدولة التركية بالمشهد كاملاً.

فتم أخذ الضوء الاخضر الروسي على شن عمليتين عسكريتين داخل الاراضي السورية تم من خلالها تحطيم بنية تنظيمين إرهابيين معادين للثورة السورية وإحلال منطقة محررة تضم كوادر الثورة السورية وجمهورها والفارين من ظلم وإجرام النظام السوري وحلفائه الايرانيين وصواريخ الطائرات الروسية.

علماً (كما يقال) إن عملية نبع السلام في منطقة الجزيرة والفرات الخاضعة للنفوذ الأمريكي وعصابات قنديل الإرهابية قد تمت دون إذن أمريكي وأن القوات التركية وحلفاءها من السوريين اندفعوا اليها بفعل عوامل معروفة.

بكل هذا التاريخ البعيد نسبياً طار الرئيس التركي بدون وفد رسمي موسع وبالإعلان مسبقاً أن جوهر المفاوضات قمة مغلقة بين الرئيسين.

كان التحضير الروسي للقمة قد تم قبل ثلاثة أشهر خلت، بارتفاع مستوى التصعيد العسكري والذي بدأ يأخذ في الأسبوع الأخير أبعاداً خطيرة باستهداف مناطق خارج جبل الزاوية وحرم طريق الـ M4 بل خارج إدلب كلها ووصلت الاعتداءات الجوية الروسية إلى معسكرات الجيش الوطني السوري (المحسوب من قوات المعارضة السورية المعتدلة) والذي شارك مع الروس في 16 جولة مفاوضات بأستانة، وصل التصعيد إلى محيط عفرين وتل تمر في شرق الفرات، بمعنى أنه لا يوجد منطقة لا يطالها القصف في خطوة تدل على استعداد الروس لتغيير قواعد الاشتباك كلها.

ورافق ذلك التسخين العسكري تصعيد سياسي تبادل الاتهامات بين وزير الدفاع التركي ووزير الخارجية الروسي بعدم تنفيذ كل طرف تعهداته تجاه الطرف الآخر باتفاقات تشرين الأول 2019 شرق الفرات أو اتفاقيتي أستانة وموسكو في منطقة خفض التصعيد الأخيرة في عامي 2018 و2020.

ذهب الرئيس التركي إلى سوتشي بورقتي قوة وورقة ضعف.

تتمثل ورقة الضعف في الضجة التي أثيرت حول عدم موافقة الرئيس الأمريكي جو بايدن على عقد لقاء قمة مع الرئيس أردوغان أثناء وجوده في الولايات المتحدة ضمن اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة السنوية، والتصريحات الغاضبة التي أعلنها الرئيس التركي عن درجة الحرج التي بلغتها العلاقات الأمريكية – التركية في عهد الرئيس بايدن (وقال الرئيس التركي إنه عاصر ثلاثة رؤساء أمريكيين هم بوش الابن وأوباما وترامب) وكان يلتقيهما أثناء زياراته للولايات المتحدة، واتهم الولايات المتحدة بدعم تنظيم إرهابي يهدد أمن حليفهم بالناتو.

بالمقابل كان الرئيس الروسي يرتكز إلى تفاهمات تمت مع الولايات المتحدة الأمريكية أثناء عقد جولات الحوار الاستراتيجي الجارية منذ أشهر في جنيف وفيما يتعلق بالأزمة السورية، كانت قد انتهت للتو جولات طويلة بين نائب وزير الخارجية الروسي ومبعوث الرئيس لافرنتيف مع ماكفورك مسؤول ملف الشرق الأوسط والشمال الأفريقي بمجلس الأمن القومي الأمريكي والذي تقع سورية ضمن دائرة اختصاصه وهو المتهم من قبل تركيا بأنه يكن العداء للدولة التركية وهو عراب إنشاء تنظيم قسد الإرهابي الذي يوجد خط أحمر تركي على استقباله أو التعاون معه.

أوراق القوة التي ذهب بها الرئيس التركي لمقابلة صديقه اللدود هي الدفع بتعزيزات من 4000 جندي تركي مع تجهيزات عسكرية ثقيلة جداً وضمها للقوات التركية الموجودة في إدلب مع تزويدها بمنظومات دفاع جوي تحمل على الكتف، مع تسريب يفهم منه أن هذه المضادات الجوية الأمريكية الصنع قد تكون وصلت لمقاتلي المعارضة السورية، مع استهداف تحذيري لمروحيتين روسيتين في سماء المنطقة. الأمر الذي يفهم منه أن القوات التركية وحلفاءها السوريين في إدلب موجودة للقتال وليس لتسجيل عدد الخروقات الروسية فقط.

ورقة القوة الثانية، تمكن الاستخبارات التركية من قتل قبل يومين من القمة أحد قادة حزب العمال الكردستاني التركي في سورية الذي يعمل مع تنظيم قسد، وهو أرفع مسؤول أمني كردي يتم اصطياده من بداية الحرب السورية، في إشارة إلى أن تركيا لا تتسامح أبداً مع من يهدد أمنها القومي في أي منطقة من مجالها الحيوي ولن تساوم على ذلك.

يمكننا وفقا للتصريحات المقتضبة جداً التي صدرت عن الرئيسين بعد القمة أو من خلال حديث الرئيس التركي لمرافقيه بالطائرة ما يلي:

1- لا تغيير في الوضع الحالي في إدلب والحدود الحالية لوقف القتال سيتم احترامها.

2- سيتم احترام التعهدات السابقة للأطراف، حيث لن يتم سحب أي نقطة تركية من النقاط الـ 55 المنتشرة جنوب الطريق إلى شماله. وسيتم إعادة تسيير الدوريات المشتركة من الترمبة شرقاً إلى عين حور غرباً. تم إبعاد الارهابيين عن حرم الطريق، والمقصود هنا بالإرهابيين، من يعارضون الوجود التركي (وليس جبهة النصرة كما أظن) حيث أن تنظيم النصرة متعاون مع الوجود التركي ويلتزم بتطبيق كل الاتفاقات والإرهابيون هم من استهدفوا الدوريات المشتركة الروسية – التركية ويستهدفون الآن القوات التركية، والعمل جار على محاربتهم أمنياً، إذ إن الشريط الضيق الإدلبي الذي يضم مخيمات وقرى تعد بالملايين من غير المنطقي أو المسموح شن عمليات عسكرية فيه.

3- سيستمر عمل الدوريات المشتركة على طريق حلب – اللاذقية وسيتم فتح الطريق أمام الحركة التجارية وسيتم فتح معابر إنسانية أخرى لمرور المساعدات الأممية عبر خطوط القتال أو عبور الركاب والبضائع بين مناطق المعارضة ومناطق النظام، لأن الروس همهم الاقتصادي الأول تنشيط حركة الاقتصاد المنهار في النظام السوري عبر فتح تلك الشرايين، وبالأساس لامعنى لفتح معبر جابر مع المملكة الأردنية إذا لم يتم فتح الطرق التجارية إلى تركيا وأوربة عبر الشمال السوري، بمعنى وصل أوروبة وتركيا والخليج العربي وهذا بالتأكيد سينعكس إيجاباً على اقتصاد النظام السوري.

4- ممكن أن يتمكن الضغط الروسي من التأثير بالموقف التركي الرافض لأي تعاون سياسي مع النظام السوري واجراء بعض اللقاءات على مستوى ليس عالياً بين مسؤولين من البلدين وتخفيف حدة الخطاب العدائي بينهما.

5- على مستوى لا يخص الشأن السوري مباشرة بل يرتبط به، جرى بعد القمة تأكيد الرئيس التركي على أن صفقات السلاح التركية – الروسية نهائية ولا يمكن الرجوع عنها بل والعمل على شراء صواريخ S500 وقد تصل لشراء طائرات سوخوي 55 كبديل عن الـ F35.

6- بالتأكيد، تم وضع خطط رئيسية للعمل وسيعمل عليها الوزراء والخبراء من الجانبين في منطقة شرق الفرات لإملاء الفراغ الناجم عن الانسحاب الأمريكي من المنطقة، حيث ما يهم الأمريكان قبل انسحابهم من المنطقة أمران رئيسيان:

1- عدم استفادة الميليشيات الإيرانية من ذلك الانسحاب وملء للفراغ، بل يجب التوافق التركي – الروسي على حرمانهم من ذلك.

2- عدم حدوث اضطراب بالأمن وأعمال قتالية وانتقامات تنال ما يسمى حلفاء الولايات المتحدة، بل إرسال من يرغب بباصات خضراء لخارج المنطقة، وعدم إعطاء صورة أفغانية أخرى عن تخبط أمريكي وتخل عن الحلفاء.

ما يمكننا تلخيصه في النهاية، أن القمة التي تمت مؤخراً هي قمة سياسية بامتياز، ويترك للوزراء والخبراء متابعة تطبيقها على الأرض، وتكلم الرؤساء بالخطوط العريضة.

ومن ناحيتي أعتقد أن الرئيسان يصدران برنامج عمل أسبوعي، وربما أقل، للمسؤولين بالبلدين لتنفيذها، لأن من حضر القمة واتفاقاتها هما رئيسان ومترجمان فقط.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني