fbpx

في حيثيات وأهداف وآفاق التهديدات التركية الجديدة!

0 123

في ظروف تغييب حقائق الصراع، والتضليل الواسع الذي يتعرض له الرأي العام السوري، من الضروري التأكيد في هذه المرحلة من تصاعد صراع السيطرة على شمال سوريا على حقيقة أن الصراع المستمر على تقاسم الحصص ومناطق النفوذ منذ 2015 هو في الجوهر بين أهداف مشروعين رئيسيين متنافسين للسيطرة على سوريا، أمريكي/تركي، وقد أدارت واشنطن معاركه باستخدام طيف واسع من الشركاء، في مقدمتهم الروسي والايراني، و في سياق تفشيل مسار انتقال سياسي وتحول ديمقراطي، شكل الهدف المركزي لحراك السوريين السلمي في ربيع 2011!.

في حين تقاطعت أهداف المشروع التركي مع مصالح وأهداف الحراك السياسي السلمي للشعب السوري ومع مصالح طيف واسع من القوى الإقليمية، خاصة القطري والمصري، خلال المرحلة الأولى من الصراع بين 2011-2014 حول أهمية و ضرورة الإصلاح/الانتقال السياسي، تقاطعت وتكاملت، دائماً، منذ الأيام الأولى لتفجر الحراك السياسي السلمي في ربيع 2011، وفي جميع مراحل الصراع، أهداف وخطط وسياسات واشنطن مع مصالح و سياسات خصومها الروس والإيرانيين، على حد سواء، حول هدف منع حدوث انتقال سياسي، فساهمت سياساتها، وشكلت العامل الرئيسي في تعزيز جهود دفع الصراع السياسي على مسار خيار الحل العسكري الطائفي في المرحلة الاولى من الصراع، 2011-2014، وشاركت مباشرة، منذ تدخلها العسكري الواسع النطاق خلال 2014، وحتى تاريخه، في دفع الصراع العسكري اللاحق بين أذرع الثورة المضادة الميليشياوية، بالتنسيق الكامل مع روسيا البوتينية، وتجاهل لمصالح تركيا، وفي مواجهة مع رؤية ومصلحة السوريين لحل الصراع، وعبر نهج تدمير واسع النطاق، وتغيير ديمغرافي، قادته ميدانياً روسيا، ونتج عنه تهجير ملايين السوريين في الداخل، والخارج، و كانت تركيا المتضرر الثاني من نتائجه، بعد الشعب السوري، على مسار تأسيس سلطات أمر واقع منسجمة، أصبحت في نهاية المعارك الكبرى لتقاسم الحصص ومناطق النفوذ في مطلع 2020 واقعياً وعملياً تجسد مرتكزات مشروع تقسيم سوريا، وأدوات تحقيق مصالح الدول الداعمة للخيار العسكري، الطائفي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.

وقد انسجمت سياسات واشنطن في جميع مراحل الصراع مع خطط السيطرة الإقليمية الاستراتيجية للولايات المتحدة طيلة عقود الحرب الباردة، وتوافقت خلال المرحلة الثانية، 2015-2020 مع خطط، ورؤى تفصيلية لخفض التصعيد، وضعها مركز بحوث RAND الأمريكي، منذ 2015 وقدمها في صيفة مقترحات على موائد صناع القرار، في البنتاغون ووزارة الخارجية والبيت الأبيض.

لا غرابة، والحال هكذا، أن يحاول النظام التركي في هذه المرحلة المتقدمة من تنفيذ خطط المشروع الأمريكي لتقسيم سوريا بين سلطات الأمر الواقع – التي يلعب في تنفيذها دور الشريك الرئيسي – وبما استحوذه من أوراق قوة طوال سنوات الحرب، استغلال بعض المتغيرات الدولية، التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط الماضي، لتوسيع حصة بلاده في إطار تحقيق مشروعه المُعلن حول إقامة منطقة آمنة بعمق 32 كم، رغم إدراك قادته العميق لحقائق موازين القوى الرادعة، وطبيعة تحالف الخصوم والشركاء الذي تواجهه، واستيعابها لدروس غزوة نبع السلام 2019، التي شكلت مكاسبها التركية أقصى ما يمكن أن تتنازل عنه واشنطن لصالح منافس/شريك إقليمي كبير، مُتعب، لم يَعُد يشغل نفس الأهمية في أولويات أدوات السيطرة الإقليمية للولايات المتحدة؛ بالمقارنة مما كانت عليه الحال خلال حقبة الحرب الباردة، وتفادياً لانزلاق الصراع على مسارات حرب شاملة، قد تقلب نتائجها الطاولة فوق رؤوس الجميع!.

بناء عليه، يمكن الاعتقاد أن احتمال قيام النظام التركي بغزو عسكري جديد لمناطق السيطرة الأمريكية/القسدية غير وارد، ليصبح من المرجح حصول تفاهمات صفقة سياسية جديدة، تعمل على مقايضة أوراق تركيا الجديدة/القديمة ببعض النفوذ والسيطرة في مناطق منبج، أو عين عيسى، أو كليهما – الأقل اهمية في مشروع السيطرة الأمريكية/القسدية، بالمقارنة مع مدن أخرى – ودون مواجهات عسكرية حقيقية، وعلى حساب النفوذ الروسي.

لتوضيح المشهد السياسي الراهن، وآفاق حركته، دعونا نتساءل:

ما هي الأهداف التي يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتحقيقها من مناورة رفض بلاده التوافق الناتوي لضم فنلندا والسويد، الذي أصبح مطلبا لكلا البلدين، وصاحبة الحلف أيضاً، بفضل غزو شريكه الروسي اللدود لأوكرانيا؟.

الهدف الأول: تحجيم دعم الدولتين لحزب العمال الكردستاني التركي PKK وفرعه السوري، PYD اللذين يتلقيان احتضاناً رسمياً، ودعماً متعدد الأشكال من قبل حكومتي البلدين، رغم وقوف الحزب الأم، وفرعه السوري المدلل، في خندق الثورة المضادة للتغيير الديمقراطي منذ 2011؛ وهو سلوك سياسي غير مفهوم من قبل حكومتين ديمقراطيتين، تدعيان دعم حقوق الشعب السوري؛ إلا في حال إلحاقه بسياسات واشنطن، المعادية للتغيير الديموقراطي!.

ثانياً: الرسالة لا تقتصر على فنلندا والسويد، بل يريدها أردوغان أن تصل بقوة إلى مسامع شركائه الأوروبيين والأمريكان في حلف النيتو، الذين يقدمون كل أشكال الدعم المادي واللوجستي لحزب PKK، وفرعه السوري (رغم وضعه على قائمة الإرهاب الأمريكية)، وجناحه العسكري، وحدات حماية الشعب التي تشكل العمود الفقري والقوة المهيمنة في قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي يخوض معها أردوغان حروب وكالة أخطبوطية منذ 2016، ضد خطط وسياسات النظام السوري والإيراني والولايات المتحدة وروسيا وحزب العمال الكردستاني التركي، الرافضين، كما يعتقد أردوغان، الاعتراف بمصالح بلاده الحيوية في سوريا.

النزال التركي مع واشنطن وشركائها لايقتصر على طبيعة علاقتهم الداعمة لحزب العمال التركي وفرعه السوري، ولا على جهود تركية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بل يصل إلى ساحات طموحات تركيا العسكرية، ونظام دفاعها الجوي، الاستراتيجي.

فقد وصل شعور إحباط القيادة التركية من تجميد صفقة F16، على سبيل المثال، إلى درجة الخيانة، جعل أردوغان يصب جام غضبه على رئيس وزراء اليونان، الذي قادت بلاده حملة داخل الكونغرس، مناصرة لمقاطعة مبيعات السلاح الأمريكي لتركيا.
ثالثاً: محاولاً الاستفادة من نتائج الغزوة العسكرية التي أطلقها شريكه بوتين في أوكرانيا، لتوسيع حصة بلاده التي أقرتها اتفاقيات آذار 2020، التي لم تلب متطلبات شروط إقامة مشروع المنطقة الآمنة على طول حدوده مع سوريا، بعمق 32 كم، والتي فشلت غزواته المتلاحقة منذ 2016 في تأمين الجغرافيا اللازمة لتحقيقها، بسبب معارضة منافسيه في سوريا، وإصرار واشنطن على عدم التفريط بحصصها الأكثر جدوى من الجغرافيا السورية، وهيمنتها على القرار السياسي/الاقتصادي في دمشق، وبالتالي بذراعها العسكري، الذي بات يسيطر على حوالي ربع مساحة الجمهورية العربية السورية، وتتخذ منه تركيا ذريعة لفرض مصالح أمنها القومي، وتحاول إضعافه لصالح حلفائها الكرد في سوريا وأربيل.

وقد أظهر قياديو ومقاتلو الجيش الوطني السوري الموحدون، الاستعداد والجاهزية لمنازلة قوات سوريا الديمقراطية، الانفصاليين، عبر إطلاقهم مناورات تحمية، استعداداً للمعركة القادمة.

رابعاً: في توجيه تهديدات مباشرة لمناطق السيطرة الكردية/الحليفة في تل رفعت وعين العرب والقامشلي، المواقع الرئيسية التي يُدرك مخططو السياسات التركية أهميتها الاستراتيجية في خطط السيطرة الأمريكية، وبالتالي صعوبة قضمها، أو تشارك السيطرة عليها، ثمة عين تركية على منبج وعين عيسى، حيث يسيطر منافسوها الروس والايرانيون، وأخرى على إدلب، حيث تتنافس ميليشيات تابعة لها السيطرة مع ميليشيات القاعدة المتعددة الجنسيات، وحيث من المرجح أن يكون، في خارطة سورية الجديدة، للإمارة موقعاً أمريكياً تفضيلياً.

في ختام قصتنا المأساوية، من المؤلم الاستنتاج أن الغائب الدائم عن مشهد صراع الضواري لتقاسم بلدهم هم السوريون، أصحاب الحق والشرعية، والتاريخ والجغرافيا، الذين باتوا (ملطشة) على امتداد جغرافيا هذا العالم الأمريكي المتحضر؛ وهي نتيجة طبيعية ليس فقط لغياب حكومة سورية، بل ولغياب قيادة وطنية، نخبوية، سياسية وثقافية، تقود السوريين في ظروف غياب سلطة وطنية شرعية، وفي خضم صراعات نهب وسيطرة على هذا القدر من التعقيد والتداخل؛ وقد ساهم في تهميشها تاريخياً وراهناً اللانظام وخصومه الاوروبيون والأمريكان.

إذ يحصل النظام على حصته، ويحاول تثقيلها عند أية فرصة هي حالة طبيعية، والطبيعي أيضاً أن تحصل أذرع الثورة المضادة (سلطات الأمر الواقع) على بعض الفتات، الذي يليق بقوادها الميامين.
غير الطبيعي، والمتناقض مع كل المبادئ والقيم السماوية والوضعية أن يخسر السوريون كل شيء، الكرامة والسيادة، والجغرافيا، وفوق كل ذلك، المستقبل!.

الطامة الكبرى هي في تلك النخب السياسية والثقافية السورية التي حولوها إلى معارضات مرتهنة، فأدمنت البحث عن مصالحها الخاصة عبر ما تقدمه للرأي العام السوري من تضليل، وتروجه من دعايات منفصلة عن حقائق الواقع، فساهمت في تفتيت الصف الوطني السوري، وإبعاد السوريين عن دائرة التأثير والفعل الوطني.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني