fbpx

في الذكرى الحادية عشرة للثورة المغدورة

0 164

إن أفضل ما يمكن أن تقدمه النخب السياسية الوطنية الديمقراطية، في الذكرى الحادية عشر للثورة السورية، هو إعطاء قراءة واقعية لصيرورة الصراع، بعيداً عن الأوهام والتضليل، التي تمنع السوريين من معرفة واقعهم، وكيفية تغييره!.
في ربيع 2011، وفي مثلِ هذا اليوم، قبل أحدَ عشرَ عاماً، خرجَت كوكبةٌ من أنبل شباب سوريا عن حدود المُمكن والمُستحيل؛ لتهتفَ في قلبِ دمشق: الله.. سوريا.. حرية وبس! (خالد حاج بكري)!.

تفجر الغضب السوري في سياق نضال السورين التاريخي لانتزاع إصلاحات سياسية، في مواجهة سلطة معندة، تستقوي على آمال وطموحات السوريين المشروعة بالتحرر والدمقرطة، بجميع وسائل السيطرة السياسية والطبقية، وبشبكة واسعة، معقدة، من المصالح التشاركية مع أنظمة المنطقة، ومراكز النظام الرأسمالي العالمي، خاصة الأمريكية؛ وشكل خلال مرحلته السلمية أعظم إنجاز حققه السوريون، وسيبقى نقطة مضيئة، ولحظة وطنية ديمقراطية بارزة، لا يجب أن يقلل من أهميتها، أو يمحيها ما تعرضت له الثورة، وواجهته من قوى الثورة المضادة.

مع إطلالة آذار 2011، يتفجر صراع سياسي غير مسبوق، (في أعقاب ثورة شعبية، سلمية، تزداد قوة وامتداداً، شعبياً وجغرافياً، في ظل آمال كبيرة بالتغيير، حفزها ما حققته ثورات تونس ومصر من تحولات في قمة هرم السلطة، وما أظهره السوريون من تضامن وطني، وتكاتف اجتماعي وإنساني)، واضعا مستقبل سوريا؛ بجميع مقومات الدولة، على صعيد مصير الثورة وجمهورها وقواها، وعلى صعيد سلطة النظام، والنظام ومؤسسات الدولة والسيادة الوطنية؛ بين خيارين، لا ثالث لهما:

حل، وانتقال سياسي، عبر خارطة طريق، يشارك فيها جميع السوريين، وتحت قيادة مؤسسات الدولة، (أو صفقة سياسية، قد تتضمن تغيير ما في هرم السلطة، يوقف مسار تصاعد الصراع، ويمتص غضب السوريين، ويعطيهم بعض الأمل…)، أو خيار أمني – عسكري، يقطع مسار الحل السياسي، ويعمل على حسم الصراع لصالح السلطة، وعلى حساب الثورة، وبما يؤدي إلى هزيمتها.

لقد اظهر الوعي السياسي النخبوي عجز مزمن عن تقديم قراءة موضوعية لصيرورة الخيار العسكري الطائفي، التي شكلت قواها، والداعمين لها، قوى، على جميع الصُعد، الثورة المضادة؛ وقد تمظهر في رؤى مختلفة، ما تزال تروج لها جميع تيارات المعارضة!!.

1- إذا كان من مصلحة سلطة النظام ودعايته الخلط بين مرحلتي الثورة، والثورة المضادة، في إطار نهج رفضها لحقوق السوريين وعدائها لقوى التغيير الوطني، ولتأكيد دعايتها حول المؤامرة ولتبرير استخدامها لوسائل العنف والمرتزقة في مواجهتها، فأنه من واجب الوعي السياسي السوري الوطني أن يركز على واقعية تلك الانفصال، في السياق والأهداف والقوى؛ وقد أساء جداً للثورة، وتضحيات جمهورها ونخبها وأهدافها عدم الفصل عند بعض المعارضة بين مرحلة الحراك ووسائله النضالية السلمية، الشعبية، وما استخدمته الثورة المضادة من ميليشيات وفصائل مدعومة من قوى معادية للثورة (أنظمة الخليج وتركيا)!، وفي إصرارها على اعتبارها جزء من الثورة، وامتداد لها؛ كما وصلت درجة عدم رؤية الواقع عند بعض قوى المعارضة الأخرى إلى إنكار وجود مرحلة الثورة كلياً!!.

2- عدم فهم طبيعة جميع أدوات قوى الثورة المضادة، لإنجاح أهداف الخيار العسكري، التي تمحورت حول منع حدوث انتقال سياسي، والحفاظ على سلطة النظام؛ خاصة في طبيعة العلاقة بين الخيار العسكري الطائفي ومسار جنيف للحل السياسي، بما هما وسيلتين متكاملتين لتحقيق أهداف الثورة المضادة!!.

خلال 2011، والنصف الثاني من 2012 تكاملت وسائل السلطة الأمنية الطائفية لوقف الحراك، مع سياسيات إيرانية وسعودية وقطرية، وإماراتية داعمة بلا حدود، على الصعيد الإقليمي، مع فشل جهود الولايات المتحدة وروسيا، (وهو موقف سياسي بامتياز!!) على الصعيد العالمي، لتصب في إطار منع حدوث حل سياسي للصراع السوري، ودفع الحراك السلمي على مسارات العنف الطائفي والميلشة، وبما يجعل من بعض جمهور الثورة، في قواعد ميليشيات الثورة المضادة، بندقية مقاتلة، إرهابية، ويحول طبيعة الصراع – بما هو صراع سياسي إصلاحي، في مواجهة نهج وأدوات سلطة استبداد – إلى صراع طائفي، بين ميليشيات طائفية، وبما يؤدي إلى وأد الحل السياسي؛ ويدفن معه الثورة، وقواها، وجمهورها!.

لقد انطلت على الوعي السياسي المعارض طبيعة مسار جنيف للحل السياسي!

من بداهة القول: إنه يستحيل في الممارسة العسكرية والسياسية في أي صراع، أن يترافق مساري حل متناقضين، سياسي (يهدف الى فرض انتقال سياسي) وعسكري (يستخدم جميع وسائل العنف لمنعه)، ويسيران معاً، على خطين متوازيين.

سياق وأهداف وقوى الحل السياسي، تتناقض مع تلك المرتبطة بصفقة سياسية، عادة تأتي نتيجة لوصول موازين القوى المتصارعة في الثورة المضادة إلى حالة العجز عن الحسم، ويُصبح من مصلحة للجميع الوصول إلى صفقة سياسية، لوقف صراعاتها على تقاسم الحصص، وشرعنة ما حصلت عليه، الصفقة السياسية تأتي في نهايات الحلول العسكرية كما حدث مثلاً في اتفاق الطائف، 1989، وكما يحدث في سياق علاقات الدول الضامنة، تركيا وروسيا وإيران، منذ 2017، بإشراف الولايات المتحدة، وبالتنسيق مع إسرائيل!.

بناء عليه، يستحيل أن يكون مسار جنيف، بعد مضي كل تلك السنوات على إطلاق الخيار العسكري، ونجاح قواه في تحقيق هدفه المركزي – هزيمة الثورة، ومنع حدوث انتقال سياسي، والحفاظ على سلطة النظام – العمل على تحقيق حل سياسي، وفقاً لما يدعو إليه القرار 2254، ولا حتى الوصول إلى صفقة سياسية، وفقاً لمفاوضات اللجنة الدستورية، بسبب عدم امتلاك المعارضة السلطوية (التي لا تعبر عن الثورة، ولا تعمل على تحقيق أهدافها، بل تعول على قوى الثورة المضادة، للحصول على بعض الفتات!)، أية أوراق خاصة، تمكنها من فرض شروطها على النظام، وعجزها عن تشكيل جسم سياسي معارضة، موحد، لارتهانها لأجندات مختلفة!.

بالنظر إلى خارطة المشهد السوري، بجميع أبعاده وزواياه، يبدو جلياً اليوم أن الهدف الحقيقي للجهود التي قادتها الدولتين، وعبر استخدام مسار جنيف، منذ 2012، إضافة إلى تفتيت المعارضة السورية، ودفعها للارتهان، لم يكن مسار جنيف، في جميع محطاته، خاصة القرار 2254، الذي تفتقد توصياته إلى أية آليات فعالة للتنفيذ، سوى غطاء، ووسيلة لشراء الوقت، إفساحاً في المجال لتحقيق هدفي الخيار العسكري الرئيسيين، في مرحلتين مترابطتين، وفي إطار صيرورة واحدة.

3- لقد عجز الوعي السياسي المعارض عن إدراك وجود مرحلتين رئيسيتين، في صيرورة الخيار العسكري الطائفي الواحدة، وبالتالي في معرفة أهداف وأدوات كل مرحلة:

الحفاظ على سلطة النظام، في المرحلة الأولى، 2012-2014

عبر أذرع جميع الميليشيات الطائفية، التي تقاتل ضد ميليشيات النظام أو معه، التي نجحت في تحويل الحراك إلى حرب ميليشيات، وهزمت الثورة، ونجحت في تعويم سلطة النظام.

مرحلة إعادة تأهيل بدءاً من 2015، المتواصلة منذ تدخل جيوش الولايات المتحدة وروسيا المباشر، التي وصلت اليوم إلى مرحلة متقدمة، وتسير بخطى متسارعة، رغم إعاقتها، وما شهدته من صراعات، منذ 2016 بسبب تناقض أهدافها وأدواتها (الميليشيات الإيرانية – قسد)، مع مصالح تركيا وإسرائيل، وهو ما يمكن تفسيره في نفس السياق!.

يبرز هنا عدم فهم طبيعة العلاقات الجدلية بين الولايات المتحدة والنظام التركي، الذي شكلت مصالحه وسياساته وأدواته، أهم عقبات تحقيق أهداف مشروع إعادة التأهيل، الأمريكي – الروسي، وما تزال حتى الآن!.

4- بخلاف دعاية تناقض سياسات واشنطن وموسكو (وهي أهم أفكار نظرية المؤامرة، وترويجها للعلاقة القطبية المتصارعة بين البلدين)، وما نتج عنها من عدم تطبيق القرار 2254، أعتقد أن حصول توافق مصالح وسياسات الولايات المتحدة وروسيا على منع حدوث انتقال سياسي، وبقاء السلطة، هو أهم العوامل الموضوعية التي تفسر نجاح سلطة النظام، بالتكامل مع جهود خصومه وحلفائه على ضفتي الخليج، في دفع الحراك السلمي للشعب السوري 2011-2012 إلى مسارات العنف الطائفي والميلشة، بعد عجز (وهو موقف سياسي، يعني، بلغة المصالح، أن من مصلحة الولايات المتحدة، التي تملك أوراق قوة قادرة على فرض حل سياسي، أن يتم تفشيل جهوده!، وعوضاً عن البحث عن أسبابه الحقيقية، انشغل الوعي السياسي بالبحث عن مبررات له – نظرية الانسحاب والتراخي – الدكتور سمير التقي!!)، عن إنجاح جهود الحل السياسي الذي دعمته الجامعة العربية وتركيا؛ وتقاطع سياسات واشنطن وموسكو في مرحلة التدخل العسكري المباشر، الأمريكي في أواسط 2014، ثم الروسي تالياً، في 2015، في جهود إعادة بسط سلطة النظام على الجغرافيا السورية التي خرجت عنها في سياق تحقيق أهداف الخيار العسكري؛ حين تكامل جهد عسكري وسياسي، أمريكي – روسي، لتحقيق أهم أهداف مشروع إعادة تأهيل السلطة، المتمثل في إعادة بسط سلطة النظام على الجغرافيا التي خرجت عنها، وعبر جهد مشترك لتفكيك سلطات الأمر الواقع، التي بنتها أذرع الثورة المضادة الميليشياوية؛ فأخذت الولايات المتحدة مهمة تحييد داعش، بينما عملت روسيا على هزيمة وطرد فصائل وميليشيات قوى المعارضة التي قاتلت النظام.

ضمن هذا الإطار، نفهم هشاشة الوعي السياسي النخبوي المعارض في استمرار الترويج والتعويل لحل سياسي، عبر توافق الولايات المتحدة وروسيا!.

إذا كان لدينا ألف سبب وسبب كيلا نصدق الروس، ما الذي يجعلنا نصدق الأمريكان؟!.

ثم، كيف ستجبر الولايات المتحدة النظام اليوم على التنازل عما أنجزه في الخيار العسكري، وعبر مسار حل سياسي، يشترط موافقة السلطة على تنفيذ توصياته المباركة!!؟ لو كان لديها مصلحة في ذلك، لماذا لم تفعله في 2011، ولم يكن يحتاج أكثر من اتصال، كما حدث في مصر!! لتكون إيران، هي التي خوفت الولايات المتحدة، أو خوفها احتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة؟!.

5- عدم إدراك السبب الأساسي لحالة العطالة الوطنية التي وصلت إليها قوى المعارضة والثورة؛ عامل توافق المصالح، وتنسيق السياسيات بين الولايات المتحدة وروسيا، من جهة، ومع شركائهم الإقليميين (خاصة أنظمة قطر وتركيا والسعودية) من جهة ثانية، في سياق تحقيق أهداف الخيار العسكري الطائفي هو الوحيد القادر على تفسير ما لحق بقوى وأحزاب وشخصيات ونشطاء الثورة، والمعارضة الوطنية الديمقراطية السورية من تهميش، وتشظي، وتحييد، وما وصلت إليه أطياف المعارضات الأخرى من ارتهان لهذا الطرف أو ذاك، من القوى الإقليمية والدولية، المعادية للتغيير الديمقراطي؛ وقد تحقق ذلك عملياً عبر مراحل ومحطات مسار جنيف، وهي أهم إنجازاتها؛ وهذا يؤكد على ترابط أهداف جنيف مع الخيار العسكري؛ ولا يقلل بالطبع من مسؤولية العامل الذاتي، لكنه يحدد العامل الحاسم، بل يؤكد على سعي قوى الثورة المضادة لضبط ايقاع حركة المعارضة، على الصعد السياسية والثقافية، أحزاب ونخب، وبما يصب، في المآل الأخير، في خدمة أهداف مشروعهم المشترك، ويؤدي إلى إجهاض إهداف التغيير، ومساراته، وتفشيل قواه!!.

6- يبقى الخلل القاتل في الوعي السياسي النخبوي هو عدم إدراك طبيعة العلاقات التشاركية/الجدلية بين أهداف وأدوات المشروعين الأمريكي والإيراني للسيطرة الإقليمية، وبالتالي مركزية الدور الذي تلعبه سلطة النظام السوري، كأحد أهم الحوامل الإقليمية للمشروع الإيراني؛ وهو العامل الحاسم في تفسير الحرص على استمراه، رغم ما واجهته سفينته من أنواء!.

في الختام، إذا كنا حقاً نبحث عن بديل، فلتكن الخطوة الأولى توقف الوعي السياسي النخبوي عن ترويج وعي منفصل عن الواقع؛ كدعاية تعارض سياسات الولايات المتحدة وروسيا في الصراع على سوريا، خاصة بما يتعلق بقضية نضال السوريين المركزية، الانتقال السياسي؛ ولنكف عن التعويل على مسار جنيف؛ وقد أنجز أهدافه بالنسبة للولايات المتحدة وروسيا، وخدع السوريين، وجعلهم يعيشون على وهم حل دولي، ريثما ينهي الخيار العسكري أهدافه، ولا يغير من ذلك ما يحصل من تعثر لخطوات إعادة التأهيل، بسبب تعارض أدواته وأهدافه مع مصالح تركيا، الدولة التي ما تزال تشكل العقبة الكبرى في وجه وصول قطاره إلى محطته النهائية، ولنفصل بين مرحلتي الثورة والثورة المضادة، في الأدوات والأهداف والقوى، وطبيعة أدوار سلطات الأمر الواقع!.

كل التحيات، وأكاليل الورد، لذكرى وأرواح ضحايا العنف السلطوي، الذي سقطوا على كامل مساحة سوريا، في سبيل بناء دولة المواطنة الديمقراطية.

السلام والعدالة لجميع السوريين.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني