fbpx

عندما يكون التقبل خيارك الوحيد

1 583

رحلة التشخيص

في أواخر شهر حزيران من عام 2003 وتحديدا في التاسع والعشرين من الشهر، أراد الله أن يجعلني أم لملاك من ملائكة الأرض، أنجبت توءمين ذكور بعد أربع زهرات، في البداية سارت الأمور بشكل طبيعي جدا، وكأي أم في هذا العالم كنت سعيدة جدا بوجود طفلين جديدين يتربعان في أحضاني، فكيف لا وهم أبناء رحمي ومن دمي ولحمي! لكن.. لم أكن أعلم أن حياتي منذ تلك اللحظة ستنقلب رأسا على عقب… إلى الأبد.

كانت الأشهر الأولى من ولادتهما طبيعية جدا، طفلان أحملهما على صدري، أطعمهما وأرضعهما معا، ألبسهما ذات الألوان وألعب معهم نفس الألعاب، أسرح في مخيلتي فأراهما شابان ناجحان وسعيدان يملأان العالم حبا وشغفا وحياة، كنت أسافر في مخيلتي كأي أم تطمح أن ترى أطفالها يكبرون بصحة جيدة وبأفضل حال.. ولكن سرعان ما تحولت أحلام اليقظة هذه إلى كوابيس، نعم، لا أبالغ.. لكوابيس، ولكن الفرق الوحيد.. أن الكوابيس التي نراها عادة تكون فقط في المنام، بينما كوابيسي كانت واقعية وحقيقية وفي وضح النهار!.. فبعد فترة بدأت ألاحظ أن أحد الطفلين غير قادرعلى التواصل والتركيز، على خلاف أخيه، الذي كان يتفاعل ويضحك ويبكي ويعطي ردود أفعال طبيعية، فبدأت الشكوك تحوم فوق رأسي والأفكار السلبية تسيطر على عقلي واستهلكت الحيرة كامل طاقتي الجسدية والنفسية، بالبداية ظننت أنه يعاني من ضعف في السمع.

سرعان ما اصطحبته للطبيب لفحصه واذ بالطبيب يقول لي بأن “سمعه مثل الليرة الذهب” حمدت الله كثيرا على ذلك ولكن كنت أعرف في قرارة نفسي أن طفلي ليس طبيعيا وأن رحلة التشخيص لا زالت في بدايتها.. مر علينا أيام وليال طويلة خيّم فيها الحزن والقلق على بيتنا ونحن نتقلب بين طمأنة بعض الأطباء وتحذيرات آخرين… وفعلا، بعد زيارات عديدة لكثير من الأطباء في مختلف مدن الضفة تم تشخيصه بأنه مصاب باضطراب التوحد وبدرجة شديدة، فكانت هذه بداية الصدمة، لم يكن المرض معروفا بكثرة انذاك فلم استوعب الفكرة ولم أتخيل ما سيترتب من تغييرات على حياتي بالأيام القادمة.. حتى صعقت بأحد الأطباء وهو يتأسف لي قائلا: “مع الأسف، اللي عندهم توحد صحتهم منيحة وعمرهم طويل” وبطبيب اخر يسألني سؤالا غريبا للغاية: “شعرك شايب؟” فأجبته بكلا، فرد ببرود: “رح يشيب من اللي رح تشوفيه منه”، ولكن رغم كل جرعات الاحباط التي تلقيتها ممن حولي الا أن طفلي كان بالنسبة لي بمثابة هدية من السماء، وهدايا السماء لا ترد، وكان التقبل والرضا بقضاء الله وقدره خياري الأوحد..

تمسك الغريق بطوق النجاة، الأردن – عمان

“اتركوه.. اتركوه، ابني من ذوي الاحتياجات الخاصة ومش فاهم اشي من اللي بصير حواليه” هكذا صرخت – وسط معبر الكرامة في قاعة ختم جوازات السفر – عندما كنت مسافرة وحدي مع طفلي التوحدي ذي الخمسة أعوام من مدينة رام الله إلى عمان لإعطائه جلسات اوكسجين مضغوط في أحد المراكز التي سمعنا عنها والتي تستخدم هذا العلاج كحلا للتوحد، فقررت أن أجازف وأترك أطفالي الاخرين خلفي وحدهم في البيت شهرين كاملين.. وما زاد الوضع تعقيدا أن زوجي كان يقوم بزيارتي في الاردن كل نهاية اسبوع تقريبا ليطمئن على أوضاعي وأوضاع ابننا بالتالي لم يكن هناك شخص يرعى ابنائي في تلك الفترة سوى ابنتي البالغة من العمر 18 عاما أما البقية فكانوا أطفالا، لذا كان قرار السفر آنذاك من أصعب القرارات التي اتخذتها في حياتي، خصوصا كوننا لا نستطيع احتساب نتائج العلاج أو التنبؤ بنجاحه ولكن “الغريق بيتعلق بقشة”،.. وضبت حقائب السفر وحملت طفلي وذهبت، كانت تجربة قاسية بكل ما تحمله الكلمة من معاني، بداية بترك منزلي وأطفالي وحدهم وهم بأمس الحاجة لي، أما بالنسبة لطريق السفر فكان صعباً جداً مع طفلي التوحدي الذي استمر بالبكاء والصراخ طوال الطريق وفي الباصات ولم أكن قادرة على التحكم به وحدي كونه قوياً جسدياً وحركته تزيد بعشر أضعاف حركة الطفل الطبيعي، وعندما وصلنا جسر الأردن قام بالفرار مني قبل إتمام إجراءات الدخول ولم أستطع الإمساك به وظن الضباط الأردنيون بأنه شخص طبيعي يحاول الهروب فأمسكوا به حتى كادوا يضربوه، ما دفعني للصراخ محاولة توضيح الموقف لهم، أما المرحلة الأصعب كانت مرحلة العلاج بالأوكسجين المضغوط، وهو عبارة عن جهاز أسطواني صغير جداً يكاد يسع أربعة أشخاص فقط، كانوا يلبسونه شيء أشبه بالخوذة يتم شبكها بواسطة أسلاك بجهاز الاوكسجين الخارجي، عقدنا هناك 40 جلسة، كانت كلها جلسات في غاية الإرهاق والتعب محملة بالصداع والدوران نتيجة الضغط الأوكسجيني، فلم يكن يتحمل ابني كل الضغط الواقع عليه فكانت تزداد عصبيته ويبدا بحالة هستيرية من الصراخ، وبنهاية المطاف كان ينفلت سلك الخوذة المشبوك بالأوكسجين وبالتالي لا يستفيد شيئاً من العلاج… نعم، شهران كاملان دون أي تحسن ولو طفيف، ثم انتهت فترة العلاج وعدت به إلى رام الله وأعدته إلى المركز التأهيلي الذي كنت أرسله اليه منذ كان عمره ثلاث سنوات ولازلت أرسله إليه حتى اليوم ولكنه للأسف لا يستجيب أيضاً لأي من برامجهم التأهيلية التي يقدمونها له في المركز إلا أنني أرسله هناك كي لا يبقى حبيس المنزل، ولعل وعسى يستفيد ويتطور ولو بشكل بسيط.. فرغم فشل جميع محاولات العلاج وازدياد سوء حالته كلما كبر أكثر إلا أنني لم أيئس قط، أو أحاول على الأقل.. فأنا شخص يتمسك بالأمل تمسك الغريق بطوق النجاة..

تضاعُف الألم – رمضان 2018

“صحيت حاسس نخزة بقلبي، حسيت انه صرله اشي” هذه كانت العبارة التي قالها توءمه عندما تعرض أخيه للصرع لأول مرة في حياته وهي حالة تصيب مراهقي التوحد وخاصة الحالات الشديدة، كانت صدمة كبيرة لنا جميعا كوننا لم نكن مدركين ما الذي يحدث، كانت الساعة التاسعة صباحاً من منتصف شهر رمضان المبارك عام 2018، استيقظت أنا وزوجي وأبنائي وتجهزنا للخروج للعمل والجامعات، وفجأة توقف مسير حياتنا، سقط ابني التوحدي على الأرض دون سابق إنذار اقتربت منه فوجدت عيناه مقلوبتان وشفتاه تحول لونهما للأزرق، وتشنج كامل جسده، فتشنج قلبي معه، وتخدر عقلي حتى ظننت بأنه فارق الحياة، ثم اتصلنا بالطبيب وحضر إلى المنزل وأبلغنا بأن حالة الصرع هذه سترافقه طوال حياته، وبذلك يجب أن يأخذ دواء للحد من الصرع لآخر العمر، وما بين الفينة والأخرى يقوم الأطباء بتزويد جرعة الدواء له كي لا يعتاد جسمه عليه، فالوضع حرج أكثر مما يمكن وصفه، فإذا تأخرت ساعة واحدة فقط عن إعطائه الدواء بموعده فإنه سرعان ما تأتيه نوبة الصرع… وتكررت الحالة لمرات عدة خلال السنتين الماضيتين وفي كل مرة كنت أشعر بأن قلبي ينقسم لنصفين، فبالرغم من كل الألم الذي شعرت به منذ أنجبت طفلي التوحدي إلا أن الألم الآن أصبح مضاعفاً، فأنا لا أتحمل رؤية طفلي يعاني ويتعذب.. أصبحت حياتي متمحورة في ثلاث ساعات من اليوم، الثامنة صباحاً، الثانية ظهراً، والتاسعة مساءً، وهي مواعيد إعطائه دواء الصرع، منذ ذلك اليوم أصبح صوت دقات قلبي مسموعاً كعقارب الساعة طوال اليوم خوفاً وقلقاً من أن يفوتني موعد دوائه، ولكني أكابد دوماً للخروج من قوقعة الاكتئاب ومجابهة الواقع برضى ويقين بأن ما يخفيه لنا الله في الغيب أجمل وأن تضحياتنا لن تذهب سدى ولا أبالغ إن قلت إن ابني هو النعمة الأكبر في حياتي فعزلته لم تكن تعني أنه لا يشعر بما حوله، بل كان يشعر بكل شيء، ويرى كل التفاصيل دون أن يخرجها للآخرين.

1 تعليق
  1. محاسن الكبيسي says

    للاسف اقلك اختي مريض واحد ولا يقضى على كل عيلتك وتخسري صحتك يجب عزله في مدرسة خاصة لهذا المرض. من اجلك واجل انقاذ بقية اخوته لانه سيمرضون من عدم اهتمامكم بهم والوضع القلق من تجربة صديقه لي الان تخسر صحتها خالص وتغيب عن وعيها بسبب الالم والتعب شيء مرهق ويتلف الجسد والو اكثر من عشر سنوات لا تحسن يذكر وكمان عالجوه سنين بالاردن كان مقيم هناك لذا اقلك اكسبي الباقين

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني