عن اغتيال نصر الله والحزب.. محاولة لقراءة “موضوعية”
في زمن تحتدم فيها الصراعات الافتراضية والواقعية وتكتب الكلمات بمداد من دم واستقطاب يصعب على أي كاتب تناول الظاهرة بموضوعية، فالمواقف والثنائيات الواضحة الآن تتسيد المواقف والنقاشات وتقدم على ما سواها.
لا ندعي الحيادية هنا بالطبع، ولكننا سنحاول ما استطعنا تلمس السياقات المختلفة للوقوف على تجربة حزب الله منذ نشأته حتى الآن والأسباب التي قادت إلى ما نراه، انهيارا سريعا في منظومته القيادية التي انتهت باغتيال أمينه العام حسن نصر الله.
“محرومون” أو “شيعة”.. عن نشأة الحزب
تأسس حزب الله في افتراق تاريخي مع حركة أمل مطلع الثمانينيات بعد تبنيه عقديا نظرية “ولاية الفقيه” وإعلان تبعيته الدينية والدنيوية لإيران، وقد خالف الحزب في نشأته أو انشقاقه عن حركة أمل أدبيات مؤسسها السيد موسى الصدر الذي نظّر للحركة بوصفها “حركة المحرومين” في الجنوب اللبناني المهمّش، في إشارة ضمنية أو مباشرة إلى أن معالجة التهميش المناطقي أو الجهوي يمثّل حلاً بديلاً عن معالجة “المظلومية الشيعية” التي كانت تتنامى آنذاك.
وبخلاف أمل، نشأ حزب الله جهاديا راديكاليا ومذهبيا مغلقا يتبنى العنف وسيلة وحيدة لتحقيق التغيير، إذ كان يؤمن بقتال “العدو البعيد” الذي تسمّيه الأدبيات السياسية الشيعية “الشيطان الأكبر” كمقدمة لتأسيس نظام إسلامي يحاكي نموذج الجمهورية الإسلامية في إيران والذي مثل نموذجا جديدا يقوم على “أسلمة” الدولة الحديثة من دون تدميرها كما كانت تنادي الحركات الإسلامية التقليدية في الخمسينات.
ولا يمكن لباحث إهمال حقيقة واضحة أن حزب الله انبثق أيضا من تناقض حقيقي فكري وعملي مع إسرائيل “ربيبة الشيطان الأكبر” لا سيما بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وتصفية حركات المقاومة الأخرى اللبنانية والفلسطينية، وقد مهّد ذلك لتحالف مصلحي مع النظام السوري كان قد تأخر حتى عام 1987 ليحقق الحزب بذلك ما عجزت عنه القوى الأخرى؛ ظهير عربي فاعل وداعم إقليمي طامح.
قبل ذلك التاريخ، حاول نظام حافظ الأسد مراراً استئصال نموذج حزب الله وحاربه في مواقع مختلفة قبل أن يستسلم لوجوده ويعيد التفكير براغماتياً بالأمر محولاً العدائية إلى التقاء مصلحي فقط، وبالتدريج تحوّل حزب الله إلى القوة العسكرية الأكبر في لبنان التي “تحتكر” مقاومة إسرائيل وحدها من دون الآخرين في مفارقة غريبة.
مطلع التسعينيات وفي استجابة للتحولات الكبرى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، تحوّل الحزب إلى تنظيمٍ هجين “Hybrid organization” مع إعلان رغبته في المشاركة السياسية النيابية التي كان ينفر منها ويعتبرها بعض قادته “كفراً”، وبات له جناحان عسكريٌّ وسياسيٌّ يتفاعلان ويكمّلان بعضهما بعضاً.
وقد جذب هذه التنظيم الهجين اهتمام الباحثين في حقل الحركات الراديكالية المسلحة وبدأت تظهر فرضيات نظرية عن “الدمج والاعتدال – Inclusion-Moderation Thesis” التي تجادل بأن المشاركة السياسية تحد من راديكالية الحركات المسلحة سلوكيا و”تطرف” أفكارها أيديولوجياً.
وبالفعل، نجم عن رغبة الحزب في دخول الانتخابات والمشاركة السياسية تحولات أيديولوجية عميقة بعض الشيء، خاصة فيما يتعلق بهدف تأسيس النموذج الإسلامي في لبنان، إذ خرج بخلاصة واقعية مؤدّاها: إنّ عدم إمكانية تطبيق ولاية الفقيه في لبنان نتيجة لظروفه الخاصة لا يعني فشلها، بل ضرورة تأجيلها حتى تأتي ظروف ملائمة تخص المنطقة بكاملها وليس لبنان وحده.
أسهمت هذه الخلاصة في تخفيف حدة خطابه المذهبي والطائفي آنذاك وحولته إلى حركة اجتماعية قادرة على جذب شرائح مختلفة من الطائفة الشيعية ومن خارجها من خلال مجموعة من المؤسسات الخدمية، ليؤسس مع مرور السنوات نموذجا شبه دولتي داخل الدولة اللبنانية؛ نموذج يحظى بشعبية واعتراف جماهيري كبيرين نتيجة “المشروعية” التي حصل عليها بعد الانسحاب الإسرائيلي، عام 2000.
بين الأب والابن.. إشكالية العلاقة مع سوريا
رغم الدعم الكبير، لم يستطع الحزب إيجاد موطئ قدم له داخل سوريا في عهد الأسد الأب، كان ذلك ممنوعاً بقرار من الأخير، فالتحالف مصلحي بحت ويحقق فائدة مشتركة تقوم على “اعتمادية” الأصغر على الأكبر. تغيّر الحال في عهد الابن، خاصة بعد الاحتلال الأميركي للعراق وضربة “عين الصاحب” شمالي دمشق، فقد استجلب الأسد الحزب ونموذجه إلى سوريا رغبة منه في تأسيس معادلة ردع جديدة بعد قراره عدمَ الردّ على الضربات الإسرائيلية واختراع مقولة “الرد في الزمن والمكان المناسبين”.
ظهرت صور حسن نصر الله بكثافة في سوريا بتوجيه سياسي بعد اغتيال الحريري وطُرشت في كل مكان باستثناء المؤسسات العامة لا سيما في وسائل النقل، كما سُمح للحزب بإنشاء قواعد تدريب عسكرية في الزبداني وغيرها.
كان ثمن ذلك مظاهرة 8 آذار التي حفظت ماء وجه النظام بعد الانسحاب من لبنان وخرجت بموجبها مقولة نصر الله الشهيرة “لبنان دمَّرهُ شارون وحماهُ حافظ الأسد” التي استثمرها النظام في تثبيت شرعيته داخلياً أمام الضغوط الخارجية. باختصار اختلّت العلاقة بين النظام والحزب لصالح الأخير وصارت الاعتمادية معكوسة مكنته من الحصول على أسلحة سورية متطورة لعبت دورا حاسما في حرب تموز 2006.
حاول الأسد بعد خروجه من عزلته عام 2008 أن يعيد ترتيب العلاقة على أسس مغايرة عبر نسج علاقات جيدة مع تركيا والغرب – فرنسا بالتحديد والدول العربية – وهنا توترت العلاقة بين الجانبين وبات يُنظَر للأسد من قبل نصر الله والإيرانيين بوصفه شخصية انتهازية تافهة تجب محاصرتُها دائما لتجنُّب غدرها. بالفعل، أُجبِر الأسد عام 2010 بأوامر إيرانية على قبول نوري المالكي بدلا من إياد علّاوي لرئاسة وزراء العراق، وعلى فضّ معادلة س-س مع السعودية التي أنهت حكومة سعد الحريري التوافقية مطلع عام 2011، والتي شكلت كتسوية يقبل بها الحريري الوزارة كدية عن قتل أبيه.
منذ مطلع العام 2011 وقبل الربيع العربي، أضحى حزب الله “الحزب الحاكم” في لبنان مع امتلاكه الثلث المُعطِّل وتفكُّك خصومه بعد هزيمتهم في 7 أيار، وتحول على مستوى التفكير أيضا من “حركة مقاومة عسكرية” تمتلك ظهيرا سياسيا مدنيا وقاعدة اجتماعية واسعة إلى “حزب سياسي” له جناح عسكري يسيطر على الدولة وخياراتها بما فيها الحرب والسلم والعلاقات الخارجية.
الدخول إلى سوريا.. هزيمة أو انتصار
دخل الحزب سوريا بأوامر إيرانية مباشرة وفي وقت مبكر، متجاهلا كل الدعوات والتمنيات بأن “ينأى” بنفسه وبلبنان عن هذه المسألة. لم يطلب منه السوريون، وكل من وقف معه من العرب، سوى الصمت، لكنه اختار الجانب الآخر من التاريخ، لقد تفاخر نصر الله في تصريحات نقلتها جريدة الحياة عن مسؤول روسي بأن له الفضل في حماية دمشق منذ عام 2012؛ أي قبل إعلان التدخل الرسمي في معركة القصير عام 2013.
احتاج حزب الله إلى سردية تبريرية لهذا الفعل، فحاول الاستثمار في السردية الطائفية التي كان يتجنبها أو يخفيها، لكن هذه السردية تمكنت منه فبات يُعرف مؤخرا بطائفيته لا بفعله ضد إسرائيل، وقد وجد نفسه في تحالفات مع فصائل طائفية وميليشيات انقلابية أسستها أو دعمتها إيران لتكون أذرعاً عسكرية خارج الدولة، وهو نهج غريب اعتمدته طهران حتى في الدول التي تسيطر عليها لإبقائها في حالة تفكك دائمة.
يعتقد كثير من المراقبين أن حزب الله انتصر عسكريا في سوريا وهذا خطأ، لقد انتصر حزب الله تكتيكيا بداية دخوله بين عام 2012-2013 عندما واجه فصائل أهلية غير مدربة تحت مسمى الجيش الحر، لكن الأمر تغيّر عندما اتجه شمالا وصار يواجه فصائل إسلامية تُعبِّئ مقاتليها عقائديا وتحظى بدعم وتمويل خارجي.
لقد هزم حزب الله إلى جانب الميليشيات الإيرانية الأخرى عسكرياً في الشمال أمام تمدد الفصائل الإسلامية في الربع الأول من عام 2015 وانسحب مقاتلوه من معظم مواقعهم حتى حصل التدخل الروسي الذي حسم المعركة لهم ولصالح النظام.
تجربة سوريا التي قدّمها حزب الله كنصر كانت بصورة ما هزيمة عسكرية له لأسباب عدة، أولها: عدم قدرته على الحسم البري من دون تدخل جوي روسي، وثانيها: انكشافه استخباريّا نتيجة لمشاركته ضمن غرف عمليات يسهل اختراقها في الجيش السوري أو الإيراني، والأهم خسارة قاعدة شعبية كبيرة تناصره في عموم العالم العربي.
وعوضاً عن أخذ العبر والمبادرة إلى المصالحة، أخذته المكابرة إلى مواضع بعيدة، لقد نسيتْ قيادة الحزب أو تجاهلت حقيقة مؤكدة أن تدخّلها في سوريا جرى من دون ممانعة إسرائيلية، إذ كانت إسرائيل تعد العدّة للحظة حاسمة كتلك التي حصلت على مدار الأسبوع الماضي.
امتحان 7 أكتوبر والحسابات الخاطئة
لم يُستشَرْ حزب الله في معركة 7 أكتوبر، ولم يُرِدْها وحاول ما استطاع النجاة من تداعياتها لكنه فشل. لقد عرَّفها بأنها “جبهة إسناد” لغزة وشارك فيها مبكّراً بصدق مع قناعة مطلقة بأنه سيكون “الهدف التالي”.
بُنيت حساباته على صمود حماس وحصول صفقة تنتهي بسقوط نتنياهو من دون حرب شاملة فيكسب إيجابياً من المشاركة في تحسين صورته وشعبيته ولا يخسر النفوذ الإقليمي الذي دفع من أجله آلافاً من مقاتليه، لكن حسابات البيدر جاءت خارج حسابات الحقل خاصة عندما قررت طهران ورئيسها الجديد أن يدير الظهر لكل الخطابات والشعارات الرنانة المعروفة ويسعى إلى علاقة جديدة تصالحية.
تزامن ذلك مع نشوة سادية لنتنياهو وانشغال أميركي وقبول دولي بما فعل بغزة، فانقلب على “قواعد الاشتباك” التي سعى مع حزب الله إلى تثبيتها ولأشهر طويلة.
ولا ننسى في هذا السياق موقف نظام بشار الأسد الذي لم ينأ بنفسه عن الحرب فحسب، بل رأى فيها فرصة لتقليل نفوذ حزب الله في سوريا، وتذهب مؤشرات عدة ظهر بعضها في وسائل الإعلام مع قضية لونا الشبل على تواطؤ لجهة الاختراق وتسريب المعلومات.
باختصار، دفع حزب الله وأمينه العام ثمن الحسابات الخاطئة التي تكاثرت في السنوات العشر الأخيرة نتيجة لثقته الزائدة بالنفس والابتعاد عن أفكار المؤسسين لصالح الالتحاق بمشروع إقليمي لم يقف إلى جانبه وقت الشدة، وستكون على أي قيادة جديدة أن تعي الدرس جيداً وتعالج الأخطاء وإلا فإن مستقبل الحزب لن يختلف عن حركات مسلحة مشابهة سادت خلال الأعوام الماضية.
في النهاية، اغتيل نصر الله على يد دولة مجرمة واحتلال استيطاني أمعن في إذلال العرب وإجهاض أي رغبة في التحرر والحرية، فقد كان وما يزال سندا لكل المستبدين العرب.. نعاه وبكاه بعضهم لمواقفه الأخيرة وفرح بعضهم الآخر لكن المعطى الثابت والوحيد أن إسرائيل هي الأكثر سعادة بما يجري فهي لا ترى في الفرحين والباكين إلا أهدافاً مؤجلة.
المصدر: تلفزيون سوريا