
تنهرنا.. تهددنا إذا ما علا الضجيج.. تسمعها جدتي.. ولتريحها من شقاوتنا تنادينا: اتركوا أمّكم وتعالوا، فنقبل عليها. ترشونا مما عندها، وتلهينا بققص جديدة حتى تنهي أمّنا أشغالها.
ارتحلت جدتي لبارئها منذ سنوات، وتركت لنا ذكريات لا تنسى؛ فما زلت أذكر هداياها – كلما جئنا إليها – حبات الملبس والتين والزبيب التي تحتفظ بها في صندوق بزاوية غرفتها. تجلسنا حولها وتقص حكاياتها التي تسعدنا، وتمسح على رؤوسنا، وتباركنا بقراءة تعويذاتها وتقول: “… يبعد عنكم الشر”، ننتظر المزيد من المتعة وهي مسرورة بنا. أنا أصغر الأخوة.. كنت المدلل، وغالباً ما تضعني في حجرها فيحسدونني.. أحس بالدفء وهي تحضنني فأغفو، وتتركني حتى استيقظ مرتاحاً ومسروراً…
كبرتُ… وشاخت جدتي.. كنتُ أمازحها أحياناً.. تضحك فلا تزعل أو تغضب.. تعاقبني بقرص أذني أو تهز أرنبة أنفي: يا ملعون متى أفرح بك؟ هيا دلني عليها حتى أخطبها لك قبل أن أموت؛ فأجيبها قريباً…
عاكستها مرة: أتحبين جدي؟
– يا شقي، جدك طواه التراب
– أمس سمعت أبي يعنف أمي، هل كان يعنفك؟
– ياولد، يجب أن تعرف أن المرأة ظلّ الرجل تتبع… وتطيع …
– لماذا؟
– لأنه قوّام عليها، هكذا خلقهما الرّبّ
– اعترفي، ألم يعنفك يوماً؟
– كثيراً، وكنت أصمت
– ويضربك؟
– أحياناً
– ومع ذلك تحبينه؟
– هو زوجي.. أطيعه.. وألبّي طلباته
– حتى وأنتما عروسان؟
– مرة واحدة، وهو غاضب…
– وأرضاك ببوسة، أليس كذلك؟
– عيب يا عفريت.. اذهب.. أعطني قفاك …
تركتها تتذكر أيام صباها، وكم عانت – كغيرها من النساء – من تعنيف في حياتها كأنثى ترملت مبكراً باستشهاد زوجها…، وتربية أولادها، وصمودها نقية من تحرشات الطامعين.. غادرتُ بعد أن وعدتني أن تقص عليّ حكايتها…
وعلى جمر الشوق انتظرت سماع قصتها.. جهّزت أوراقي… ونمت على أمل…؛ لكنّها لم تفِ بوعدها…