طاعون النفس البشرية
عندما نُشرت رواية الطّاعون لألبرت كامو اختلف النّقاد حول الطّاعون المقصود، هل هو الاحتلال النّازي لفرنسا؟ أم أن هناك طاعون آخر قصده كامو في روايته؟
أجاب الطّاعون عن عدة أسئلة فلسفية كان أبرزها الإنسانية واللامبالاة التي تبلّد المشاعر.
أسقط الطّاعون الأقنعة وعرّى الإنسان أمام مبادئه وأوقع الإنسانية في صدام مع اللاإنسانية.
ابتداءً من سلطات المدينة التي تهاونت بالتّصدي للجائحة إلى الشّخصيات الرّئيسية التي تأرجحت بين المبالاة واللامبالاة تجاه الإنسانية.
لنجد الفريق التّطوعي الذي آثر البقاء في المدينة الغارقة بالوباء في حالة نكران للذّات وتماهي مع العامة.
إلى رجل الدّين الذي استغلّ كعادة رجال الدّين الوباء وعزاه إلى عقوبة الرّب واكتفى بالصّلوات والعظات إلى أن أُصيب الأطفال والمسنين فانتصر الضّمير على السّلطة وتعاضد رجل الدّين مع الملحد في محاربة الجائحة. وانتهاءً بشخصية الانتهازي الذي يستغل الأزمات لزيادة الثّروة بالطّرق غير المشروعة.
بإسقاط رواية الطّاعون على الواقع عموماً والواقع السّوري خصوصاً نجد محاكاة صريحة لأحداث الرّواية مع ما يجري على السّاحة السّورية.
فمع بداية الحرب في سوريا بدأت صورة المجتمع تتغير ولعل أبرز صور هذا التّغير ظهور طبقة محدثي النّعمة الذين كانت لهم اليد الطولى في استمرار الصّراع لابل وتغذيته حرصاً على مصالحهم وتجارتهم التي ازدهرت على حساب الطّبقات الأخرى.
لم يقتصر الأمر على الثّروات الهائلة التي جُمعت بل تعدى ذلك تبوء تلك الفئات لمراكز قيادية في طرفيّ الصّراع.
وهنا يثار التساؤل المشروع، من أين لهم هذا؟
الإجابة ربما لا تخفى على سائل، ففي ظل الحروب والأزمات تخلق بيئة خصبة لما يسمى بتجّار الأزمات، أولئك الذين يستغلّون الفرص غير المشروعة لزيادة ثرواتهم وبالتّالي سلطتهم.
ولعل أبرز تلك الفئات هي فئة العسكريين بشقيّهم الموالي والمعارض، وكذلك المثقفين والفنانين وصولاً إلى رجال الدّين وحتى أصحاب المهن الإنسانية.
فبالنسبة للقطاع العسكري الذي تحولت مهمته من حماية الحدود من العدو الخارجي إلى قمع المظاهرات واعتقال المتظاهرين، التي تعد تجارة رابحة، فكل معتقل يعد بمثابة صفقة رابحة لضباط وعناصر الأفرع الأمنية.
بالإضافة للحواجز المنتشرة ولا سيما بين المدن، التي تحولت لمراكز جمع أتاوات من المسافرين وخاصة الشباب منهم، خوفاً من السّوق للخدمة العسكرية دون وجه حق ويتم فرض الأتاوة بحجة تشابه الأسماء أو عدم وضوح بالهوية وغالباً بدون ذريعة، فالأتاوة تُفرض على مرأى ومسمع الجميع ومن يعترض يتم توقيفه على الحاجز ليرسل إلى أحد الأفرع.
أما عن ظاهرة التعفيش التي أصبحت تجارة نشطة ولها أسواقها وتعود براءة اختراعها للجيش السوري الذي ما إن يفرغ من تمشيط الأحياء من ساكنيها، حتى يبدأ نوع آخر من التمشيط وهو تمشيط المنازل من مقتنياتها من كل شيء له ثمن.
وربما التجارة الأكثر شيوعاً وربحاً هي تجارة التهريب والخطف.
بالنسبة للتهريب، فيتم تهريب كل شيء دون استثناء وأهمها تهريب البشر الأوفر ربحاً فقد نشطت عمليات التهريب من مناطق سيطرة النظام إلى المناطق الخارجة عن سيطرته ويتولاها ضباط وعناصر الحواجز وبالجهة الأخرى التّهريب إلى الدّول المجاورة التي يتولاها قادة الفصائل المسيطرة في تلك المناطق.
بالإضافة لتهريب المواد الغذائية والمحروقات والمخدرات التي بات النظام المنافس الأكبر لتجارها مبتكراً أساليب جديدة ومتجاوزاً الحدود السورية للدول المجاورة لتصبح تجارة دولية.
وماذا عن الخطف؟ التجارة المستحدثة بظل الانفلات الأمني وانتشار السلاح وخلق ميليشيات جديدة.
فهو ينشط في مناطق سيطرة النظام وكان أبرز نجومها الطفل فواز قطيفان الذي ثبت تورط جهات أمنية بخطفه.
أما عن المثقفين والفنانين فتجارتهم تقوم على تأجير أقلامهم طمعاً برضى القيادة وبالتالي الحصول على منصب من المناصب التي باتت توزع حسب مقدار الولاء وكمية المديح والثناء وتحولت الدراما السورية بفنانيها (الوطنيين) لدراما مختصة بتقديم أعمال تمجد الجيش وقائده وتظهره بمظهر حامي الأرض والعرض ووصل الحال ببعضهم إلى اعتمار (البوط) العسكري وتقبيله على الشاشات.
ولرجال الدّين حصتهم في التّجارة من خلال تحويل دور العبادة بطوائفها كافة، إلى منابر للثناء والتّمجيد للجيش والقائد وتكفير كل من ينزل إلى الشارع بمطلب سلمي ودعوات للصبر بظل تردي الأوضاع الاقتصادية وانتشرت صور رجال الدين بمختلف الطوائف متكاتفين متحابين ليتعانق الهلال والصليب وتؤكد أن سوريا مثل يحتذى به للعيش المشترك والسّلم الأهلي الذي بات شبه معدوم في الواقع.
أما عن أصحاب المهن الإنسانية ولعل أبرزها الطب، فكان لها بصمتها من خلال عمليات تعذيب وقتل المعتقلين تلك الجرائم التي ارتكبتها زمرة من الموالين لنظام الأسد ممن ارتدوا ثوب الإنسانية ليخفوا معالم وحشيتهم، واعترف عليها مرغماً علاء موسى أثناء محاكمته بعد أن حوصر بالأدلة.
بالإضافة إلى تجارة الأعضاء التي لا تتم إلا بوجود أطباء ومخبريين.
وعن المجال الإنساني واستغلاله فالنصيب الأكبر في الحديث عنه للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام حيث ينشط عمل المنظمات الإنسانية الجمعيات الخيرية والهيئات الإغاثية.
لا نستطيع التعميم ولكن الكثير من العاملين في هذا الحقل طالتهم شبهات الاستفادة من وظائفهم واستغلالها في عمليات كسب غير مشروع وخير دليل على ذلك انتشار الخيم والوضع الإنساني المتردي بعد سنوات من عمل تلك الهيئات.
كل تلك المظاهر ليست حكراً على منطقة جغرافية أو ديموغرافية دون غيرها وإنما هي مظاهر عامة قد تولد بأي منطقة صراع بوجود أصحاب الأنفس الضعيفة المتسلقين على أوجاع الناس.
أما المستهجن فهو وصول أولئك المنتفعين إلى مراكز قيادية في كلتا الضفتين.
في مناطق سيطرة النظام الأمر معتاد وطبيعي فمنذ سيطرة الأسد على السلطة لم يول في مركز قيادي إلا أصحاب الشبهات ومن تلوثت أيديهم بدماء السوريين فهو معيار الكفاءة.
لكن الأمر مختلف في المناطق الخارجة عن سيطرة النّظام، هو أمر شائك فكيف لمن ثار ضد الفساد أن يُحكم بفاسد وكيف لمن قاتل ضد الظلم أن يقوده ظالم.
في رواية الطاعون لم يكتب كامو عن طاعون بعينه ولم يكن الأمر مجازاً عن الاحتلال النازي لفرنسا كما ذهب بعضهم.
الطاعون الذي تحدث عنه كامو، منتشر يغزونا بصمت لا تدركه أبصارنا، هو طاعون اللامبالاة تجاه الآخر طاعون الأنا وموت الضمير أثناء الأزمات إنه طاعون النفس البشرية.