fbpx

رحيل الكبار

1 155

ودعت سوريا هذا الأسبوع ثلاثاً من القامات العلمية والفكرية والأدبية النادرة: شوقي بغدادي ونذير العظمة ورفعت عطفة.

أما الدكتور نذير العظمة فهو شاعر مطبوع وهو أحد الفينيق السوري الغارب الذي حمل ثقافة سوريا إلى الشاطئ الغربي للأطلسي وقام بالتدريس في الجامعات الأمريكية زمناً قبل أن يعود إلى سوريا، وهو يزداد تمسكاً بالفكرة القومية السورية العتيدة ويردد كل يوم كلمة أنطون سعادة: كلنا مسلمون لله منا من أسلم بالقرآن ومنا من أسلم بالإنجيل ومنا من أسلم بالحكمة وليس لنا عدو يستهدفنا إلا إسرائيل.

كان الوطن السوري يسكن جوانحه بعد أن أخفق المشروع القومي العربي القائم على تجاهل الشعوب التاريخية الشريكة في الأرض، وكان يرى أن سوريا أمة تامة، وأنها يجب أن تعمل لبناء وحدتها في أرضها التاريخية بلاد الشام سوريا والأردن وفلسطين ولبنان وكان يرنو إلى قبرص نجمة تستكمل مشهد سوريا التاريخية.

كان لقاؤنا عند ضريح أبي العلاء موسماً سنوياً نكرر فيه آمال الشاعر الفيلسوف في بناء إخاء إنساني يتجاوز الطائفة والمذهب، ويحيي روح الإنسان، ولذلك وجدنا أنفسنا تلقائياً شركاء في برامج الإنقاذ لمواجهة كارثة السقوط الهائل الذي دخلت سوريا إليه منذ بداية الأحداث المريرة، ومراراً تلاقينا ورسمنا البرامج الممكنة ورفعنا إلى الدولة السورية رؤيتنا الممكنة للحل في إطار الطريق الثالث ولكن لا حياة لمن تنادي، وعملنا معاً وفشلنا معاً، وشاهدنا معاً مركب الوطن المتكسر، ولا زال حسرة في القلب لا يجبرها إلا قيام هذا الوطن المنكوب وعودة أهله إليه.

وأما الدكتور شوقي بغدادي فهو الشاعر والأديب الذي أغنى المكتبة السورية بروايات ثرية وعرفه القارئ السوري من خلال زاويته اليومية في صحف الدولة، وكان الناس يتعجبون من قراءة شوقي على هذه الصحف فقد كان دائم النقد، ولكن مكانه في الأدب والثقافة كان يرهب الرقيب الذي لا يرهب أحداً في العادة، ولكنها أقدار وحظوظ، وحين نادى مثقفو دمشق لتوقيع الإعلان الأول لحقوق الإنسان إعلان دمشق كان شوقي البغدادي من أول الموقعين عليه وقد أثار دربكة وخربطة في دوائر القرار في الدولة فالرجل محسوب علينا ونحن نفتح له صحفنا الرسمية ولكنه ينكر الجميل! ولكن شوقي كان يقرأ من أفق آخر فهي ليست مزرعة تمنحوني فيها بقرة ودجاجة، بل هي وطن نتشاركه ونتكامل فيه، وحاجة الوطن للكاتب الثائر أكثر من حاجته للكاتب المطيع، وعلى الرغم من مكانة الرجل العميقة في الأدب والثقافة ولكنه واجه حملة من الإنكار وأغلقت عليه أبواب ومنصات كانت تتزلف إليه وهذا من نكد الدنيا على الحر، ولكنه على كل حال كان يرضي ثقافته وضميره.

أما رفعت عطفة فقد كان لوناً آخر من رجال الثقافة وهو سفير الأندلس إلى قلوب العرب، وقد أغنى المكتبة العربية بروايات كثيرة ترجمها من الأدب الإسباني كما أغناها بدراسات عميقة قدمها للمكتبة العربية.

لقد كان رحيلاً موجعاً في أيام متتالية، وجدت نفسي وأنا أرثي رموز الثقافة والأدب، أدعو لهم من قلبي بأحسن المصائر في رغد الجنة، ولكنني بالفعل لم أجد فيما كتبوه رغبة بأنهار العسل وأنهار الخمر واللبن الذي لم يتغير طعمه ولا العسل المصفى، قد رأيت أن أدعو الله لهم بأصدق أمانيهم، وكتبت: اللهم أكرمهم بناد ثقافي ومسرح حيوي ومكتبة غنية وجمهور ذواق في رغد الجنة… وحين اعترض بعضهم على غرابة هذا الدعاء وجدتها فرصة لأشرح لهم رؤيتي لنعيم الجنة.

أليس قد جاءت النصوص بأن بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد، وأنا على يقين أن صاحب الثقافة والأدب لا طموح له إلا في الكتاب والمعرفة، فهو جنته ونعيمه، وهو سلوته وسروره، ومن المنطقي تماماً أن تتوفر الجنة على ما يطلبه الظافرون.

بالفعل نحتاج أن نصحح وعينا بالجنة والنار، فهذه الصيغة التي نزل بها القرآن الكريم مبنية على المجاز، وقد دعا ابن سينا منذ أكثر من ألف عام إلى إعادة كتابة المشهد الأخروي وفق نص يتجاوز مطالب العوام ويرقى إلى حاجات النخب، وهي من وجهة نظري أهم ما قدمه الفيلسوف المسلم للعقل الإسلامي، وإذا كان الأولون يفهمون المعاد لبناً وخمراً وعسلاً وحورا عيناً وغلماناً مخلدين، فإن من حقنا اليوم أن نسأل الله تعالى نعيماً يتفق مع رغائب المبدعين ومطالبهم، ويحقق لهم سعادتهم وطموحهم، وفي الواقع فإنه لا معنى للدار الآخرة إذا كانت لا تحدث فرقاً بين وافعنا الدنيوي وأمانينا في الدار الأخرة، فالدار الآخرة عندي بكلمة واحدة هي نهاية الظلم والقهر والعذاب وبداية العدالة والإنصاف والحرية، وليس بدعاً في القول أن يكون دعاء المسلم اللهم أكرمنا في المعاد بدولة ديمقراطية وحرية مسؤولة وقضاء نزيه، اللهم أكرمنا بالعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان وكرامة المرأة وتمكينها وثقافتها وحسن حضورها وتفوقها، ومن الطبيعي أن يكون دعاؤنا للأدباء هو ما تشتهيه أنفسهم من المشارح العظيمة والمجتمعات الحيوية التي تشعر بالفن وتثريه وتغنيه، وكذلك المكتبات الهائلة التي تستوعب المعرفة.

كم أتمنى أن ينهض الأدباء المتفوقون بكتابة وصف يوم المعاد على قد آمالنا وحسن ظننا بالله تعالى، ويقيننا بأنه مظهر الكمال والجلال والجمال، وهكذا يجب أن يكون عباده في دار ضيافته وكرامته، بعيداً عن ظاهر النصوص التي قدم فقهاؤنا لها تأويلاً قاسياً غير عقلاني لمشاهد الهول التي تتناقض مع كل حرية وكل كرامة.

1 تعليق
  1. أسعد البحري says

    لأرواحهم السلام والرحمة والكاتب والناشر شكري واحترامي

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني