دعوة لإنصاف أحرار سورية وحكمائها
ودّعت حمص المفكر الكبير طيب تيزيني، أشهر رجال الفلسفة والحكمة في سورية، وأبرز وجوه التنوير والإصلاح.
ومع أن أقلاماً كثيرة ستتناوب التعريف بالراحل الكبير، فإنني أجد أن من واجبي أن أتحدث في الطيب، بوصفه جزءاً من حركة التنوير الإسلامي له مكانه بين أسلافه من دعاة التنوير والتجديد الديني.
ولا بد من الإشارة أولاً إلى الشعبوية الهائجة التي صاحبت حوارات البوطي والتيزيني الشهيرة في الإعلام السوري، وفي مدرج الجامعة نهاية القرن الماضي، فقد أفرد الخطاب الشعبوي مكان التيزيني محض متمرد على الله ورسوله، يمثل الفكر الإلحادي في مقابل فقيه يقوم بذكاء بالتبشير لهذا الزنديق، بغية رده إلى الصراط المستقيم! وبطريقة ديداتية سواغارتية، كان كثير من الغوغاء يوصّفون الحوار وفق منطق: “ألقمَه حجراً، فضَح أباطيله، فبُهت الذي كفر!!” وغير ذلك من صيغ الحوار الشعبوي الباب حاراتي، وهو أبعد ما يكون عن منطق الحوار وعن الشخصية الهادئة الوقورة للطيب التيزيني.
وفي الواقع، كان هذا اللون القروسطي في توصيف الحوارات محض إساءة متعمدة للطيب التيزيني الذي كان يؤمن للغاية برسالته في إصلاح الإسلام إيماناً لا يقلّ عن خصمه البوطي، ولم يكن ينظر إلى خصمه في الحوار أي نظرة استعلاء أو عداء، واشتهرت عنه عبارته: إننا نكتسب الأهمية والقيمة من الآخر الذي يخالفنا، وليس ممن يوافقنا الرأي، وعندما تفقد خصمك تفقد ذاتك!
كتب طيب تيزيني قراءته للإسلام بوضوح فريد، في كتابه مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر، وهو ما أعاد تدوينه وإنضاجه في الأعمال التالية وخاصة في دراساته الهرمونوطيقية، وتمييزه الواضح بين مرحلتين الإسلام قياماً وولادة، والإسلام وثوباً وحضارة، وفي كلتا الحالتين كان التيزيني يصر على قراءة القيام على منصة الديالكتيك الهيجلي، ولكنه استطاع أن يضيف في هذا الديالكتيك الميكانيكي المحض الجانب الإنساني، في وعي أكيد (أكاد أقسم عليه) يشف منه وجه الله، في حركة التاريخ.
ومع أنه لم يمس الديالكتيك الهيجلي في القيام الأبستمولوجي والأنطولوجي، فإنه اختار أن يكون ديالكتيك الأكسولوجيا (القيم) ذا طابع إنساني يختلف عن صرامة ميكانيكا الكم، وعن الديالكتيك الاقتصادي، وهو في ذلك يقف في مواجهة مباشرة مع اشبلنجر وتوينبي، في رفضه لتدجين يوتوبيا الديالكتيك على وفق القوانين الفيزيائية الصارمة العمياء.
وعلى الرغم من أن الرجل وُلد وعاش ومات في محراب الديالكتيك الماركسي الاقتصادي، فإن الحدود الفلسفية التي ألزم دراسته بها في الشأن الأكسولوجي جعلت قراءته للقيام الإسلامي أكثر وعياً، ومن وجهة نظري، فإنه قدم خدمة تاريخية للفكر الديالكتيكي، وأغناه بوعيه البنيوي كما تغتني اللغات بتعدد الأزمنة، وكما تغتني الأكاديميا بتعدد الرتب، وبذلك فإنه منح الديالكتيك بصيرته بحيث يتم إسقاط البعد الإنساني في الحركات الاجتماعية بشكل أوضح من البعد الاقتصادي، وإن كان لا يخرج من دائرة الديالكتيك الصارمة تحليلاً وشرحاً.
إنه يرسم ديالكتيكه في القيام الإسلامي على أساس إنساني في المقام الأول، فلم يقم بتوصيف الأطروحة والتركيب ونفي النفي على أساس الصراع الطبقي، بل على صراع الأحرار والعبيد، وصراع المرأة والمجتمع، وصراع العلم والجهل، وصراع التحضر والتعرب، وهي قيم ديالكتيكية أشد بصيرة من الحصر التقليدي في الصراع على وسائل الإنتاج الذي هو أيقونة التفكير الماركسي في كل خفايا الوجود.
وفي اقتحام أشد شجاعة، مضى طيب إلى تحليل الخالق، ذاتاً وصفاتاً، عبر أدواته الديالكتيكية البصيرة نفسها، وإذ أشار إلى الأساليب التي مارسها النساطرة واليعاقبة والملكانيون في تجسير ما بين الخالق والمخلوق والدخول في جدلية ثنائيات الطبيعة والإرادة والأقنومية، رأى أن الإسلام كان دقيقاً في منع هذا التجسير والإصرار على الخالق البائن من خلقه، وهذا يعيد سؤال الوجود إلى مربعه الأول، ومن هنا، فإنه يشيد بكفاح الفلاسفة الإسلاميين لبناء جسور أخرى، للإجابة عن هذا التساؤل وبناء علاقة ثقة وتكامل مع الكون عبر تكريس نظريات الانبثاق والانبعاث، وفق ما شرحه من نظرية وحدة الوجود ونظرية الفيض التي تعالج أشد مسائل الأنطولوجيا تعقيداً، فتشير إلى انفراد الوعي الإسلامي، بمعنى الخلق من عدم وليس التحول من الذوات المترافدة، ومع ذلك فإنه اقتبس كينونته في الوعي عن الله كظهور الكلام من المتكلم، والنفس من المتنفس، والظل من الذات، دون أن يتورط في نظريه الحلول والتجسد.
ومع أن رؤيته للديالكتيك الإنساني في القيام الإسلامي أصيلة وجديدة، فإنني لم أرَها قد أفردت بعنوان في دراساته، على الرغم من إحساسي بأنها أهم ما كتبه الرجل في تحليل الجدل الحضاري في الإسلام، وبنائه على المحرك الإنساني البصير، وهو بذلك يعترض على الرؤية التوراتية الشائعة في خطايا الإنسان الأولى التي أجبرته على العذاب السلبي طريقاً للخلاص، كما هي الحال في المسيحية، وبخلاف ذلك فإنه ذهب إلى الإصرار على أن الكفاحية الدنيوية المغلفة بأغلفة دينية هي محتوى الخلاص في الإسلام.
يطرح طيب بحماسة بالغة جدل الإصلاح الإسلامي، ناقداً لا حاقداً، ويدعو بوضوح إلى الإيمان بإمكانية الإصلاح والتنوير في النص الديني، بوصفه أداة الإصلاح الأكثر فاعلية في المجتمعات الإسلامية، ويصر على أن نقد النص الديني قد تم إطلاقه بإشراف القرآن نفسه الذي دعا إلى وجود محكمات ومتشابهات وناسخ ومنسوخ، وتالياً طبقه علماء الأصول في صيغة عام وخاص ومطلق ومقيد ومجاز وحقيقة، وهي أدوات بصيرة وفعالة، وتكفي لإنتاج علم الجرح والتعديل في القرآن نفسه، استناداً إلى القاعدة الأصولية الشهيرة لا ينكر تغيّر الأحكام بتغير الأزمان، وفي تعبير أشد وضوحاً يختار ما قرره غارودي في وعيه بقدرة القرآن الكريم على الكفاح البنائي والاشتراك الحضاري وفق قاعدة: نور يهدي وليس قيداً يأسر.
وحين تتابع ما كتبه طيب في أعماله المتصلة بالتراث مثل: (النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة)، وكتابه (من يهوه إلى الله)، ومقاله الذي حرره ضمن مجلدة (الإسلام والعصر)، تدرك أن من حق الرجل ليس أن يذكر في مدرسة ابن سينا والكندي والفارابي وابن طفيل فحسب، بل أن يذكر اسمه مع الشاطبي والغزالي والقرافي أيضاً، وهو بذلك يخدم الهدف الذي يستحقه، وهو أن التراث الإسلامي ليس ملكاً لرجال الدين ينتجون منه ما يحتاج إليه الإكليروس، بل هو في العمق حاجة مجتمعية وأبستمولوجية، تعني كل مثقف ويجب احترام اجتهاده، مهما عاند فهم الكهنوت.
بالتأكيد لا تستطيع هذه السطور أن ترسم ملامح النظرية التي كتبها الرجل في دراسات امتدت لعشرات السنين، ولكنها يمكن أن تكون تحريضاً لكليات الشريعة وأقسام أصول الفقه، للوعي بالمشروع الفكري التنويري في التراث الديني الذي قدمه طيب، ومن يدري فلعلنا نشهد عن قريب رسالة دكتوراة حول الجرح والتعديل القرآني في كليات الشريعة، أو عن علم الديالكتيك الإنساني الأكسولوجي في كليات الفلسفة، وفق أطروحات طيب تيزيني.
نشرت هذه المقالة في جيرون عام 2019