خطاب الكراهية بواعثه ومحدّداته، في الحالة السورية
ليس وباءً ينتقل بالعدوى من شعب إلى آخر، وليس لعنة تعاقبنا بها السماء، وكذلك ليس طبعاً ينبثق من النفس البشرية كتعبير عن سمة فطرية لدى المرء، بل هو أشبه ما يكون بالبذرة التي تحملها الرياح، وتطوف بها في الأكوان، أينما وجدت التربة والمناخ المناسب لنموّها، أفرعت واخصبت، ذلك هو خطاب الكراهية، الذي غدا من أبرز العلامات الدالّة على بؤس الحالة المجتمعية الراهنة في سورية، إذ ليس من قبيل المصادفة المجانية، أن تتزامن غزارة هذا الخطاب مع حالة شديدة النصوع من التشظّي السياسي والأخلاقي والإجتماعي.
سأنطلق – في هذه المقالة الوجيزة – من فرضية مؤداها: أن حضور خطاب الكراهية هو مقترن – في الحالة السورية – بغياب شبه تام لمفهوم ( الوطنية)، أي غياب الخطاب الوطني الجامع الذي يعبّر عن تطلعات السوريين بكل مكوّناتهم، ويجسّد أهدافهم، و يحدّد بوضوح ملامح هويتهم وانتمائهم الوطني،ويُفصح عن حاجاتهم وأولوياتهم.
ولئن كان من الصحيح أن غياب هذا المفهوم لم يكن إحدى شواغل المثقفين السوريين قبل عام 2011 ، بسبب وجود (وطنية) وهمية أو مُفتعلة حاول نظام الإستبداد فرضها قسراً على المجتمع السوري، إلّا أن الكشوفات المعرفية للثورة السورية، قد أظهرت بوضوح أن عملية التغيير السياسي والاجتماعي لا بدّ أن تكون مشروطة بوجود المقوّمات الجوهرية لأيّ انتقال أو تحوّل من المرحلة التسلّطية إلى دولة القانون والديمقراطية، ولعلّ من أبرز هذه المقوّمات، هو مفهوم ( الوطنية) الذي ما يزال غائباً منذ ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن، وذلك بفعل عوامل ثلاثة:
1 – حزب البعث والخطاب القومي:
لن أقف طويلاً عند المقولات التي تحاول التمييز بين فكر البعث ومحدّداته النظرية، وبين سلوك السلطات العسكرية المتعاقبة على الحكم في سورية منذ عام 1963 وحتى الوقت الراهن،ذلك أن هذه الفكرة، وإن تكن صحيحة بلا أدنى ريب، فإنها لا تختزل المشكلة برمتها، إذ يبقى جزءٌ مهمٌّ من الإشكالية كامناً في تضاعيف الخطاب الفكري والسياسي لحزب البعث، وقد تجلّى ذلك في مسألتين إثنتين:
الأولى: على الرغم من مركزية مفهوم ( العروبة) لدى المفكرين البعثيين، إلّا أنهم لم يفلحوا في نقل هذا المفهوم من إطاره العرقي الضيّق، إلى إطاره الثقافي العام، إذ أضحت العروبة تجسّد إنتماءً عرقياً للعنصر العربي، وهو المعني – دون غيره من الشعوب أو المكونات الأخرى داخل الدولة السسورية – بمشروع النهضة والتحرر، الامر الذي فُهم على انه إقصاء واستبعاد للآخر، غير العربي، داخل الدولة الواحدة، وممّا عزّز هذه القناعة لدى غير العربي، هو مجموع الممارسات السياسية للسلطات المتعاقبة على الحكم في سورية، والتي كانت تنحو بمجملها نحو تجاهل الحقوق العامة للمكونات الأخرى، وفي مقدمتها حقوق الأكراد. ولا ريب في أن المعنى الثقافي والحضاري لمفهوم ( الأمة) هو اكثر غنًى وانفتاحاً وازدهاراً من المعنى العرقي، وهذه ليست دعوة إلى تجرّد الإنسان من نسبه، أو تنكّره لانتمائه القومي، بل هي مسعى نحو جعْل مفهوم (العروبة) أكثر انسجاماً مع سياقه الإنساني العام. فالإنسان، إذ يولد عربياً أو كردياً أو فرنسياً أو ….إلخ، فهذا لم يكن خياره، ولا فضل له بهذا النسب على سواه، فضلاً عن ان هذا الإنتماء العرقي يخصّه وحده دون سواه، أمّا حين يصبح هذا الانتماء إطاراً لمشروع مجتمعي متعدد القوميات، فعندئذٍ لن يكون هذا المشروع خاصاً بقومية محددة، بل ينبغي أن يكون إطاراً جامعاً، يلبي تطلعات واحتياجات جميع الأطراف، دون إقصاء أو استبعاد ، أو تجاهل للحقوق.
الثانية: زخرت الأدبيات السياسية للفكر القومي العربي بمصطلح ( الدولة القطرية) الذي اتسم بانطباع سلبي على الدوام، فالدولة القطرية باتت مصدر إيحاءات ذهنية ونفسية عديدة، فهي رمز للتجزئة والضعف والتخلف، بل باتت في نظر البعض مصدر الشرور والبلاء كافة، ولهذا فهي لا تستحق الاهتمام في بنائها وتطويرها، لأن هذا المسعى – كما يرى البعض – يجسد تكريساً لما سعى إليه الاستعمار، فهي في أفضل حالاتها ليست أكثر من حالة راهنة، يتوجب تجاوزها إلى بناء كيان قومي موحّد تجتمع فيه الأوصال ( الكيانات القطرية)، وذلك الكيان الموحد ( الدولة العربية الواحدة) هو ما يستحق الاهتمام ويوجب التطوير.
فالكيانات الراهنة في نظر القوميين، والتي هي في واقع الحال، هذه الدول التي نعيش في أكنافها، لم تبدُ سوى دول مهترئة وهشة، ومبعث هشاشتها ليس بسبب عدم توحّدها كما يوحي به الخطاب القومي ، بل بسبب افتقارها إلى مجمل النواظم القانونية والاجتماعية والأخلاقية التي تحدّد العلاقة فيما بين الأفراد بعضهم البعض، أو بين الفرد والدولة، وكذلك بسبب افتقار مواطني هذه الدول إلى الحصانة الإنسانية التي تتقوّم على الحريات بكافة أشكالها، وعلى مبدأ المواطنة والديمقراطية وسيادة القانون، هذه الحصانة هي المؤسِّس الحقيقي لمفهوم الوطنية الذي سبّبَ غيابُه بروزَ مجمل التناقضات العرقية والطائفية والسياسية التي تستنزف طاقات الشعوب، فضلاً عن كونه الباعث الرئيس لخطاب الكراهية الذي نراه متفشياً الآن أكثر من أي وقت مضى، أضف إلى ذلك، أن التجارب الوحدوية الأكثر نجاحاً عبر التاريخ، هي تلك التي تتأسس على وحدة المصالح وتكامل الاقتصاد وتلبية الحاجات المجتمعية، وليست تلك التي تتأسس على خطاب إيديولوجي مبعثه الدين والثقافة واللغة وحسب.
2 – الطائفية:
ما من ريب، في أن معاناة السوريين لا تكمن في كونهم يواجهون نظاماً سياسياً مستبدّاً فحسب، بل في كونهم يواجهون إستبداداً ( مركّباً)، وأعني بذلك الاستبداد السياسي والطائفي معاً، ولن أقف عند التفاصيل التي تتحدّث عن تشكيل اللجنة العسكرية داخل حزب البعث عام 1958 ، والتي رسمت معالم السيرورة الطائفية لنظام الحكم في سورية، بل يمكن الوقوف بإيجاز عند المعطيات الواقعية المحسوسة لتكريس الطائفية داخل منظومة الدولة، منذ انقلاب 1966 ، حيث تمكّن الضباط العلويون من إحكام قبضتهم على المفاصل العسكرية في البلاد، وبات واضحاً – مذ ذاك – أن مشهد السلطة وحزب البعث، باتا يخضعان لسلطة العسكر المباشرة، موازاة مع انزياح القيادات المدنية للحزب، ومع وصول حافظ الأسد إلى السلطة من خلال انقلاب 1970 ، بدات الممارسات الطائفية تأخذ مساراً اكثر منهجيةً، إذ كان هاجس الأسد الأب منذ البداية هو هندسة أهمّ قطاعين في الدولة، وهما : الجيش والمخابرات، وقد عزّز اهتمام الأسد بهذين القطاعين المواجهة الدامية بينه وبين الإخوان المسلمين 1980 ، إذ اتخذ الأسد من هذه المواجهة ذريعة للانقضاض على كافة القوى السياسية المعارضة لنهجه في الحكم، ومنذ ذلك الحين، شهد المجتمع السوري إنقساماً حادّا، إذ اختزل حافظ الأسد مفاهيم ( الدولة – الوطن – الوطنية ) بشخصه كحاكم للبلاد، ومن خلال امتلاكه للجيش والمخابرات، استطاع مصادرة الحياة السياسية كاملة، وباتت الوظيفة الحيوية لمؤسسات الدولة ذات سمة أمنية، إذ إن الخطاب الثقافي والسياسي والديني عليه أن يسعى لهدف واحد، هو إعادة إنتاج السلطة وتبرير سلوكها، فضلاً عن إفراغ مؤسسات الدولة من مضمونها السيادي وإخضاعها بشكل مباشر أو غير مباشر للسلطة الأمنية التي هي وحدها موضع ثقة الرئيس.
تسلّط النظام الأسدي على سورية منذ خمسين عاماً وما يزال، مستخدِماً الإكراه والقمع والتخويف، بل وصلت الأمور في كثير من الأحيان إلى التصفيات الجسدية، ليس لحالات فردية، لجماعات وأحزاب وشرائح إجتماعية عديدة، ولن يكون المُنجَز الطبيعي لنصف قرن مضى سوى أشلاء مجتمع مقهور، لا يحتاج إلى مقوّمات وجوده المادية فحسب، بل إلى استعادة عافيته القيمية أيضاً.
3 – الجماعات العابرة للحدود:
وأعني بها جميع الكيانات الدينية والقومية والمذهبية التي تموضعت على الأرض السورية، حاملةً مشاريع وأجندات ذات منشأ غير سوري، مستغلّة حالة الفوضى وغياب الدولة، لتقيم أمارات وإدارات مفروضةً بقوّة السلاح، ومن خلال تسع سنوات مضت من عمر الثورة السورية، بات جلّياً أن جميع هذه القوى تعمل من مواقعها المختلفة، على مناهضة المشروع الوطني السوري، بل إن مظاهر الخراب التي حملتها معها إلى سورية لم تكن أقل خطراً على ثورة السوريين من نظام الأسد ذاته، إن لم نقل انها كانت متحالفة مع النظام في كثير من الأزمان والأماكن، وبغياب تام لأي حامل وطني جامع لهذه القوى، فإن سلاحها الرئيس هو المطاحنات الدينية والقومية والطائفية، والعودة بالمجتمع السوري إلى حالة موغلة في البدائية، من خلال تغذية الأحقاد التاريخية والشحن المذهبي والتحريض القومي، تزامناً مع ممارسات في غاية التوحّش، وبإيجاز شديد، إن هذه القوى والجماعات جسّدت المشروع النقيض للمشروع الوطني السوري.
نحو مفهوم جامع للوطنية السورية
مع انطلاقة الثورة السورية وزوال حاجز الخوف، والتحرر النفسي من الروادع الكابحة، ظهرت بوضوح هشاشة العبارات والمفاهيم التي كانت توشّي خطاب السلطة طيلة عقود من الزمن، وبات جليّاً أن ما كان يظهر على أنه علائم اجتماعية إيجابية ، ما هو في حقيقة الأمر سوى عبارات فرضتها مركزية القمع وبطش السلطة، أمّا واقع الحال في الجذر الاجتماعي فهو مزيد من التشظي والتنابذ والتناقض الثقافي والعقدي والاجتماعي والعرقي، ولعل ازدياد العنف بشتى أشكاله ومصادره على الأرض السورية قد أتاح المجال لظهور مجمل مظاهر الأزمة المجتمعية أفقياً وعامودياً، وبالتالي أصبح من المألوف جداً أن ترى النخب الثقافية تعود بلا وجل إلى حواضنها البدائية ( عشائرية – مناطقية – طائفية ) كما بات من غير المريب رؤية حاملي الأيديولوجيات الكونية يعودون فجأة إلى ملاذهم الطائفي أو الإثني، أضف إلى ذلك تعدد الولاءات للمشاريع الوافدة من الخارج.
لا شك أن الخروج من هذا المأزق التاريخي هو مرهون بقدرة السوريين على إنضاج حالة وطنية جامعة ينضوي السوريون تحت ظلالها. وكذلك بقدرتهم على ردم الشروخ داخل المجتمع السوري، تلك الشروخ التي لا تتوقف أسبابها على تداعيات الحرب العسكرية فحسب، بل تعود إلى غياب العقد الاجتماعي الذي يجسد التطلعات المشتركة للسوريين.
ولئن كانت التداعيات الكارثية لخطاب الكراهية لا تتجسّد بحضورها المادي فحسب، بل لا شكّ أنها تترك بصمات غائرة ومؤلمة في نفوس الشعوب والجماعات والأفراد ، وكذلك تؤسس لانبعاث أشكال متعددة من الكراهية وليس شكلاً واحداً فقط، فإنني لعلى يقين بأن مواجهة هذا الخطر المدمّر لن تكون مجدية إلّا باستعادة الحقوق المسلوبة اولاً، سواء أكانت حقوق أفراد أو جماعات أو شعوب، وكذلك لن تكون مجدية دون إيجاد عقد إجتماعي سوري يحظى بتوافق جميع السوريين، يتضمن الإقرار بأولوية عودة السلطة للشعب، وإقرار مبدأ المواطنة والديمقراطية وسيادة القانون، أي انتقال سورية من طور التسلط والاستبداد، إلى طور الحداثة والديمقراطية.
مساهمة الأستاذ حسن النيفي في مبادرة “معاً في مواجهة خطاب الكراهية” التي أطلقها اللقاء الوطني الديمقراطي في سوريا، وتنشرها نينار برس بالتعاون معهم.
حسن النيفي من مواليد 1963 مدينة منبج تابعة لمحافظة حلب ،إجازة في الأدب العربي من جامعة حلب.
كاتب وباحث سياسي، معتقل سابق