fbpx

بين اجترار الوهم وردّات الفعل.. تتعزز مأساة السوريين

0 320

فيما يبدو العالم مشغولاً بمواجهة الوباء الذي لم يستثن أحداً، يمضي السوريون في مواجهة وباء (مُركَّب)، ينبثق شطره الأول من مأساتهم المستمرّة منذ تسع سنوات، في حين ينبثق شطره الثاني من الجائحة التي باتت تهدد أرواحهم، كما تهدد سواهم. وعلى الرغم من انشغال العالم أجمع واجتهاده الدؤوب لاحتواء التداعيات التي يخلّفها (COVED 19)، إلّا أن الوباء الأشدّ وجعاً والأكثر إيلاماً بالنسبة إلى السوريين، هو استمرار آلة الحرب في حصد أرواحهم وتشريد عشرات الآلاف منهم، وازدياد وطأة البؤس على من بقي حيّاً يقيم في بيته.
لعلّه بميسور المرء، أن يدرك دون مزيد من العناء، التداعيات الشديدة التي استبدّت في نفوس معظم السوريين، والتي أورثتها حربُ نظام الأسد وحلفائه على الشعب السوري، ولعل أبرز تلك التداعيات هي حالة الإحباط والقنوط لدى قطاعات واسعة، لم تعد تسعفها القدرة على مواجه فظائع الإجرام الأسدي التي طالت جميع الفئات السورية ، بما فيها الفئات الموالية لرأس النظام، ما يدفع الكثيرين – والحال كذلك – إلى ميل شديد لتقبّل الشائعات وتصديقها، نتيجة استعداد نفسي لانتظار الحلول التي تأتي من خارج نطاق البشر، وباختصار شديد، هي حالة أقرب ما تكون إلى حالة السجين الذي استبدّ به اليأس والإحباط ، ولم يعد يرى أيّ معطى واقعي يشير إلى اقتراب الفرج، فيمضي بينه وبين نفسه، مؤمّلاً أن تُفتَح أمامه أبواب السجن بفعل قوى غيبية.
لن تكون أحوال الكثير من السوريين في الظروف الراهنة بعيدة عما ذُكِر آنفاً، حيال ما نشهده من تفاعلات وردود أفعال على ما تتناقله وسائل التواصل الاجتماعي من شائعات أو أقوال توحي باقتراب نهاية الصراع في سورية، وتحثّ على الاستعداد لمرحلة سياسية جديدة، تبدأ بانزياح الأسد عن السلطة.
ولئن كانت تغريدات الصحفي الإسرائيلي إيدي كوهين، وتنبؤاته بزوال بشار الأسد عن السلطة في مقتبل شهر تموز، بل وترشيحه شخصيات سورية لقيادة البلد، قد شغلت مساحة لا بأس بها من الرأي العام للجمهور، فإن هذا الانشغال والتفاعل لدى سواد الناس يمكن تفهّمه وتفسيره استناداً لما قلنا أعلاه، أمّا أن يمتد هذا التفاعل والانشغال، إلى فئات سياسية، تعدّ نفسها من الأطراف المعنية والفاعلة في الشأن العام، فذلك ما يستدعي الوقوف عنده، إذ يمكن لنا تشخيص تفاعل الفئات (السياسية) مع (المتنبئ كوهين) من خلال نمطين من الاستجابة:
النمط الأول: ينظر برضىً (ضمني) إلى ما يُشاع، وإن لم يصرّح بذلك، يقيناً منه بأن إسرائيل هي من تملك مفاتيح حلول الأزمات، ليس في سورية فحسب، بل في المنطقة برمتها، ومجرّد تخلّيها عن رأس الأسد، سيصبح هذا الرأس عرضةً للدحرجة، أمّا لماذا تخلّت إسرائيل عن الأسد الآن وليس في أي وقت مضى؟ فيجيب هؤلاء بأن الأسد قد استوفى دوره بتدمير سورية، ولم يعد ثمة خطر يهدّد أمن إسرائيل في المستقبل انطلاقاً من الجغرافية السورية، وهذا الجواب يستدعي – بداهةً – الإقرار التام بأن مصالح الدول الكبرى، وبخاصة روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، مرهونة بمصلحة إسرائيل، التي هي وحدها من يمسك بزمام التحوّلات السياسية في منطقة الشرق الأوسط.
النمط الثاني: يتّسم تفاعله مع ما يشاع برفض معلن، إذ إنه لا يستبعد أن تكون سيناريوهات إيدي كوهين أمراً قابلاً للتحقق، لاعتقاده، كما النمط الأول، بلامحدودية الإرادة الإسرائيلية من جهة، وبسطوة تل أبيب ونفوذ تأثيرها على مراكز القرار الدولي من جهة أخرى، إلّا أن أصحاب هذا الرأي لا يدعون إلى التسليم بتلك التنبؤات المرشّحة لأن تتحوّل إلى وقائع قائمة، بل ينادون بمقاومتها، إيماناً منهم بضرورة الحفاظ على أن يكون التغيير في سورية وطنياً، وحرصاً منهم – كذلك – على عدم السماح لإسرائيل باستبدال حاكمٍ مستبدّ، بحاكم عميلٍ لها، وهذا ما يستدعي – وفقاً لأصحاب هذا الرأي – دعوة القوى السورية مجتمعة، إلى (مؤتمر وطني عام)، يتوافق السوريون من خلاله، على رسم ملامح سورية الجديدة، سورية ما بعد بشار الأسد.
وعلى الرغم من التباين الملحوظ بين ما يفكر فيه النمطان السابقان، إلّا أن ثمة ما يَسِمُ تفكير الطرفين بآن واحد، إذ ينطلق كلاهما من قناعة تشي بأن الصراع في سورية أوشك على نهايته، وأن ثمة توافقاً بات وشيك الحصول بين الأطراف الدولية ذات المصالح المتصارعة على الأرض السورية، الأمر الذي يسهم في إنضاج حل سياسي، يوشك أن يكون قريباً. وحيال الموقفين السابقين، يمكن أن يقال الكثير، ولكن نظراً للحيّز المتاح في هذه المقالة، سأكتفي بذكر ثلاث ملاحظات وجيزة:
1 – إن الاعتقاد بانتهاء الصراع بين الأطراف ذات المصالح المتناحرة في سورية قد أشرف على النهاية، لهو اعتقاد لا يستند – مطلقاً – إلى أي معطى واقعي، فالحشود العسكرية التركية التي تتدفق إلى المناطق السورية، لا توحي بأن مسار أستانا قد أثمر من الناحية السياسية، والرفض الأمريكي، ومن خلفه الأوربي، لمسعى بوتين الرامي إلى تعويم نظام الأسد من جديد، بدا أمراً شديد الوضوح أكثر من ذي قبل، فضلاً عن أن التلويح الأمريكي بتنفيذ بنود قانون (قيصر) مطلع حزيران القادم، ثم الإصرار على أن يكون الحل السياسي في سورية مقروناً – حصراً – بمرجعية جنيف، لهو رسالة أمريكية شديدة الوضوح، يراد منها إبلاغ الروس، بأن بوتين لن يتمكن من تحويل مُنجَزه العسكري إلى نصر سياسي، واستثمار اقتصادي.
2 – لئن اقتضت المصالح الروسية التخلّي عن رأس النظام في دمشق، فهل ستتخلى عنه إيران؟ أليست إيران هي أكثر تمسّكاً بنظام الأسد من أي طرف آخر، نظراً للعلاقة العضوية بين طهران ونظام الحكم في سورية؟
3 – على الرغم من مشروعية الدعوة إلى ( مؤتمر وطني عام)، وذلك على ضوء تهالك الكيانات الرسمية للمعارضة، وتشظي قوى الثورة السورية، وارتهان العديد منها لأجندات خارجية، ما أدى إلى افتقاد القرار الوطني الذي أدخل السوريين في حالة من اليُتْم السياسي، أقول: على الرغم من جميع الأسباب الموجبة لهكذا مؤتمر افتراضي، إلّا أن المشكلة تكمن في الأهداف المعلنة من وراء انعقاده، ذلك أن الجهات الداعية إليه، تريد منه أن يكون مناسبة للتوافق على شكل سورية الجديدة، وكأن بقاء النظام إلى هذه اللحظة سببه عدم توافق السوريين على شكل الحكم، أو على الدستور، أو أشياء من قبيل ذلك، علماً أن ما كُتبَ من وثائق ودراسات وأوراق وبحوث بخصوص هذا الموضوع، يكاد يبلغ وزنه أطناناً من الورق، فضلاً عن تحوّل هذه الأنواع مما كُتب إلى حالة من النمطية، لشدّة التشابه فيما بينها. ولعل اللافت للانتباه، أن معظم الدعوات السابقة والراهنة، إلى انعقاد هكذا مؤتمرات، كانت تستهدف جميعها مستقبل سورية، ولم تكن تعنى بكيفية العبور إلى ذلك المستقبل المنشود، إذ إننا لم نشهد دعوة من هذه الدعوات قد دعت السوريين إلى لقاء وطني عام، الهدف منه: التوافق على تصورات وخطط وآليات لانتزاع الدولة السورية من حوزة الأسد أولاً، ومن ثم التوافق على شكل سورية المنشودة. ولعل التمادي بتجاهل العقبة الأساسية الأهم، وهي انتزاع السلطة أولاً من النظام الحاكم، ما هو – في الجوهر – سوى هروب من مواجهة استحقاق جوهري، طالما بدت المعارضة السورية حتى الآن، عاجزةً عن الوقوف أمامه.
ما من شك، في أن استمرار نظام الأسد في استباحة دم السوريين وترويعهم إلى اللحظة الراهنة، ليس دليلاً على مشروعية إجرامه أو تماسكه، أو جدارته في البقاء، بل لعلّ الأرجح هو استراتيجيات المواجهة التي تمتلكها القوى المناهضة له، ولعل أهم سمة لتلك الاستراتيجيات، هي اتخاذ ردّات الفعل أساساً للمواجهة، وليس التصورات الناضجة والبرامج المحكمة والآليات الدقيقة والمدروسة، وفي استمرار هذا النمط من التفكير الذي لا تحرّكه سوى ردّات الفعل، فليس من المستغرب، أن تتمكن تغريدات صحفي إسرائيلي وضيع، من إحداث حالة من التشويش الذي أشغل مساحات واسعة في أوساط السوريين.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني