fbpx

العلاقات الأمريكية الروسية الشرق أوسطية.. صراع أم تقاسم نفوذ

0 244

مقدمة:

يحتاج الحديث عن العلاقات الأمريكية الروسية الشرق الأوسطية إلى معرفة مصالح ونفوذ وقدرات وحلفاء الجانبين في هذه المنطقة الحيوية من العالم. ويحتاج فهم الصراع بينهما إلى معرفة ميزان القوى السياسي والاقتصادي والتقاني وإلى أي الجهتين يكون رجحان هذا الميزان. فالروس وعبر تاريخهم المعاصر المتمثل بمرحلتين هما المرحلة السوفيتية والمرحلة ما بعد السوفيتية، كانوا يعملون بدأبٍ شديدٍ من أجل خلق توازن شامل بينهم وبين معسكرهم من جهة وبين العالم الغربي. وبعد الحرب العالمية الثانية أخذ الصراع بين الجانبين صورة الحرب الباردة، ولكن الروس كانوا يدركون التفاوت الكبير اقتصادياً وعلمياً بينهم وبين الغرب وتحديداً مع قاطرته الرئيسية الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأمر الذي دفعهم حسب اعتقادهم إلى العمل من أجل ردم هوّة التفاوت عبر التوازن العسكري وتحديداً “النووي” منه. ولكن يمكن الإقرار بدأب روسيا في عهدها الحالي بقيادة فلاديمير بوتين من أجل التحوّل إلى قوّة عظمى، ليس عسكرياً فحسب، بل في الجوانب الاقتصادية والسياسية والعلمية.

ومع ذلك ينبغي الإقرار أنّ روسيا “لم تعد القوّة العظمى التي كانت في السابق، إلاّ أن منطقة الشرق الأوسط منطقة هشّة، ولا تحتاج موسكو إلى بذل الكثير من الجهود لتأكيد نفوذها في الحصول على موطئ قدمٍ عسكريٍ هناك”(1).

السياسة الروسية في الشرق الأوسط:

الروس ومنذ زمن بعيد تراود مخيلتهم فكرة إيجاد موضع قدمٍ ونفوذٍ في “المياه الدافئة”، ولعلّ الدور الروسي في فترة الحرب الباردة استطاع إيجاد هذا الموضع من خلال بعض الدول في المنطقة مثل مصر في عهد الرئيس عبد الناصر وسوريا أو العراق في عهد حكم البعث. كانت هذه البلدان تصنّف حسب المفهوم “السوفياتي” بلدان تحرر وطني. ولكن هذه العلاقات كانت خاضعة لاعتقاد أيديولوجي أكثر من كونه مصالح سياسية نفعية متبادلة، وهو أمر جعل قيادة السوفيات آنذاك تخسر على المستوى الاقتصادي لتكسب على المستوى السياسي، فهي كانت تقدّم المساعدات العسكرية والاقتصادية والعلمية دون الحصول على أثمان مساوية مقابل ذلك. وبعد سقوط دولة الاتحاد السوفياتي عام 1991 ورثت روسيا أغلب ما يتعلق بتركات الدولة السوفياتية، سواءً عسكرياً أو اقتصادياً، وحتى على مستوى المقعد الدائم في مجلس الأمن الدولي. وصار واضحاً بالنسبة لروسيا أن يكون هدفها الرئيسي هو “العمل على تعميق نفوذها في الشرق الأوسط من خلال استعادة مصالحها الكبيرة في المنطقة والتي كانت تملكها إبّان الحرب الباردة مع الغرب، كذلك إبعاد الولايات المتحدة عن مناطق نفوذها في البحر المتوسط وخصوصاً سوريا”(2).

إنّ السياسة الخارجية الحالية للدولة الروسية في الشرق الأوسط هي سياسة تقوم على أمور عدّة تحظى بأولوية روسية، ويأتي في مقدمة هذه السياسة إيجاد جسور علاقات اقتصادية وتجارية وعسكرية مع شركائها القدامى “مصر – سورية – ليبيا – العراق – الجزائر” والبحث عن شركاء جُدد. ويمكن تسمية هذه السياسة بأنها “استراتيجية الأعمال المتعددة الاتجاهات”. فالروس ينطلقون في سياساتهم الخارجية في الشرق الأوسط وكذلك عالمياً من قاعدة خدمة أهداف استقرارهم الداخلي اقتصادياً واجتماعياً وأمنيّاً بما يعزّز دورهم ومكانتهم على الصعيد الدولي.

ويمكن القول إن روسيا التي خرجت من انفراط عقد الاتحاد السوفياتي لا تزال تحيا هاجس عداءٍ عميق مع الغرب عموماً ومع الولايات المتحدة خصوصاً. ويظهر هذا الهاجس من خلال سياسة الغرب الذي يحاول من خلال العقوبات التي يفرضها على الدولة الروسية بعد تفجّر الأزمة الأوكرانية وقيامها باحتلال شبه جزيرة القرم من أجل وضعها تحت حصار اقتصادي. وكذلك من خلال اعتبار الدولة الروسية دولة تهديد لأوروبا وللعالم، الأمر الذي دفع بالغرب إلى نشر نظام الدرع الصاروخي، ما جعل العلاقة بين الغرب وروسيا علاقة عداء. ويمكن اعتبار توسيع حلف شمال الأطلسي “الناتو” بعد انهيار حلف “وارسو” عامل تحفيزٍ لاستياءٍ روسي على الغرب، ما دفع الروس إلى المجاهرة بمعارضة الاتجاه العالمي القائم على نشر الديمقراطية، والذي يعتقد الروس أن جوهره هو احتواء الغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة لكلّ الحلقات الرأسمالية الأضعف. وهذا يثير مخاوف الدولة الروسية كما يثير غضبها من اعتبارها حلقةً ضعيفةً من حلقات التبعية للمركز العالمي للرأسمالية “أمريكا”.

عقدتا إيران وسوريا:

إنّ حجم الجهد الروسي المبذول في الملفين الإيراني والسوري باعتبارهما ملفي صراع روسي/غربي بصورة أو أخرى يُظهر قيمتهما القريبة والاستراتيجية بالنسبة لروسيا. فهذان الملفان يمكن اعتبارهما نقاط تماسٍ صراعي بين الدولة الروسية والغرب عموماً وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية. ويمكن فهم المصالح الروسية في إيران من واقع الشغل الروسي فيها على مستوى الاقتصاد والطاقة، فالروس هم من بنى المفاعلات النووية الإيرانية، والتي ينبغي أن تخضع بموجب الاتفاقات الدولية لرقابة التفتيش الذي تقوم به هيئة الطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة. الروس يريدون زيادة أعمالهم في إيران في هذا الجانب، ولكنهم من طرفٍ آخر لا يقبلون بامتلاك إيران للسلاح النووي، لأنهم أقرب المستهدفين المحتملين نتيجة التناقض العميق بين أيديولوجيتي وسياستي ومصالح البلدين. إنّ دعم روسيا “لقرار مجلس الأمن رقم 1929″(3) والذي أتى على أرضية الكشف عن منشأة “فوردو” النووية الإيرانية السرّية يعبّر عن حالة الموقف الروسي الذي يمكن تلخيصه بالقول: إن الروس يريدون شغلاً في إيران، ولكنهم في الوقت ذاته يرفضون تطوير برنامجها النووي ما يُبقي هذه المنشآت قيد الحاجة إليهم.

أما ما يتعلق بالعقدة السورية فالروس وهم أهل ثورة أكتوبر عام 1917 يكرهون ثورات الشعوب على حكامها، وباعتقادهم أن مثل هذه الثورات هي ثورات مدعومة من الغرب لها أهداف أبعد من الإطاحة بنظام حكمٍ ديكتاتوري أو استبدادي. الرفض الروسي لفكرة الثورات الشعبية ضد أنظمتها الحاكمة يمكن اكتشافه ببساطة من مواقفهم الرافضة للأحداث في جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا وليبيا. لهذا وقف الروس منذ البداية ضدّ الثورة السورية اعتقاداً منهم أن محتوى هذه الثورة هو محتوى هيمنة غربية على هذا البلد، وبالتالي هو نموذج لو قبلوا به سيتمّ تعميمه في مناطق أخرى وربما يصل هذا النموذج إلى أبواب الكرملين.

الموقف الروسي من الثورة السورية تمّ تصنيفه على أنه موقف مسيحي من ثورة سُنّية، وبالتالي فإن الروس بدوا وكأنهم يريدون الدفاع عن الأقليات الدينية والطائفية والاثنية أمام الطرف الثائر “السُنّة”. ونعتقد أن قاع الموقف الروسي هو قاع مختلف عن هذه المقاربة، فالنظام الروسي الحالي الذي يقوده فلاديمير بوتين هو نظام أوليغارشي يحكم روسيا بقوة مجموعات الضغط الاقتصادي الكبرى وضغط جهاز الأمن الروسي الـ “ك ج ب”. ويمكن القول: إن الروس لا يريدون سحق السُنّة كفئة دينية اجتماعية بقدر رغبتهم بتوسيع العلاقات مع العالم الإسلامي السُنّي.

إن الروس يدركون أن العقدتين الإيرانية والسورية هما عقدتان هامتان في اتجاهين مختلفين، وينبغي فهمهما، فالاتجاه الأول هو تفاهم أمريكي/روسي محتمل حول هذين الملفين، والاتجاه الآخر هو اتجاه صراعي تخشاه روسيا لأن نتائجه لا أحد يعرف أين ستكون. ولكن مع ذلك الروس ينتظرون “أن تقدّم الولايات المتحدة خطةً بخصوص سورية لمرحلة ما بعد الأسد في سورية تشمل المصالح الروسية، ويوافق الكرملين عليها، فروسيا عازمة على تجنب الغوص في مرحلة ما بعد الأسد في سورية، ولكنها تعتقد في الوقت ذاته أنه يتعيّن على المجتمع الدولي ألّا يلعب دوراً في تشكيل الحكومة السورية”(4).

إن الروس يقرؤون جيداً تردد الولايات المتحدة الأمريكية في الانخراط بالصراع السوري بشكل مباشر، ويدركون أن أهداف الولايات المتحدة السياسية تختلف عن أهدافهم، وتواجه صعوبات أكبر. ومع ذلك، فإنّ تدخّل الولايات المتحدة المباشر، سيضع مسار الصراع في سورية في اتجاه لا يتفق مع الأهداف الروسية، ومع الظروف التي سمحت للروس بالتدخل في هذا البلد عام 2015، بغية تثبيت مصالحهم، وعدم ترك هذا البلد يذهب إلى حلقة الاحتواء الأمريكية. ويمكن القول: إن الروس باتوا على قناعة بأن الشرق الأوسط غدا معهم “في مجالٍ جيو سياسي مشترك بعد تأسيس رابطة الدول المستقلة في وسط آسيا “القوقاز” ما أحدث قدراً كبيراً من التداخل الأمني والاستراتيجي بين المنطقتين”(5). وصار جزءاً من محددات الاستراتيجية السياسية للدولة الروسي.

سمات الاستراتيجية الروسية:

يمكن تلمس سمات الاستراتيجية الروسية من وعي الروس لوضع بلادهم حيال الصراع القديم الحديث مع الغرب. فحلقة الباعث القومي لا تزال قويةً لدى الروس، وهم يعتقدون أن الانخراط ضمن مراكز قوى النظام العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوّة الأعظم اقتصادياً وعسكرياً وتقانياً.. إلخ، سيضرّ بمستقبل بلادهم وبطموحاتهم التي تركّز على لعب دور دولةٍ عظمى. هذا التيار الذي يقود روسيا حالياً هو تيار تمتزج فيه الليبرالية الاقتصادية الموجهة والمسيطر عليها مع نزعة قومية روسية مبنية على ضرورة مقولة أن تكون هناك “روسيا العظمى”. هذه المحددات دفعت الروس إلى وضع ملامح استراتيجيتهم حيال العالم الخارجي، فهم ارتدوا عن الفهم والممارسة السياسية لسلفهم السابق “الاتحاد السوفييتي”، واتجهوا إلى اعتماد سياسة تحكمها “النفعية” وليس الأيديولوجية. هذه النفعية تحتاج إلى عناصر تحملها، يأتي في مقدمتها توفر قيادة براغماتية لا ترى غير مصالح روسيا أولاً بغضّ النظر عن حجم ما تخلّفه هذه السياسة من كوارث على الآخرين. لذلك يقاتل الروس وفق براغماتيتهم “نفعيتهم” على تقديس وحدة التراب الروسي من خلال استخدام ذراع القوة العسكرية، وهذا ما ظهر في قضية احتلالهم لشبه جزيرة القرم، التي يعتقدون أنها “أرض روسية”. البراغماتية السياسية شكّلت جوهر الاستراتيجية السياسية الروسية حيال الخارج، وهذا ساعد الروس على التمتع بمرونة سياسية وحرية حركة دون النظر في ثبات هذا الاتجاه ونجاعته استراتيجياً. “إنّ تحليل الاستراتيجية الروسية يمكن أن يساعد على التوقي من المفاجآت غير المحمودة، إنّ معرفة الموقع والزمن اللذين يحتمل أن تبذل فيهما روسيا الموارد الاقتصادية أو العسكرية أو الديبلوماسية يمكن أن يتيح الوقت والمجال للتدابير الوقائية”(6).

إنّ البراغماتية “النفعية” التي تشكّل محور السياسة الروسية يمكن من خلالها الاستدلال على مبادئ السياسات الخارجية لروسيا من جهة ومدى انطباقها على منطقة الشرق الأوسط. ويتمّ اكتشاف ذلك من خلال السعي الروسي إلى علاقات إقليمية وديبلوماسية تتصل بمنافع في حقلي الأعمال والاقتصاد. هذه النفعية هي مفيدة على المدى القصير “المرحلي” وخاسرة على المدى الاستراتيجي، فهذه السياسة سماتها الأساسية ترتكز على أهداف محددة ذات وظيفة اقتصادية أو سياسية عاجلة، ولكنها لا تعتمد على تمكين الفرص الكبرى للاستثمارات على لعب دور أساسي كبير في التنمية المضطردة للاقتصاد الروسي، ما يجعل الهوّة بين المنفعة الاقتصادية المرحلية وبين الاتجاهات السياسية الاستراتيجية في حالة تعارض عميق إن الروس يهتمون بالشرق الأوسط، ولكن اهتمامهم بأوروبا وآسيا أكثر أهمية استراتيجية بالنسبة لهم، وإن وجودهم وانخراطهم في الشرق الأوسط يمكنه توفير فرصٍ محدودة لحماية مصالحهم الحيوية في هذه المنطقة. السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط يحركها دافع داخلي يتمثل بالإصرار على أن تلعب روسيا دور دولة عظمى، هذا الدور يخفي خلفه طلب مكانة محددة للدولة الروسية على مستوى المكانة العالمية في التجارة والطاقة والاستقرار الإقليمي. وباعتبار أن الروس يعرفون أهمية الشرق الأوسط بالنسبة للولايات المتحدة وحلفها الغربي فهم يستخدمون هذه الورقة من أجل جعلها ورقة تقاطعات مصالح روسية مع الغرب في مسائل عديدة تختص بصراعاتهم في مواقع دولية ومسائل أكثر أهمية.

إن الروس يعرفون أن علاقات الشرق الأوسط في تاريخه الحديث منذ مئتي عام على الأقل مع الغرب هي علاقات ذات أبعاد مختلفة، بينما تنظر حكومات الشرق الأوسط للدور الروسي بمزيد من الشك من النوايا الروسية، ورغم ذلك يعتقد الحكام العرب في الشرق الوسط أن روسيا يمكنها أن تلعب دوراً مسانداً في ظل تراجع الدور الأمريكي والغربي، وهذا ما يفسر السياسات المتبعة لدى الحكومة المصرية في عهد السيسي حالياً ولدى الحكومة السعودية في العهد السعودي الحالي الذي يقوده الملك سلمان ونجله.

الروس لا يريدون إخراج الأمريكيين من الشرق الأوسط، ولكنهم يريدون تقويض النفوذ الأمريكي في المنطقة، هذا الدور يؤدي إلى خلخلة سياسية قد تصبح صراعاً في لحظة من اللحظات الحاسمة. ومع ذلك يريد الروس فرصاً اقتصادية تدعم اقتصادهم البطيء، الذي يعتمد على مبيعات السلاح وتصدير الطاقة، فهم بحاجة إلى رؤوس أموال كبرى، تضخّ في مشاريع استثمارية في بلادهم، ويمكن توفير هذه الأموال من دول الخليج الغنية.

الدور الروسي الجديد وأهدافه:

يمكن النظر إلى دور روسي جديد في الشرق الأوسط بدأ ما بين عامي (2005-2007)، حيث زار الرئيس فلاديمير بوتين خلال هذه الفترة أغلب دول الشرق الأوسط، ويبدو أن هذه الزيارات كانت أقرب إلى استكشاف فرص تطوير علاقات. لم يكن الروس آنذاك قادرين على تصور علاقات سياسية واقتصادية ذات نفع متبادل مع غالبية الدول التي زارها بوتين، لم يكن لدى الروس ما يقدمونه لهذه الدول التي ترتبط أغلبها بعلاقات تاريخية متينة مع الولايات المتحدة والغرب الأوربي. لكنّ حدوث ثورات “الربيع العربي” جعل موسكو تُحسُّ بخطر انتقال هذه الثورات إلى مرحلة الإطاحة بمصالحها في المنطقة. الروس لم يدرسوا بنى المجتمعات العربية وأنظمة حكمها المنفصلة في الواقع عن هذه المجتمعات، والتي كان من الصعب عليهم تلمس التناقض العميق بين هذه المجتمعات وأنظمة حكمها المنفصلة في الواقع عنها والتي تقف عائقاً أمام تطورها.

عدم الفهم الروسي لهذه الحالة جعلهم يقفون ضدّ ثورات الربيع العربي من موقع أنها حركات تمرّد، تقف خلفها الولايات المتحدة والغرب. هذه الرؤية شكّلت مدخلاً جديداً للسياسة الروسية اللاحقة، وتحديداً التدخل الروسي المباشر في الصراع السوري في الربع الأخير من عام 2015. لم تعمل الديبلوماسية الروسية على تعميق التناقض بين قوى الثورة السورية السلمية وبين الغرب، بل نظرت إلى هذه القوى نظرة مستقاة من تخوفها ومن هاجس حذرها من الغرب. الروس كانوا فعلياً يدافعون كما يعتقدون عن أنفسهم في الشرق الأوسط من خلال مواقفهم المؤيدة لأنظمة حكم فاسدة، كانت النفعية جوهر فهمهم، ولهذا “اتسم الموقف الروسي تجاه ثورات الربيع العربي بالبراغماتية “النفعية”، فلم ترحب روسيا بثورات الربيع العربي خوفاً من عدوى الثورة ومن تشابكات الوضع الداخلي الروسي، ومن القلق العميق من القوى الإسلامية الأصولية، إضافة إلى أزمة بناء نظام عالمي جديد”(7).

إنّ الدور الروسي الجديد يمكن النظر إليه من تخوف روسيا الأمني من انتشار حركات الإسلام السياسي في مناطقها، ولهذا بنوا سياستهم على الوقوف ضد كلٍ من التدخل الخارجي ومن حركات التمرد الداخلية. برأي الروس أن التغيير يجب أن يحصل من خلال “الوسائل الدستورية وأجهزة الدولة لا الثورات الشعبية”(8). هذا الفهم الروسي يستند في الواقع من حذر القيادة الروسية من حصول سيناريو مشابه في بلادهم يطيح بهم وببرامج سياساتهم الداخلية والخارجية، وهو فهم بعيد عن طبيعة الصراعات ووسائلها، فهذا الفهم يكون صحيحاً في أنظمة حكم يتم تداول السلطة فيها بطريقة دستورية، أما في البلدان التي تحكمها قوى الاستبداد والديكتاتورية فهي أساساً قوى حاكمة لم تأت إلى الحكم بطريقة الانتخاب الشفاف والنزيه، بل أتت بواسطة القوة العسكرية التي تتزعمها. هناك إذاً تناقض في تقديم روسيا لنفسها، فهي تقدّم نفسها كقوةٍ محافظة في الشرق الأوسط بينما تنسى أن تدخلها في أوكرانيا يندرج تحت مسمى قوة زعزعةٍ للاستقرار.

الروس متورطون الآن في الصراع السوري، وهم بنوا قاعدة جوية جديدة لهم في منطقة حميميم. إضافة إلى قاعدتهم البحرية في طرطوس. وباعتبار أن محور سياساتهم هي النفعية فإن لا ثابت في هذه السياسات، بل يمكن القول إنها سياسات قابلة لإبرام الصفقات حتى على حساب الحلفاء. الروس تحركهم مصالحهم قصيرة الأجل ولهذا تجدهم ينتهجون سياسات نفعية في الشرق الأوسط، ولذلك تجد أن محور علاقاتهم السياسية والاقتصادية مع دول المنطقة محكومة بمبدأ الصفقات في المقام الأول.

السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط:

الوجود والنفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط ليس جديداً، بل يعود إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث انحسر الوجود الاستعماري الأوربي عن هذه المنطقة، لتبرز الولايات المتحدة كدولة عظمى تملأ الفراغ في المنطقة. ولعلّ السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط اعتمدت على ثلاثة ركائز أساسية هي الحفاظ على تدفق النفط والغاز إلى العالم من المنطقة، وحماية تدفقه، إضافة إلى حماية “دولة اسرائيل” التي تعتبر حليفاً استراتيجياً لها، ثم تثبيت قواعد عسكرية لها تحمي مصالحها، وتشكّل عوامل تدخل في كل الحالات التي تشكّل خطراً على المصالح الأمريكية في المنطقة.

تُدرك موسكو أنها لا تستطيع المسّ جوهرياً بهذه المصالح إلا بالقدر الذي تحدث فيه خلخلة. ولكن الخلافات بين السياستين الروسية والأمريكية في منطقة الشرق الأوسط ليست هي الخلافات الوحيدة بينهما، فقانون “كالتا” الذي وقعه الرئيس ترامب، والذي ينصّ على تطبيق عقوبات ضدّ روسيا يمكن توصيفه بأنه تسمية ما تعيشه روسيا وأمريكا بالحرب الباردة الجديدة، وسبب ذلك هو السياسات الأمريكية التي عكستها الوثيقة الاستراتيجية للأمن القومي الأمريكي “تُعتبر روسيا خطراً وتهديداً للأمن القومي الأمريكي وليس منافساً، ومن الطبيعي أن تكون السياسة الخارجية الأمريكية مبنية على المواجهة المتزايدة مع موسكو”(9).

المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط:

سبق وحددنا ركائز السياسة الأمريكية، وقلنا إنها ثلاث ركائز، وهذه الركائز تعمل بتوافق بما يخدم المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، وإن أي إخلالٍ بهذه الركائز سيضرّ بالولايات المتحدة، إنّ “أي اضطراب خارج عن السيطرة في أي دولة رئيسية من الدول المصدرة للنفط ستكون له نتائج سلبية على الاقتصاد العالمي وبالتالي سيتأثر الاقتصاد الأمريكي سلباً”(10).

وفق هذه الرؤية لا يبدو أن الولايات المتحدة تهتم بغير مصالحها المباشرة، ولذلك يمكن الاستنتاج أنها غير مهتمة بإرساء أنظمة حكم ديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، والتي لا تزال الصراعات جارية فيها بين أنظمة استبدادها وشعوبها. كذلك لا يبدو أن هناك اهتماماً أمريكياً حقيقياً بطبيعة الصراعات في المنطقة بين مكوناتها الإثنية والمذهبية، وجلّ الحرص الأمريكي ينصبّ على تأمين مصالح الولايات المتحدة، فهي قد تكون مع أية جهة تؤمن لها هذه المصالح. ولو كانت الديمقراطية ذات نفع استراتيجي على الولايات المتحدة لتدخلت لمصلحة قيام أنظمة حكم ديمقراطية. هذا الموقف الأمريكي يمكن تلمسه في معالجة الأمريكيين للقضية الفلسطينية، وموقفها من الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي يوضح أنها ليست مهتمة بحلٍ عادلٍ وحقيقي يعيد للفلسطينيين حقوقهم. إنّ الولايات المتحدة موجودة في منطقة الشرق الأوسط ولكنها لا تستطيع أن تُغمض عينيها عن فعالية ونشاط دول أخرى تهدّد هذه المصالح، وهذا يكشف عن تحولٍ في بنية الدور الأمريكي من كونه القوّة الأعظم إلى دور دولة قوية غير متفردة. فكثير من الدول لها أسواق في منطقة الشرق الأوسط حالياً ولها علاقات مع حكوماتها، لذا يمكن اعتبار أنّ “الولايات المتحدة لم تعد أعظم قوة في الشرق الأوسط، فروسيا والصين وأوربا واليابان كلها دول بات لها وجود كبير في المنطقة، وبدأ الكثير منها بفك ارتباطها عن الدور الأمريكي خاصةً بعد أعقاب تحطيم النظام الإقليمي بعد غزو العراق عام 2003 وثورات الربيع العربي عام 2011″(11).

مواجهة غير مباشرة:

لا تشعر الولايات المتحدة الأمريكية بالراحة حيال المحاولات الروسية لاختراق منطقة الشرق الأوسط وفرض نفسها لاعباً رئيسياً، فالروس أعلنوا جهاراً وفي مرات كثيرة عن رغبتهم بقيام نظامٍ دوليٍ متعدد الأقطاب. دعوة الروس هذه يمكن تنفيذها من خلال تغلغل روسي في مناطق نفوذ الولايات المتحدة وأخذ مواقع مؤثرة فيها وتحديداً في “الشرق الأوسط”. فإذا استطاع الروس التمكن من النفاذ في نسيج النفوذ الأمريكي، فهذا يعني تراجعاً للنفوذ الأمريكي على الصعيد العام، وبالتالي الاضطرار إلى الانتقال من عالمٍ أحادي القطب إلى عالمٍ متعدد الأقطاب. النظام الدولي متعدد الأقطاب يُعيد ترتيب المصالح الحيوية لدوله في العالم وفي الشرق الأوسط. وهذا النمط من الترتيبات بدأت ملامحه تظهر مع اصطفاف الروس والصينيين في مجلس الأمن ضدّ ما تريده الولايات المتحدة وحلفها من قرارات بشأن مسائل الصراع سواءً في سورية أو غيرها. الروس يريدون استعادة “الدور السوفياتي” الدولي السابق بكامل فعالياته، والأمريكيون يريدون وضع روسيا في حجمها الطبيعي، وهذا ما يفسّر الوجود الأمريكي المباشر في ساحة الصراع في سورية بعد أن حزم الروس أمرهم بتدخلهم المباشر هناك. ولكن الروس يعرفون تماماً أن الولايات المتحدة الأمريكية لا يزال لديها عوامل ثقلٍ ونفوذٍ قوية ومهمة في الشرق الأوسط، مثل وجودها العسكري الكبير في الخليج العربي إلى جانب قوتها الاقتصادية، وهي عوامل تفتقر إليها روسيا. “إن هدف الولايات المتحدة الأمريكية هو الحفاظ وتطوير علاقاتها الاقتصادية المتينة التي تجمعها بالعديد من دول الشرق الأوسط، مثل دول الخليج العربي ومصر، حيث تمتلك الولايات المتحدة استثمارات متبادلة مع هذه الدول بمليارات الدولارات، إضافة للقواعد العسكرية والاستراتيجية والنفوذ السياسي فيها”(12)

وفق هذه المعطيات، وإذا أخذنا بعين الاعتبار الهوّة الاقتصادية بين الولايات المتحدة وروسيا ومعها الصين سنجد أن حجم الناتج المحلي الأمريكي بلغ في العام 2017 ما قيمته 19,377 تريليون دولار أمريكي، بمقابل روسي بلغ 1,442 تريليون دولار أمريكي، ومقابل صيني بلغت قيمته 12,361 تريليون دولار أمريكي. أي أن الولايات المتحدة الأمريكية بمفردها تمتلك ناتجاً محلياً يزيد عن ناتج روسيا والصين مجتمعتين بمقدار خمسة ونصف تريليون دولار أمريكي. هذا الفارق الكبير يمنح الولايات المتحدة قدرة تسيّد العالم كقطب أوحد حتى اللحظة.

سيناريوهات أمريكية محتملة:

أمام التنافس الأمريكي/الروسي في الشرق الأوسط ستكون العلاقات بينهما عرضةً لاحتمالات مختلفة، وهو ما يمكن أن نعتبره سيناريوهات يمكن أن يكون أحدها أو أجزاء منها ممكن الحدوث. الأمريكيون بالمعنى الاستراتيجي يهمهم المحافظة على الوضع العام السائد حالياً على المستوى الدولي بشأن التوازنات السياسية والعسكرية والاقتصادية.

السيناريو الأول:

تعمل الولايات المتحدة على المحافظة على هذا الوضع، وتحتاج بالضرورة إلى تقليص الدور الروسي وإضعافه قدر الممكن وهو ما يمكن أن نعتبره سيناريو أول قد تلجأ إليه الولايات المتحدة، ويمكن تلمس حدود هذا السيناريو من خلال منع الروس من التحكم بمعادلات الصراع السياسي في منطقة الشرق الأوسط، ويكون ذلك عبر تدخل أمريكي أوسع وأشمل بتغيير قواعد الصراع التي يمكن للروس أن ينفذوا منها ويضعفوا الدور الأمريكي باقتطاع جزء من فعاليته لهم. الدور الأمريكي بإضعاف الدور الروسي في الشرق الأوسط يقوم على تفكيك الحلف الروسي/الإيراني مع النظام السوري وهو الحلف الذي منح الحيوية والقدرة لروسيا لزيادة نفوذها، فإذا أخرج الأمريكيون إيران من مناطق تدخلها في الشرق الأوسط سيصبح الموقف الروسي أضعف بكثير، أما إذا رفض الروس إضعاف الدور الإيراني فهم سيكونون في موقع وسط بين مطرقة المصالح الأمريكية/الاسرائيلية الرافضة لأي وجود إيراني في المنطقة وتحديداً في سورية وبين سندان إيران التي تختلف مصالحها في سوريا عن مصالح روسيا.

السيناريو الثاني:

تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بالضغط الفعّال والكبير على حكومات ودول منطقة الشرق الأوسط ومنعها من الذهاب بعيداً في خلق استثمارات كبرى لها في الدولة الروسية، وهذا يعني منع الاقتصاد الروسي من التطور لاحتلال مواقع متقدمة والخروج من ربقة الحصار الاقتصادي الذي تطبقه الولايات المتحدة عليها. إذا استمرت حالة الحصار على الاقتصاد الروسي وفق استراتيجية متكاملة سياسياً واقتصادياً وإعلامياً فإن الروس ليسوا بوارد القدرة على مواجهة هذا التحدي، ولا يمكن للصين الذهاب بعيداً مع الروس في المواجهة في شروطها الحالية. ولكن هذا السيناريو يحتاج إلى تفاعل أوروبي ومن حلفاء الولايات المتحدة، ويحتاج ذلك إلى استراتيجية واضحة تتقاطع فيها مصالح المتحالفين مع الولايات المتحدة.

السيناريو الثالث:

يمكن أن تتم عملية تقديم تنازلات متبادلة وليس بالضرورة كبرى بين الروس والأمريكيين وتحديداً من خلال تقديم ضمانات بعدم إهدار المصالح الروسية مقابل تغيير روسيا لمواقفها من إيران ومن التسوية السياسية في سورية. إذا لم يتم الاتفاق على ذلك وتحديداً من الطرف الروسي فهم يذهبون إلى اللعب بأوراق إقليمية كالتحالف مع الأتراك أو الاستثمار بدور إيراني أوسع فإن الأمور قد تنزلق في هذه الحال إلى مرحلة تفعيل مواجهات لا يحتملها الروس بالمدى الزمني المتوسط أو البعيد.

ثبت بالمراجع:

1 – www.washingtoninstitute.org سياسة بوتين الشرق أوسطية – معهد واشنطن 23 مارس آذار2016 – آنا بورشفسكايا وفيليب غوردون

2 – www.alvexo.ae 19 مارس آذار – الصراع على الشرق الأوسط بين أمريكا وروسيا

3 – albayan.ae أمريكا وروسيا

4 – www.washingtoninstitute.org سياسة بوتين الشرق أوسطية 23 مارس 2016

5 – www.aljazeera.net روسيا والشرق الأوسط غازي دحمان 26 مايو 2010

6 – www.rand.org الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط – جيمس سلادن وآخرون

7 – مركز البديل للتخطيط والدراسات الاستراتيجية elbadil-pss.org ايمان عنان 26 فبراير شباط 2017 – ترامب ومستقبل النفوذ الروسي في الشرق الأوسط

8 – www.rand.org جيمس سلادن وآخرون الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط

9 – alwaght.com كانون الثاني يناير 2018 مستقبل العلاقات الروسية الأمريكية

10 – arabi21.com المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط – الواقع والصورة النمطية منار محيسن 12 مايو 2016

11 – alkaleejonline.net أمريكا لم تعد القوة الأعظم في الشرق الأوسط ترجمة منال حميد 16 فبراير شباط 2017

12 – www.alvexo.ae الصراع على الشرق الأوسط بين أمريكا وروسيا 19 مارس 2017

13 – albadil-pss.org ايمان عنان 26 فبراير 2017 – ترامب ومستقبل النفوذ الروسي في الشرق الأوسط.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني