الشمال السوري المحرّر وضرورة أن يكون منطقة استقرار وأمان
كان ملفتاً للنظر اجتماع الهيئة العامة للائتلاف الوطني السوري في مناطق شمال حلب غير الخاضعة لسلطة نظام أسد، هذا الاجتماع أعطى مؤشرات عديدة على تغيّر بالنهج العام لقوى الثورة والمعارضة، فقيادة الائتلاف الجديدة التي يرأسها المهندس هادي البحرة لم تأت على نفس نهج المراحل السابقة، ففي السابق، كان المحور الرئيس هو العمل على دعوة القوى الفاعلة دولياً لتنفيذ التزاماتها تجاه القرارات الدولية المعنية بحلّ الصراع في سورية، وتحديداً تشكيل هيئة حاكمة انتقالية، تنقل البلاد من هيمنة واستحواذ عائلة أسد على البلاد، إلى دولة مؤسسات قانونية تحترم حقوق الإنسان وحرياته.
قيادة الائتلاف الجديدة اكتشفت أن الضغط على نظام أسد يمكن أن يكون له أذرع عديدة، في مقدمتها، حشد التأييد الدولي لتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، وكذلك حشد الحاضنة الشعبية على قاعدة وحدة القرار والممارسة الوطنيين، وتحويل الشمال السوري المحرّر من وضعه الحالي في المستويات المتعددة، وفي مقدمتها الوضع الأمني، والاقتصادي، والاجتماعي، والتنموي، إلى وضع الاستقرار العام، وتحوّل هذا الشمال إلى منطقة جذبٍ للسوريين، وحشد القوى السورية في العالم، وفي مقدمتها الاستفادة من الأمريكيين من أصل سوري في الولايات المتحدة بكل قواهم ومنظماتهم.
تحوّل الشمال إلى منطقة استقرار فاعلة يحتاج بالضرورة إلى وجود بنية مستقرة، ونقصد بنية حكمٍ تحوز متطلبات الاستقرار، وتعمل على جعلها قاعدة حياة في هذه المنطقة.
ولعلّ أهم العوامل في هذا التوجه الجديد، هو وجود نظامٍ قضائي مستقلٍ غير خاضع لتدخلات عسكرية أو أمنية، أو أي تدخلات أخرى، هذا النظام القضائي المستقل يحتاج إلى وجود إدارة حكومية تنهض بواجباتها في جعل هذه المناطق مناطق استقرار وجذب هامين.
إذاً، يحتاج الشمال السوري المحرّر إلى قرارٍ سياسي في هذا الشأن، حيث يجب أن يكون مواطنوه على تماسٍ مباشرٍ مع قيادته السياسية، وهذا يتمّ من خلال إجراءات ملموسة على الأرض، يتمّ اتخاذها بصورة واضحة وشفّافة.
أول هذه الإجراءات، انتقال مكاتب الائتلاف الوطني المعنية بشؤون السوريين إلى مناطق المحرّر، وهو أمرٌ يخلق فاعلية بين الائتلاف بصفته الهيئة السياسية لقوى الثورة والمعارضة وبين الحاضنة الشعبية، التي يجب أن تكون مصدر كل السلطات.
ثاني هذه الإجراءات يتعلق بضرورة توحيد عمل الفصائل الثورية المسلحة الموجودة في مناطق الشمال المحرر إلى النظام الهرمي العسكري الفعلي، حيث تنضوي كل الفيالق العسكرية ومكوناتها تحت قيادة وزارة دفاع الجيش الوطني، وبالتالي تكفّ هذه الفصائل عن لعب دور سلطات أمر واقع، وتهتم بتطوير قدراتها العسكرية بكل المجالات، لتلعب دور جيشٍ وطنيٍ احترافي مهمته أن يحرس هذه المناطق، في انتظار الحل السياسي الشامل، الذي ينقل البلاد إلى حالة دولة المواطنة والقانون.
إن سريان الحالتين (القضائية والعسكرية الموحدة) يحتاج إلى تفعيل دور الحكومة المؤقتة، بصفتها إدارة لشؤون السوريين الاقتصادية والتعليمية والصحية والخدمية، التي تهتم ببناء البنى التحتية لمناطق المحرر بصورة شفّافة خاضعة لرقابة الشعب فيها، حيث لا يمكن أن تكون هناك شفافية بدون احترام إرادة المواطنين في اختيار من يمثلهم ديمقراطياً في مجالسهم المحلية.
إن عدم وجود الائتلاف الوطني في الداخل بغالبية مكاتبه، يضعف دوره وفعاليته وبرامجه حيال تحويل الشمال السوري إلى مناطق استقرار وتنمية اقتصادية وعلمية واجتماعية دائمة. ذلك سينعكس على أداء الحكومة المؤقتة، وقدرتها على تنفيذ برامج الإنماء والتطوير والاستقرار العام، وهذا يمكن باعتقادنا الوصول إليه عبر لعب كل مؤسسات قوى الثورة لدورها المنوط بها على قاعدة خلق أنموذج لحياة مستقرة ومتطورة.
إن تطوير مناطق الشمال السوري المحرّر اقتصادياً، لن يتمّ بدون وجود سلطات حقيقية ذات طابع وطني، فهذه المناطق، لن ترى رؤوس أموال وطنية حقيقية تقوم بعملية الاستثمار الاقتصادي العام، الذي يسمح بتوفير فرص عمل وحركة اقتصادية مثمرة، تغيّر واقع حياة المواطنين في تلك المناطق، بدون وجود استقرار أمني واضح، ووجود نظامٍ قضائي غير تابع لأي جهة أو قوّة، غير قوة نظامه الحريصة على الدفاع عن حقوق الناس بصورة عامة، وحقوق العمل والاستثمار بصورة خاصة.
إن الائتلاف الوطني بقيادته الجديدة وبرامجه التطويرية المختلفة، ينبغي أن يلعب دور الإشراف والتوجيه والحشد، وهو دور يتعلق بالتواصل مع القوى الدولية (دول فاعلة ومنظمات دولية مختصة)، لدفعها إلى الاستثمار ودعم برامج الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والأمني، وهو أمر أكثر من ضروري، لإيقاف حركة الهجرة ونزف طاقات العمل الشبابية، وهذا لن يتمّ كما هو واضح بدون وحدة القرار في هذه المناطق، ووضع خطط تنمية وفق قدرات الشمال على مستوى الثروات والخبرات.
إن الائتلاف الوطني السوري في حالة قدرته على إنجاز برامجه في الداخل المحرّر، يكون قد حقّق انعطافاً نوعياً باتجاه حل القضية السورية، فنجاحه النسبي في هذه البرامج، سيجعل من مناطق الشمال السوري مناطق نموذجية لحياة مستقرة، يمكن أن تحتذي بها باقي المناطق في البلاد، وكذلك سيُظهر نجاح هذه الخطوات نظام أسد على حقيقته المطلقة، بأنه نظام نهب لثروات البلاد، ونظام فساد إداري غير قابل للإصلاح والحياة، بل هو نظام تدمير للحياة بكلّ أشكالها، ما يعزّز من قناعات المجتمع الدولي بضرورة الخلاص منه، باعتباره نظاماً يرعى صناعة وتجارة المخدرات التي تعتبر خطراً على العالم بأسره.
نجاح تحويل مناطق الشمال المحرّر إلى مناطق استقرار سيعجّل من الانتقال السياسي في سورية على قاعدة قرارات مجلس الأمن الدولي وفي مقدمتها القرار 2254، وبالتالي سيشل مناورات النظام السياسية، ويجعل القوى الدولية تذهب إلى فرض تنفيذ القرارات الدولية الخاصة بحل الصراع في سورية، لأن ذلك هو الممرّ الوحيد لإزالة بؤرة فساد ودمار وتهديد للسلم العالمي، وهذا ما يجب أن تدعمه الدول الديمقراطية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لأنه بوابة القضاء على الاستبداد ومخاطره، ومنع زعزعة الاستقرار الدولي.
السوريون في كل أماكن وجودهم، يراقبون تنفيذ برامج قيادة الائتلاف الوطني السوري في تحويل مناطق الشمال المحررة إلى مناطق استقرار بكل معانيه، فهل سيدوّر الائتلاف عجلة تغيير هذه المناطق بشفافية، كي تصبح هذه المنطقة أنموذجاً للسلام والأمن والتطور الاقتصادي والاجتماعي والعلمي؟ إننا في حالة انتظار ذلك.