fbpx

السياسة العقابية في الإسلام والقانون الوضعي

0 219

يكثر الجدل ويتفاقم ليصبح ظاهرة مقلقة عند التعاطي مع الجرائم أو المظالم التي تشهدها المناطق المحررة، ومما يُخرج الأمور عن سياقها الاجتهاد والتصدّي للفتوى والتحقيق والحكم عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو من خلال الاستناد عليها، ولما لهذا الأمر من خطورة سواء على المرء ذاته الذي يخوض في هذا الجدال وخطره على دينه وشخصه، أو على محيطه أو معارفه وأصدقائه.

وسائل التواصل الاجتماعي ليست بديلا صالحا عن دور المحاكم، ولا اعتماد كل ما ينشر أو يكتب أو يقال عليها يصلح لأن يكون دليلاً حتى لو فرضنا صحته، وليس كل من يكتب أو ينشر أو يسرِّب أو يُدلي بدلوه في هذه القضايا صالحا للشهادة أو الخبرة أو الحكم.

القضاء أمر لازم لقيام الأمم ولسعادتها وحياتها حياة طيبة ولنصرة المظلوم، وقمع الظالم، وقطع الخصومات، وأداء الحقوق إلى مستحقيها، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللضرب على أيدي العابثين وأهل الفساد، كي يسود النظام في المجتمع، فيأمن كل فرد على نفسه وماله، وعلى عرضه وحريته، فتنهض البلدان ويتحقق العمران ويتفرغ الناس لما يصلح دينهم، ودنياهم فإن الظلم من شيم النفوس، ولو أنصف الناس استراح قضاتهم ولم يحتج إليهم. واتفق الفقهاء على أن القضاء، فرض كفاية إذا قام به بعض الأمة سقط الوجوب عن الباقين وإذا لم يقم به أحد منها أثمت الأمة جميعا.

إن الجريمة والعقاب علم قائم بذاته، له قواعده وله أحكامه وله شروطه وله أهدافه وغاياته، يطلق عليها في القوانين الوضعية علم “الجريمة والعقاب” ويطلق عليها في الشريعة الإسلامية “السياسة الشرعية الجنائية”.

والسياسة العقابية في الإسلام وفي القانون الوضعي تلتقيان عند مبدأين أساسيين هما ” الحزم والعزم ” أي الحزم تجاه المجرم والعزم على إقامة مجتمع صالح، عبر اتباع سياسة فيها الرأفة والشفقة كما فيها الشدّة والغلظة، فيكون في الأولى الرعاية والإصلاح، ويكون في الثانية الزجر والإيلام والردع، وكلها تدور في فلكي التخفيف والشِّدّة، فالتخفيف والشفقة يدور في فلكها الخطأ والنسيان وما استكره عليه الجاني، والشدة يدور في فلكها سبق الإصرار والتعمّد في إتيان الفعل. وانبثقت عنهما نظريات فقهية وقانونية انتتجت مجموعة من القواعد التي تأخذ بظروف الجريمة وظروف المجرم الشخصية أو الظروف الخارجة عن إرادته كفعل الطبيعة أو القوة قاهرة فكانت أحكام الأعذار المحلة وأحكام الظروف المخففة والمشددة في العقاب.

الفعل حتى يكون جريمة يجب أن تتوفر فيه عدد من الأركان وهي الركن الشرعي أو القانوني، ويعني وجود نص يحظر الجريمة ويعاقب عليها. والركن المادي: ويراد به الفعل المكون للجريمة. والركن المعنوي: ويراد به القصد الجنائي.

والركن المعنوي يتجلّى في النية والإرادة نية ارتكاب الفعل وإرادة الإقدام عليه وتحقيق النتيجة الضارة. والتلازم بين الركن المادي والركن المعنوي هو العلاقة السببية وهي ضرورية لأنها معيار لتحديد نوع العقوبة ومقدارها تخفيفاً وتشديداً.

والنية أمر داخلي لا يمكن فهمها بالتحليل النفسي فقط وإنما يمكن استخلاصها من الوقائع والأدلة كالاعتراف والقرائن. كما يلعب الدافع الجرمي دوراً أساسياً في إيقاع العقوبة من حيث المقدار والشدة، والدوافع نوعين “الدافع الشريف، والدافع الدنيء”.

وتصنّف الجرائم الجنائية في القوانين الوضعية إلى “جنايات – جنح – مخالفات” ولكل نوع مها نوع من العقوبات، فالعقوبات الجنائية عقوبات شديدة الردع تصل إلى الإعدام في بعض الجرائم والسجن مدى الحياة أو لفترات لا تقل عن 5 سنوات، وعقوبات الجنح هي الحبس البسيط مع الغرامة، وعقوبة المخالفات ذات طابع تكديري وهي عقوبات خفيفة تتراوح بين الحبس البسيط أو الغرامة أو كلاهما.

أما في الشريعة الإسلامية فالجرائم عمديّة وشبه عمديّة والعقوبات إما عقوبات حدّية أو عقوبات تعزيرية، والعقوبات الحدية هي ما يعرف باسم الحدود وهي “القصاص في القتل، والرجم والجلد في الزنى، والقذف، والقطع في السرقة، والجلد في الخمر، والحرابة في الإفساد في الأرض، وحد البغي”.

تتفق القوانين الوضعية مع الأحكام الشرعية على أن الأحكام تبنى على اليقين وليس على الشك ومنه لا يجوز الأخذ بالشبهة ما لم تزول هذه الشبهة بدليل محكم منضبط يتوافق مع قيم الحقيقة، والعدالة. وكذلك حكم “الشك يفسر لصالح المتهم” وعليه لا يجوز للقاضي أن يحكم بالإدانة مالم يقتنع، ولا قناعة بدون دليل، ولا حكم بدون يقين فعندما يصل القاضي إلى اليقين عندئذ يمكنه الحكم دون معقّب عليه، وأما ان خالف ذلك واعتمد دليلا واهيا أو ضعيفا يمكن الطعن فيه وفق آليات قانونية هي أبواب الاعتراض أمامه أو الاستئناف والطعن أمام مراجعة قضائية ثانية في النظم القانونية التي تتبنى التقاضي على درجات.

القاضي ملزم في تطبيق النص الشرعي أو القانوني وفق الأصول المتبعة، وله سلطة تقديرية في تحديد العقوبة وهذه السلطة مقيّدة بتقدير مدى خطورة الجريمة وأثرها في المجتمع، وكذلك في ظروف المتهم الشخصية وكذلك الظروف التي أحاطت به أثناء ارتكاب الجريمة، ولا محل للأخذ بها في جرائم الحدود والقصاص والدية وتنحصر فقط في جرائم التعازير فقط.

القصاص أو الإعدام هو عقوبة على جريمة القتل وقد تكون حدّية وقد تكون تعزيرية، فهي حدّية إذا لم توجد شبهة أو مانع من موانع القصاص الشرعية ومن الموانع الشرعية التي اتفق عليه الفقهاء مثلاً “أن يكون القتيل جزءاً من القاتل لقوله صلى الله عليه وسلّم “لا يقاد الوالد بولده”.

والقصاص حق لورثة المقتول، وفي حال عدم وجودهم فحق القصاص يكون للسلطان. ولهم حق العفو والصفح والصلح. ويسقط القصاص في حال موت القاتل أو العفو أو الصلح، وإذا تعدد أصحاب الحق في القصاص وأسقط أو عفا أحدهم عن حقه سقط حق الباقين في القصاص، لان القصاص لا يتجزأ بطبيعته إذ لا يمكن قتل بعض الجاني وإحياء بعضه والعفو هو أقرب للتقوى.

وفي حال وجود موانع القصاص أو سقوطه تنقلب العقوبة من عقوبة حدية إلى عقوبة تعزيرية بديلة وهي إما الدية والتعزير والدية والتعزير والصيام. وهي حق الله والجماعة، ويقابلها في القانون الوضعي ما يسمى الحق العام.

وأسباب الإباحة وأسباب رفع العقوبة والإعفاء من العقاب هي ذاتها في القانون والشريعة الإسلامية، وأسباب الإباحة هي “استعمال الحق، أداء الواجب”. وأسباب رفع العقوبة هي “الإكراه، السكر، الجنون، صغر السن”. وأسباب الإعفاء من العقاب في حالة الحرابة فقط فيعفى من العقاب الجاني حرابة إذا تاب وسلم نفسه قبل ان يُقدر عليه فيسقط عنه الحد، ولكلٍ أحكامه المُفصّلة تفصيلا دقيقاُ لا يتّسع المقامة لذكرها.

وكل ذلك تنظّمه القوانين والأحكام الشرعية فكانت القوانين الجزائية التي تنظم الجرائم والعقوبات وقوانين أصول المحاكمات، وقوانين البينات، ومثلها من قوانين تسري على القضايا المدنية والتجارية والأحوال الشخصية التي تضمن ضبط عملية التقاضي بما يكفل تحقيق العدالة والمساواة والإنصاف بين الناس.

إن ما نود قوله بعد هذا التفصيل المختصر جداً: بأن التعاطي مع الجريمة والعقاب هو من مهام السلطان أي الدولة فقط، والتي يقع عليها واجب تنظيم السلطة القضائية من إنشاء دور المحاكم وتعيين القضاة والإشراف عليهم، وتنفيذ أحكامهم، وفي حال غياب السلطان  أو خروج منطقة ما عن سلطانه أو سلطة الدولة يجتمع أهل الحل والعقد من أهل الشورى لتعيين قضاة يُوكل اليهم  مهمة فض النزاعات والنظر في الخصومات وتطبيق الأحكام الشرعية بما يكفل تحقيق المقاصد الشرعية بحفظ الضرورات الخمس وتحقيق الأمن والسلامة العامة واستقرار المنطقة ، وقد ضمِنَت نصوص الشريعة وقواعدها العامة استقلال القضاء  وعدم تدخّل ولاة الأمور في القضاء أو التأثير في أدائه بأي وجه من الوجوه، وحرّمت ذلك لأنه يحول دون تحقيق الغاية العليا من القضاء ألا وهي العدل القائم على التوحيد، والتوحيد القائم على تنفيذ ما أمر الله به، ومنع ما نهى الله عنه، وهي معايير الحق والعدل، فما أمر به هو الحق والعدل، وما نهى عنه هو الباطل والظلم ومنعه هو الحق والعدل. وإن استيفاء البعض لحقوقهم بالذات أو تصدّي بعضهم لإيقاع العقوبة دون وجود تكليف شرعي لهم من أهل الحل والعقد أو في حال وجود مؤسسات قضائية معتمدة على ضعفها وقلة خبرتها فلا يجوز تجاوزها لأن ذلك يعتبر افتئات على الشرعية والقضاء.

ولنمتثِل لأمر سيدنا عمر بن عبد العزيز ونحصّن مناطقنا المحرّرة بالعدل ولنُنَقّ طريقها من الظلم ‘فإن العدل أساس الملك.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني