fbpx

الربيع العربي في ضوء فلسفة التاريخ

0 57

جرت في فترة زمنية واحدة تقريباً خمسُ ثورات عربية: تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وسورية، وهناك تملل في الجزائر، وموريتانيا، والأردن والعراق في وضع كارثي، لسنا في معرض الوقوف عند الوقائع الجزئية لهذا الحِراك الذي انتظم المنطقة، فهذا من شأن مباحث أخرى. إنما مرادنا أن نفهمه في إطار فهم التاريخ ومفاهيم فلسفة التاريخ، ولعمري أنه ودون أن نتسلح بفهمٍ فلسفيٍّ تاريخي لما يجري لن تنجح السياسة في تعاملها مع حركة التاريخ.

ليست فلسفة التاريخ عودة إلى التاريخ، بل كشفٌ عن ملامح حركة التاريخ العامة دون وقوعٍ في الحتمية، ودون إهمال معنى التجربة التاريخية. يبدو المشترك في بلدان الحِراك العربي كبيراً:

أولاً: جميع هذه الدول مؤسسة على احتكار القوة العسكرية والأمنية بوصفها أداة الحفاظ الأساسية على السلطة.

ثانياً: جميع هذه الدول أزالت الحد الفاصل بين السلطة والدولة، وقاد أمرٌ كهذا إلى ظاهرة ملكية السلطة للدولة.

ثالثاً: تشترك هذه الدول باتكائها على حزبٍ سياسي يمنحها الشكل السياسي للسلطة.

رابعاً: تشكلت في هذه الدول عصبياتٌ مناطقية وأسروية بارتباطها باحتكار السلطة أو محاولات احتكارها.

خامساً: وصول الفساد في هذه الدول حداً حطم أسس القيم الاجتماعية.

كيف نفهم التناقض بين بنية السلطة وبنية المجتمع؟

تجب الإشارة أولاً إلى أن التشابه السابق لا يلغي التمايز والاختلاف بين هذه السلط والمجتمعات، فالبنية القبلية ليست حاضرةً في مصر بوصفها عصبية للسلطة، والبنية الطائفية السورية لا وجود لها في تونس، والدولة الريعية النفطية الليبية ليست هي الدولة اليمنية الفقيرة.

وهناك تفاوتٌ في تاريخ تطور كل مجتمع من هذه المجتمعات، ولهذا فإن التناقضات – وإن كانت في جوهرها واحدة – فإنها أخذت تعبر عن نفسها بأشكال متعددة.

نعود إلى تناقض السلطة والمجتمع، فالسلط التي تكونت منذ ستينات القرن الماضي بفعل قوة المؤسسة العسكرية والأمنية تحولت عبر سنواتٍ طوال إلى سلطة مغتربة عن مجتمعٍ راح يتطور بفعل قوانين التطور العفوية للمجتمعات.

فالسلطة التي كانت قادرة على أن تحقق في بداياتها حظاً من النمو الاقتصادي وقبولاً أيديولوجياً لم تعد قادرة على أن تواجه مشكلات حاجات السكان المتعاظمة في ظل تقدم عالمي للحاجات أصلاً، فكان من الطبيعي والواقعي أن تنعكس حاجات الناس وتطور وعيهم في تطور السلطة ووعيها. غير أن الذي جرى إن السلطة كلما كبر جسد المجتمع راحت تضيق وتضيق، وصارت قميصاً أضيق بكثير من هذا الجسد الذي كبر.

وفي مواجهة هذا التناقض قررت السلطات حشر الجسد في القميص مهما كان القميص ضيقاً، والعمل على إضعاف المجتمع خوفاً على القميص.

لقد برز هذا التناقض في صورة الاطمئنان إلى نوعٍ من خنوع المجتمع، والذي سمح للسلطة أن تمارس أشد أنواع الفجور السياسي والفساد والقمع.

فلقد اتسعت حاجات الفئات الوسطى قلب المجتمع، ليس الحاجات الاقتصادية والثقافية فقط، بل الحاجات السياسية، هذه الفئات وهي أكثر الفئات تذمراً وتأففاً كانت تكبت حقدها الطبقي والسياسي في انتظار اللحظة التي تنقض فيها على السلطة.

يضاف إليها الفئات الفقيرة والرثة الهامشية، التي تزايد عددها وبخاصة في تونس ومصر وسورية واليمن.

لقد أسست الحاجات المكبوتة والأحلام المنكسرة ما نسميه مجتمع الشرارات.

كانت السلطة قميصاً غير قابل للترقيع، وصلت حد ذروة ما سماه ابن خلدون حياة الدعة والوفرة وفقدان العصبية أو تراخيها بسبب عدم تميزها بين الاستقرار والاستنقاع.

أجل كان ابن خلدون وماركس وماركوز حاضرين دون أن يراهم أحدٌ من السلطة.

كان مجتمع الشرارات في تونس ومصر واليمن قد استفاد من المظاهر الشكلية للديمقراطية، حيث لم تستطع السلطة هنا تحطيم المجتمع المدني تحطيماً كلياً فيما كانت ليبيا وسورية مجتمعين خاليين أبداً من المجتمع المدني الحقيقي، فالمجتمع المدني هنا قد التهم من قبل السلطة التهاماً كلياً وبالتالي لم تكن النخبة المدنية قادرة على فرز عقل أو عقول لتقود عملية الحراك أو الثورة أو الانفجار.

والحق! إن الانفجار هذه المجتمعات عبر شرارة واحدة تشعل الحقل كله لم يكن إلا النتيجة الطبيعية لصراع طبقي طويل عبر عن نفسه باحتكار الثروة والقوة وصراع أخلاقي عميق بين سلطة تحطم القيم ومجتمع يعاني من هذا التحطيم.

كان الهدف الأساسي لهذا الانفجار هو تغيير النظام السياسي وإعادة بناء دولة الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني والقضاء على مخلفات النظام السابق.

لكن هذا الهدف النبيل والذي شكل حلم الانفجار قد نشأ في قلب انفجار المستنقع.

أجل لقد انفجر المستنقع الذي ظنت السلطة أنه استقرار.

فكان البركان خليطاً من النار والدخان والحمم وكل ما كان يختزنه المستنقع من الفئات المثقفة إلى الفئات الرعاعية.

كانت السلطة قد تركت إرثاً ثقيلاً من الدمار المجتمعي والاقتصادي والأخلاقي، ولهذا أخذ التاريخ يظهر على نحوين تاريخ تراجيدي وتاريخ مسخرة.

لقد شكل الشباب وعقل الشباب التائقين إلى الحرية صورة التاريخ التراجيدي القائم على صياغة المجتمع المنشود في صورته الكونية. دولة الديمقراطية والحق.. الدولة النقيض لدولة القمع واللاحق.

فيما كانت القوى السلفية تحضر نفسها لإنتاج التاريخ المسخرة الذي هو استعادة صورة من التاريخ القديم ليصبح واقعاً.

وهكذا عاش التاريخ ويعيش آلام الصراع بين المعقول واللامعقول بين الإمكانية الواقعية والواقع وبين الوهم الواقع.

أما من حيث معقولية التاريخ فإن هذه المعقولية لا تتحقق إلا بتطابق بين الإرادة. والإمكانية.

وعندي أن جدل الإرادة والإمكانية أحد أهم عناصر النجاح في الحياة كلها وفي السياسية بالضرورة.

فلقد حملت السلطات القديمة في أحشائها بذور فنائها لأنها بالأصل قتلت العدد الأكبر من الممكنات المجتمعية وتشبثت بواقع واحد وحيد لا ينطوي على قوة استمراره فمن يحكم بالسيف يزول بالسيف وعند التاريخ الخبر اليقين.

وكل من يحطم الممكنات بالقوة سيجد نفسه أمام المستحيل والمستحيل بالأصل تصور فقط.

الممكن بالتعريف واقع لم يتحقق بعد ومولود في أحشاء الواقع المتحقق.

واكتشاف الممكن في لحظة ولادته والعمل على نقله إلى الواقع عبر الإرادة هو فعل إبداعي بامتياز، وترك الممكن فترة طويلة كي يموت ويميت معه الإرادة القادرة على الفعل. فالشروط التي تنتج الممكن لا تبقى هي ذاتها في السيرورة التاريخية. وهذا معنى ما كان ممكناً قبوله ما عاد ممكنا قبوله الآن، أو ما كان قابلاً للتحقق في لحظة ما عاد قابلاً للتحقق الآن.

تكمن المشكلة في إن الوعي الأيديولوجي لا يميز بين الإمكانية والواقع والمستحيل. وأخطر أشكال الوعي الأيديولوجي على الحياة المجتمعية والذي يتميز بوهم مطلق هو الاعتقاد بتحقق المستحيل. وهذا حال الحركات الأصولية بكل أنواعها.

فالحقيقة تقول: إن التاريخ لا يعيد نفسه أبداً.

المشكلة بوهم إعادة تاريخ ما في شروط غير الشروط التي أنتجته.

والدافع الأيديولوجي يقدم لصاحبه قوة عمياء تدفعه لتخريب الحياة وإفسادها. وفي الحراك العربي وجد اللامعقول الأصولي شرطاً لفاعلية أكبر. وآية ذلك أن النظم المستبدة في بلدان الربيع العربي لم تبحث في الشروط التي أنتجت هذه الحركات وتغييرها بل أبقت على شروط بقائها مع مواجهتها، وما أن زالت قوة السلطة حتى أخذت تطرح نفسها على أنها البديل.

لكن معقولية التاريخ لا تتحمل لامعقولية الأصولية، تماماً كما أن لامعقولية السلطة في مصر وسورية واليمن وليبيا وتونس صارت أكبر من طاقة المجتمع على تحملها وأكثر من أن يتلاءم معها التاريخ.

وبالتالي أن انتقال الحراك العربي من حال غريزة الثورة إلى حال الوعي المطابق هو ثورة بحد ذاته.

أنه انتقال من الممكن إلى الواقع فقط وكل هزيمة للممكن هزيمة بالضرورة للمستقبل الحقيقي.

غير أن هناك نوعاً من الممكن هو الممكن الزائف الذي إن تحقق فإنه يدمر الواقع إلى زمن يطول أو يقصر، وهذا هو الذي يفسر لنا مصير الشعارات الزائفة التي حملت العسكر إلى السلطة بوصفهم سينقلون الممكن إلى واقع فدمروا الواقع والتاريخ معاً.

بقيت مسألة من أهم المسائل ألا وهي كيف ننظر إلى واقع الحراك العربي ومصيره في ضوء حركة العالم الراهن؟

ولعمري أننا دون أن نفكر بالعالم بوصفه تاريخاً وانطلاقاً من فلسفة التاريخ المعاصرة لا نستطيع أن نفكر بأنفسنا.

والحق أن الآخرين ما انفكوا يفكرون بطبيعة العالم إن أسماء شبنجلر وتونبي وسوركين وبريجنيسكي وفوكوياما وهنتجتون اشتغلت على منهج حركة العالم.

لن أعود إلى تاريخ نظريات فلسفة التاريخ وآراء من تناولوا حركة التاريخ حسبي أن أقف عند حركة التاريخ الراهنة.

في واقعنا المعاصر هناك شئنا أم أبينا أمم عالمية وحضارة عالمية. وإذا كانت العولمة تعبيراً عن نمط جديد من علاقات العالم مؤسسة على الثورة التكنوإلكترونية وثورة الاتصالات ووحدة الاقتصاد العالمي أو ما أطلق عليه القرية الكونية فإن العولمة لم تلغ بعد الدولة الأمة.

ففي كل التاريخ هناك مراكز وأطراف حتى في ظل العولمة هناك مراكز وأحياناً بلا أطراف.

الآن يبدو أن التاريخ العربي منذ عصر النهضة وحتى الآن يمر عبر التاريخ العالمي بوصفه تاريخاً منفصلاً حتى ولو قرر أن يكون فاعلاً محلياً.

لو عدنا إلى نهاية التاريخ لـ فوكوياما سنجد أنفسنا أننا نحقق نبوءته أننا مازلنا في وحل التاريخ.

وإذا عدنا إلى هنتجتون لوجدنا أنفسنا في صدام حضاري شكلي.

ولو عدنا إلى بريجنسكي لوجدنا أنفسنا أمام معايير أمريكا في العالم.

وقد أكد التاريخ العربي المعاصر قبل الحراك وبعد الحراك أن تدخل أقطاب العالم المعولم الآن أمر لم يعد عبر الاتفاقات السرية كما هي حال سايكس بيكو بل علناً ومطلباً داخلياً أحياناً.

أن سؤال التاريخ كيف لعامل خارجي أن يتحول إلى عنصر فاعل في تحديد معالم الداخل الوطني؟

أن الحديث هنا ليس عن علاقات متبادلة ولا منافع مشتركة ولا عن تبعية متبادلة، بل من إرادة خارجية فاعلة في رسم المستقبل، وهذه مسألة من أكثر المسائل تأكيداً لضعف الإرادة الداخلية أمام إرادة الأقطاب التي لا تفكر إلا بمصالحها في النهاية.

وماذا بعد؟

إنه لمن الخطأ أن نحكم على تاريخ الحراك العربي الآن وفق ما وصل إليه من نتائج، ويجب أن نؤكد أن الفوضى الحاصلة الآن ليست ثمرة الحراك أو نتيجة من نتائجه، بل هي فوضى مستترة أساساً في مرحلة ما قبل الحراك وما ظهورها الآن إلا زوال عائق السلطة المستبدة فهي بهذا المعنى من خلق الفوضى وليست الفوضى من خلق الحراك.

غير أن مرحلة من التاريخ لن تعود، وإن التاريخ كي يستعيد معقوليته لابد له من مسار تراجيدي آخر.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني