الثورة وذيول غورو
تعالت الأصوات المُندّدة والرافضة للعملية التركية التي أعلن عنها الرئيس رجب طيّب أردوغان، التي تهدف إلى استكمال عملية تطهير المنطقة الحدودية من الانفصاليين من كرد ومن عرب الذين طاب لهم نهب خيرات البلاد وتقاسمها مع النظام السوري المجرم وعصاباته، الذين تعاظم شأنهم بدعم من بعض الدول الغربية والعربية.
النزعات الانفصالية ليست وليدة اليوم، فهي ودائع المفوّض السامي الفرنسي الكاثوليكي الورع “هنري غورو” التي زرعها في بلادنا في عام 1920 ولم تنته ولن تتوقف أبداً ما دام هناك من يتوارثها، جيلاً عن جيل، ورغم إنهاء الاحتلال الفرنسي وجلائه عن بلادنا لكنها بقيت خناجر مزروعة في خاصرة هذه الأمة، لتعود لتطعنها عند منعطف تاريخي، ومنها منعطف الثورة السورية المباركة التي اندلعت لتقويض نظام الحكم الطائفي الذي أرساه عُتاة الضباط الطائفيين وتحميه المرجعيات الطائفية والدينية والعشائرية.
ومع ارتفاع وتيرة الثورة واتساع نطاقها ارتفعت الأصوات المطالبة بالنظام الفيدرالي الاتحادي من قبل الانفصاليين الجُدُدْ في مواجهة الأكثرية السنيّة الوطنية، بهدف الابتزاز السياسي للعرب والمعارضة السورية وبهدف طمئنة الأقليات من قبل هؤلاء الانفصاليين، وتذكيرهم بمشاريعهم القديمة الجديدة وهي مشاريع “الاتحاد السوري” الذي أسّسه الاحتلال الفرنسي في عام 1922، والذي ألغي في عام 1936 رُغمَ أنف الانفصاليين من أنصار الحاكم العسكري الفرنسي “شوفلر” في “دويلة العلويين” الذين استولوا على أراضي وأملاك أهل السنة في اللاذقية وحماه، وأنصار المفوّض السامي “غابرييل بو” في “دويلة الدروز” وأنصار “حاجو آغا ومحمود بيك” وأنصار الحاخام “ليون بلوم” والمطران “حبي” في الجزيرة السورية وشركائهم من بعض شيوخ العشائر والقبائل العربية.
والمشروع الانفصالي في شمال شرق سورية هو الجزء المؤجّل من مشروع “ميلران – غورو- دي كاي” الذي يقوم على تقسيم المُقسّم وتجزئة المُجزأ، ولو عدنا إلى التاريخ لوجدنا أن عملاء اليوم هم ورثة عملاء الأمس.
فالتحرير الحقيقي للبلاد ينطلق من نسف وتفكيك مشاريع التقسيم والفدرَلَة، ومثلما أن هناك دول ترعى وتدعم هذه المشاريع، هناك أيضاً دول ضدها وتحاربها وتعمل على تفكيكها، ومصلحتنا المشتركة مع هذه الدول تقوم على أن خطر هذه المشاريع على الثورة وعلى وحدة أراضينا لا يقل عن خطر تهديد الأمن القومي لتلك الدول، وهذه المصلحة ليست المصلحة المشتركة الوحيدة التي تجمعنا مع تركيا، فتركيا هي العمق الاستراتيجي لمستقبل سورية بناء على ما تم تأسيسه من قواعد مشتركة يمكن البناء عليها مستقبلاً في إعادة إعمار البلاد، والمساهمة في حماية استقرارها من خلال اتفاقيات التعاون المشتركة.
أمّا عن فوائد هذه العملية التي تكمن بداية في حماية ظهر الثورة وحماية وحدة الأراضي السورية من خطر الأحزاب الكردية الانفصالية وملحقاتها من العرب، التي لا تقلّ شراً وخطراً عن النظام السوري وإيران وروسيا، التي رأينا تناغمها وتعاونها في المناطق الشرقية في تهجير أهلها الأحرار ونهب ثرواتها.
كما أن تحرير هذه المساحات الواسعة سيعود بالفائدة على الوضع الاقتصادي للمناطق المحررة، من حيث توفير مساحات واسعة للاستثمار والإنتاج الزراعي، كما أن هذه المنطقة هي الخزّان المائي الذي يقوم عليه الأمن المائي للمناطق المحررة، كما أنها ستكون ملاذاً آمناً لأهلها المهجّرين قسريّاً من قبل عصابات الأسد والحركات الانفصالية، الأمر الذي يمكّنهم من العودة إليها وحمايتها وإدارتها بحماية “تركية” ورُبما تتطوّر لتكون حماية دولية إذا ما نجحت التجربة في إقناع المجتمع الدولي، الذي يمرّ بأزمات سياسية واقتصادية خطيرة وخاصة “الأمن الغذائي” الذي يتعرّض لهزّة قويّة جدّاً بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها على سوق “القمح” العالمي الذي يشكّل فيه الإنتاج الروسي والأوكراني أكثر من 30%، ما يهدّد الدول التي تعتمد عليه في أمنها الغذائي بالمجاعة، الأمر الذي يفرض عليها إعادة ترتيب الأولويات وإعادة رسم السياسات تجاه كثير من الملفات الدولية ومنها الملف السوري وآثاره.
وعلينا ألّا ننسى أن خيرات هذه المنطقة تتقاسمها عصابات الأسد مع العصابات الانفصالية وهي تعتبر مورداً رئيسيا في دعم قدراتهم العسكرية.
يجب علينا التعاطي مع هذه العملية بإيجابية من خلال الحكم عليها انطلاقاً من قاعدة المصالح والمفاسد الواسعة، فهي إن نجحت في تحرير الأرض وعودة اللاجئين وحمايتهم وتمكينهم من إدارتها واستثمارها ستؤمّن للمناطق الحرّة ملجأ آمناً، وملاذاً اقتصادياً وافراً يمكن من خلاله فكّ الحصار الدولي الذي تديره روسيا عبر استخدامها حق النقض “الفيتو” والتهديد به لإلغاء آلية تقديم المساعدات الدولية عبر الحدود، وإجبارنا على القبول بتمريرها عن طريق النظام تحت طائلة “التجويع”.
كما أنها ستكون مورداً أساسيّاً في تدعيم قدراتنا العسكرية واستعادة القرار الثوري من يد الداعم الأجنبي.
وبعد هذا البيان فإني أعجب لمن يقول بأنه “لا ناقة لنا ولا جمل” في هذه العملية!!
وأشدّ العجب من التعصّب المناطقي الذي يتبنّاه فريق منّا الذي يُطالب بتحرير “ضيعته” أولاً قبل تحرير أي بقعة أخرى، وكأن هؤلاء هم فقط المهجّرين وهم فقط الغيورين على استرداد مدنهم وقراهم، وكأن إخواننا في باقي القرى والمُدن ليسوا كذلك!
وأخيراً: إننا في سورية محكومون بجملة من العلاقات الدولية المُعقّدة جعلتنا أسرى لدى المجتمع الدولي، كما ضيّقت علينا هوامش تحركاتنا، وهذا التعقيد لا ينحصر فينا نحن السوريين فقط، وإنما بالدول الداعمة للثورة على مختلف مستويات دعمها، لذلك وجدنا أنفسنا مع هذه الدول محكومين بمعادلة “الممكن والمتاح” ورهائن قرارات وتفاهمات الخمسة الكبار الذين يتحكّمون في مصير العالم “سلماً وحرباً” والذين ما زالوا ملتزمين حتى اليوم بقواعد “لعبتهم” المعروفة باسم “لعبة الأمم” التي يكون للصف الثاني من الكبار بعض الهامش للدخول في هذه اللعبة للعب دور وحيد وهو الحفاظ على توازن اللاعبين الكبار عندما يختلّ توازنهم، وهو ما نراه في دور تركيا التي تلعبه بإتقان وحنكة مع هؤلاء اللاعبين “روسيا وأوروبا والولايات المتحدة والصين”، وهذا الدور وهذا الإتقان في لعبه هو ضمانة لنا كسوريين أحرار وهو ضمانة لوحدة أراضينا، وهو ضمانة لمستقبلنا، فكيف لا يكون كذلك وكل الدول العربية تسعى لأن تكون في ظلّ تركيا في هذا الظرف الدولي العصيب.