fbpx

التدوير وتفكيك بنية التفعيلة

1 585

من إمكانات التنويع الإيقاعي التي يعتمد عليها الشعر الحديث لتخفيف حـدة الرتابة الناتجة عن استخدام التفعيلة الواحدة في البحور البسيطة، فضلاً عن التحرر من وحـــدة البيت واستقلاليته العروضية، يلجأ الشاعر إلى “التدوير”، كوسيلة تعبيرية وإمكانية فنية لتنويع النغمات داخل القصيدة. 

والتدوير في شكله القديم يعني “اتصال شطري البيت في لفظ واحد مع استقلال كل شطر بتفعيلاته، أما في الشكل الجديد فيعنى التدوير اتصال السطر الشعري بالسطر التالي له، أو بمجوعة السطور التالية اتصالاً عروضياً دون وقفة عروضية تامة مع نهاية كل سطر، أو بمعنى آخر تراكم وتتابع عدد كبير من التفعيلات المتواصلة دون وجود وقفة عروضية تامة”.(1)

وقد اختلف النقاد حول وقوع التدوير في الشعر الحر، ما بين معارض ومؤيد، وفي مقدمة المعارضين تأتي (نازك الملائكة) حيث ترى أن “التدوير لترادفه السريع ممل رتيب، يتعب السمع ويضايق الحس الجمالي لدى القارئ، وأبرز ما ينقصه هو الوقفات، لأن السكتة في آخر الشطر والبيت كانت وما تزال عنصراً مهماً في القصيدة”.(2) 

وراحت الناقدة تعدد سلبيات التدوير، فجعلته مسؤولاً عن قتل تعدد الأشطر قتلاً كاملاً، إذ أصبحت الأسطر الشعرية شطراً واحداً طويلاً، كما أنه أجهز على القوافي وطردها طرداً تاماً، وانتهت إلى نتيجة خطيرة وهي “أن التدوير المتواصل يبدو وكأنه حياة إنسانية غير واعية يكون الشاعر فيها واقفاً بلا حول ولا قوة، كالمحاصر أو العاجز عن السيطرة على الأشياء، والأحداث تقع له دون أن يكون له دور إيجابي فيها.”(3)

ويمثل هذا الاتجاه أيضاً د. محمود السمان الذى يرفض “التدوير الكلي” الذى تمتد تفعيلاته لمسافة طويلة، إلى حد إخراجه من دائرة الشعر وإدخاله في دائرة النثر الموزون”.(4) 

أما د. على عشري زايد، فيرى أن “التدوير لا يزال في طور التجريب، لذلك ينظر إليه بشيء من التحفظ، إذ يرى أن الإفراط في استخدام التدوير في القصيدة الحرة يرهق القارئ، ويضعف الإيقاع، لأنه يقضي على الوقفات التي هي عنصر الإيقاع؛ ولأنه يحرم القصيدة من القافية”.(5) 

أما عن المؤيدين للتدوير فمنهم د. محمد النويهي الذي يدعو إلى استخدام التدوير لتخفيف حدة الموسيقى والتقليل من رتابة الإيقاع، إذ يعد التدوير وسيلة من وسائل الشعر الجديد للتخلص من حدة الإيقاع القديم، لأنه يرقى بموسيقى الشعر، ويخلصها من أحد عيوب الشكل القديم.(6) 

وفي نفس الاتجاه يأتي د. عز الدين إسماعيل الذي يرى أن التدويــر أصبــح ظاهرة واسعة الانتشار في الشعر الحديث، خاصة بعد اعتماد الشعراء على الجملة الشعرية التي تمثل بنية موسيقية أكبر من السطر، وإن ظلت محتفظة بكل خصائصه، فالجملة الشعرية تشغل أكثر من سطر، فقد تمتد إلى خمسة أسطر أو أكثر، وربط الناقد الكبير بين الدفقة الشعرية في نفس الشاعر وطول البيت، وقرر أن التعبير ملك وتابع للشعور وليس العكس، فإذا كانت الدفقة الشعورية ممتدة فينبغي أن تكون الصورة الموسيقية ممتدة ومعبرة عن هذا التدفق. (7) 

وخلاصة القول في قضية التدوير إنه لابد أن يكون نابعاً من محتوى القصيدة رابطاً الشكل بالمضمون، فامتدادات الأبيات أو تدوير القصائد ليس مستحسناً في كل الأحوال، وليس مرفوضاً في كل الأحوال، بل ينبغي أن يتحقق فيه شرطان: أن يخدم غرضاً فنياً، وأن تحتمله طاقة القارئ، فلا يزيد عن حده ويؤدي إلى إعجاز القارئ عن القراءة أو تنفيره منها. 

فالتدوير – إذن – يصور حالة نفسية خاصة تتلاءم مع سرعة الإيقاع وتدفقه.

ومن أمثلة التدوير في الشعر المعاصر قصيدة محمود درويش (الجسر) التي يقول فيها:

مشياً على الأقدام،

أو زحفاً على الأيدي نعودُ

قالوا..

وكان الصخر يضمر

والمساءُ يداً تقودُ…

لم يعرفوا أن الطريق إلى الطريق

دمٌ, ومصيدة، وبيدُ

كل القوافل قبلهم غاصت،

وكان النهر يبصق ضفَّتيه

قطعاً من اللحم المفتَّت،

في وجوه العائدين

كانوا ثلاثة عائدين:

شيخ، وابنته، وجندي قديم

يقفون عند الجسر…

(كان الجسر نعساناً، وكان الليل قبَّعةً.

وبعد دقائق يصلون، هل في البيت ماء؟

وتحسس المفتاح ثم تلا من القرآن آية…)

قال الشيخ منتعشاً: وكم من منزل في الأرض

يألفه الفتى

قالت: ولكن المنازل يا أبي أطلالُ!

فأجاب: تبنيها يدانِ…

ولم يتمَّ حديثه، إذ صاح صوت في الطريق: تعالوا!

وتلته طقطقه البنادق..

لن يمرَّ العائدون

القصيدة من بحر الكامل، ونلاحظ التدوير في بنية تفعيلة (متفاعلن) في أواخر وبدايات الأسطر الشعرية بأنماط مختلفة، وقد لجأ الشاعر إلى أسلوب السرد الذي انعكس على وحدة النص وتماسكه دلالياً في روية فنية عميقة وواعية بأصول هذا الفن.

1. محمد الهادى الطرابلسى : خصائص الأسلوب في الشوقيات – منشورات الجامعة التونسية – تونس – 1981م – ص 85

2. نازك الملائكة : سيكولوجية الشعر – الطبعة الأولى ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ القاهرة – 2000 م – ص 133

3. السابق/ 138 – 143

4. محمود على السمان : أوزان الشعر الحر وقوافيه / 167

5. على عشري زايد : عن بناء القصيدة العربية الحديثة – الطبعة الرابعة – مكتبة الشباب – القاهرة – 1995م – ص206، 207

6. محمد النويهي : قضية الشعر الجديد / 275 

7. عز الدين إسماعيل : الشعر العربي المعاصر / 94، 95

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

1 تعليق
  1. أمير القوافي says

    رؤية نقدية عميقة تنم عن فهم لطبيعة البنية الصوتية والموسيقى الخارجية للشعر المعاصر

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني