التحرش الجنسي.. بعض الضوء
تقول الصبية “س”: ليس لي ثقة بالرجال، أشعر بقرف كبير، ولا أستطيع أن أتخيل يوماً أن يلامسني رجل، لقد تعرضت لتحرش جنسي، ومحاولة اغتصاب من الشخص المفترض به أنه خطيبي، لكن الحمد لله كنت أقوى منه، لقد ترك آثاراً عنيفة على جسدي وأنا أحاول التملص منه، أحمد الله أنني استطعت التخلص، وأن أستدعي الشرطة.. ماذا لو لم تأتني تلك القوة؟ كانت حياتي ستنهار تماماً.. إنني أشعر بالاشمئزاز من الرجال، وبيني وبين نفسي أكرههم.
وتستدرك “س” متابعة: ليس الجميع!
تبدو “س” هنا، وقد تذكرت ما أوصيت به في الصغر – أن تكبح جماح تمردها، أن تعود البنت بثقافة المجتمع اللاواعي كي تحوز الرضى – لكنها تكمل: نفسياً أكرههم، وأشعر بالخوف من نفسي، لكني لا أظهره، أتباهى بالقوة دائما في مظهري الخارجي كي أجعل بيني وبين الآخرين سداً لا يخترق!. ثم تتوقف عن الحديث، أحس بدموعها وهي تبلل شاشة هاتفي، رغم ذاك الحاجز المنيع الذي تعتقد أنها تمكنت من بنائه!
لطالما حدثتني، وألحت مراراً أن أكتب عنها، لم تتوجه لغيري بذلك، وقد طال بي الوقت على ذلك، إذ إن الكتابة عن مثل هذه المآسي توقظ كل المآسي التي صادفها أمثالي في رحلة حياة، ثم السؤال الأهم: هل أستطيع أن أفي الصبية “س” ما تنتظره مني؟!
بالكاد ألملم بعض تفاصيل الحدث. صبية تود مغادرة وطن مدمر بالفقر والسياسة الجشعة لعلها تنتصر لنفسها ولأهلها، هي في منتصف العشرين، مضيئة الوجه والروح بالتصميم، تتعرف شاباً من جنسية أخرى عبر وسيلة من الوسائل المنتشرة حالياً، شاب يبدو لائقاً للإنقاذ، وكم من فتيات بمثل هذا العمر يُصدّرن إلى الحياة بشراستها، ولم يكتمل فيهن الوعي أو النضج لمواجهة وحوش تبدو بملابس زاهية، ثم تصل إلى المغترب، ليتلقفها وحش جديد، لم يكن بالحسبان، زوجة الأخ، أنثى مثيلة، لكنها اختارت أن تكون وحشاً، وقد تكون هي الأخرى قد جرحت في مكان ما من الروح فاستيقظ فيها الوحش، لكن ليس المنتظر منه الوعي والمساندة، بل الغدر والأذى، وتتآمر زوجة الأخ عليها مع الخطيب لتوريط الصبية قليلة الخبرة، وبقية الحكاية من الممكن تخيلها بسهولة!
ترى ما الذي يجعل المرأة عامة لا تستطيع أن تقول لا، رغم اقتناعها بأنها مقبلة على جحيم؟!
وما الذي يجعل من امرأة واعية عارفة، امرأة ساذجة في بعض الأحيان؟!
هل يختلف التحرش الجسدي عن الاغتصاب، أم أنهما في مستنقع واحد يغوصان؟!
وما الذي يدفع المرأة إلى الرضوخ للصمت حين تتعرض لتحرش جنسي، واغتصاب كامل أحياناً؟!
كثير من الأسئلة تتوالد في البال يكون مفتاحها المرأة، المرأة اللغز، القوية في ظاهرها، ومع ذلك أمام بعض الممارسات والأفعال تصدم بهشاشتها.. المرأة الكريستال ضربت فيها الأمثلة تلو الأمثلة، ووضعت في شأنها جداول توصيات، ومع ذلك، ومع ما تعتقد هي، ويعتقد المجتمع أنها وصلت إليه، ما يزال ينقصها الكثير من الحقوق، هذا لو استثنينا بالطبع من تفتحت عقولهم فاعترفوا أنها مركب الاكتمال في حضورهم الإنساني، والقياس على ذلك كثير، وبتفاوت في أي مجتمع، عربي أو غربي!
الكثير من علماء ومحللي النفس، يعودون إلى الطفولة، فيردون أي هشاشة مستقبلية إلى الطفولة، وما صادف المرء فيها من الأزمات، فرويد مثلاً يركز في أبحاثه على العقل الباطن والسمات النفسية التي تشكله، وهل العقل الباطن إلا تلك التراكمات في مخزون النفس كطرق التربية واستقبال ردات فعل من الأهل والمربين في الصغر لهما الدور الأكثر حساسية في إقحام الغد في بقايا الماضي وعلى أساسها يأتي التصرف.. الأب، الأخ، العم، الجد.. الذكر في المطلق من حيث الخصوصية في تميزه والتي نراها تتماثل عبر الثقافات والديانات في تفضيله على الأنثى، ولا يخفى أن الذكر نفسه رغم تملكه السلطة والتحكم، يكون أحياناً في منتهى الهشاشة والسحق في توالي تربية عليه قد تأتي من أب أو أم مضروبين نفسياً لتحط وحشيتها على امرأة لا حول لها ولا قوة!..
هذا قد يستحضر السؤال المفحم عن البيضة والدجاجة: من منهما كان البذرة للآخر، وعن الكون هل هو الموجود قبل آدم، أم أنه وجد بفضل حضور آدم؟!
لقد قامت مجتمعات بأكملها على زعامة المرأة للقبيلة، فهي التي تترأس، وتخطط، وتربي، وتوجه، ويتناقلون أن المجتمعات البدائية كانت في بداياتها أمومية، فهناك مثلاً الإلهة الأم تمثل الأمومة والخصوبة والإبداع، ومن الآلهة التي عبدت لها شكل أنثى، وحكمت من الملوك إناث، ولعلمكم حين تكون المرأة يتدفق نهر من الحكمة والسلام، والحنان والتبصر، والمغفرة، زرقاء اليمامة التي حذرت قومها من الأعداء، قتلوها حين شككوا بما أخبرتهم، ولم يشفع لها تبصرها الذي نشلهم من كثير من الغزوات، زنوبيا ملكة تدمر ثبتت دعائم حكم واجه روما وغيرها من الإمبراطوريات الكبرى في ذلك الحين، الخنساء ضربت مثلاً في التضحية لدين آمنت به، أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية، وجاسيندا رئيسة وزراء نيوزيلاندا ضربتا أمثلة رائعة في القيادة الحكيمة، أما ما أدى إلى مطالبة الأنثى بموقع لائق في الحياة فقد أتى بعد أن سيطر الكهنة والذكور على مقاليد الحكم، وأحرقوا من لقبوهن بالساحرات، واللواتي لم يكن غير العارفات المتبصرات بما أوتين من حكمة المعرفة بالعلوم القديمة التي أخفيت عنا.. نعم، فلكل زمان سلاطينه، ودهاته، وجلادوه، ويبقى المشترك تلك الحرب المعلنة وغير المعلنة على الأنوثة، رغم أنه يتوجب لها التقديس الخاص لكونها المرتع والمنبثق الأساسي لقوى النور والعطاء والتألق عبر الزمن.. يكفيها تقديسا اختصاصها بالرحم مستودع الحياة..
في الحروب يصبح اغتصاب جسد المرأة مكباً للعنات، وأداة لتكريس الفوز على الخصم، ذلك الجسد الذي تستبيح الطقوس الوثنية، والحروب العالمية قديمها وحديثها حتى اليوم تقديمه قرباناً بصور مختلفة رخيصة وغالية الثمن، وللأسف تكون المرأة مساهمة فيه في الوقت نفسه بذاتها، أقصد تلك المرأة التي استمرئ إخضاعها للتجهيل، وسلب أية محاولة منها لتخرج إلى نور المعرفة بحقوقها!
والتحرش كظاهرة سائد في المجتمعات كلها، المتحضرة، والمتخلفة عبر سكوت كثير من النسوة عن ذلك خوفاً من المجتمع المحيط بأنواعه ما يجعل المرأة تنكفئ، وتلعق جراحها مثل كلب مسكين مرمي في الفلاة.
لكن المريح رغم ذلك، أن أصواتاً تصر أن تمد رأسها، وتخرج على المنصات تتكلم، فتكشفت لنا فضائح تتعلق بآباء، وأقرباء أحياناً، وبذوي سلطة، وإرهابيين، ومسؤولين سياسيين، ورهبان وشيوخ، وأطباء، أساؤوا استخدام علاقة العمل بفتيات كن تحت سلطتهم!.
إن فقدان الأمن في الطفولة ينسحب على المرأة عموماً في باقي حياتها في اختياراتها وفي سلوكها، فتعيش في قلق واضطراب دائمين، فلا تحسن الاختيار في كثير من المواقف، وتقع في المطبات، فالسذاجة النفسية لا تُرد إلى صغر السن فقط، بل إلى جزء ما من الناحية العقلية تتساوى فيها الصغيرات الساذجات، والكبيرات مجروحات الغرائز، وكل ذلك بتأثير من تربية غير واعية، أو تربية تعلّم الأنثى أن عليها دوما أن تَظهرَ لطيفة، وتبدي الخضوع، والجهل، وعدم الفضول، ذاك النموذج المرخّص له في مجتمعات وضعت مسبقاً حدوداً وأطراً للأنثى المرغوبة، كما حدث مع “س”، لكن طالما هي ترتد إلى حدسها، الأعمق فيها فإنها ستسترجع ذاتها وستنهض لبناء ما تدمّر منها، أن تكون فضولية، أن تنصت إلى ما تسمع، فتردّ قوى الإدراك والبصيرة إلى حالتها الأصلية ثانية، أن تسترد المرأة الوحشية فيها، ليست المبادرة بالعنف كما يتراءى لأول وهلة من الوصف، بل استعادة القوى المطمورة فينا، والتي بها لن نعود الضحايا البسطاء للظروف الداخلية، والخارجية. (باقتباس عن الكاتبة والمحللة النفسية كلاريسا بنكولا).
لكن ذلك الحدس هو لب المشكلة برمتها، فكيف ستستعيده تلك الأنى، هنا المشقة كلها، فإن كانت ما تزال تخضع لذلك الاضطراب، فستظل عقيماً، وسيستدعي ذلك من الأنثى الكثير من القسوة على النفس والروح، وقد يستغرق ذلك سنوات لتسامح، وإن كانت محظوظة فيمكنها استشارة أخصائي تسترجع معه شريط حياتها، فيضع يده على منبت الجرح ويساعدها على الخروج منه، ومنهن من لا تسامح بسهولة، هذا يتعلق بدرجة اليقظة التي توصل إليها الحدس.
تقول لي “س”: الله يسامحه، وتكمل: أنت تعرفين أنني قوية، وسأتخطى ما جرى لي. ” و”س” بدون أن تقصد، وبعد أن بدأت تستعيد حدسها الأنثوي، وطاقاتها التي كانت مطمورة في داخلها، سعت إلى تطهير روحها من الألم بمقابلة الإساءة بالمغفرة، رغم أن الفرصة سمحت لها بمقاصصة ذلك الرجل، وزوجة أخيها في محكمة تضع في أولوياتها المرأة، وتعنيفها، وضمن محاكمة نزيهة جداً!