fbpx

الإنسان محور التربية ومنتجها وغايتها

1 150

قبل الميلاد بحدود 700 عام تقريباً، وفي الزمن الذي سادت فيه الفلسفة السفسطائية اعتبر أميرهم بروتو غاراس، بأن الإنسان محور الحياة وقال إنه صانع لعالمه وقيمه ومثله ونفسه

وبعده سقراط آخر الفلاسفة السفسطائيين، الذي خاطب الإنسان قائلا له، اعرف نفسك، هذه المقولة التي فسرت شكلا بينما مضمونها أن يدخل الإنسان في غور ذاته ليدرك أهمية وجوده في هذا الكون؛ والمسؤوليات المناطة به: ليس على صعيده الفردي فقط؛ بل ليضفي إنسانيته على من حوله.

ثم تلاه أفلاطون الذي اعتبر الإنسان جوهر الوجود وتحدث بالروح الإنسانية باعتبارها العنصر الأهم في الحياة والطبيعة، كما اعتبر النفس هي الصلة مع الله.

بعده أرسطو الذي وصفه حيوان ناطق ثم ناطق وعاقل؛ وربط بين العقل والإله، وفي الفلسفة الاوروبية، ديكارت الذي تحث بالعقل الكلي وعلاقته بالجزئي؛ وقال بالثنائية المشهورة، (الجسم والروح) التي تتقاطع مع ثنائية أفلاطون وقال إنه مفكر ويعيد إنتاج الفكر وإنتاج نفسه من خلال الشك، وبعده سارتر الذي تحدث في مفهوم الإنسان والحرية وهو القائل أن الإنسان حر حتى يختار: حيث يصبح محكوما بخياره وهذه الفلسفة التى ربطت وجود الإنسان بالفكر، (أنا افكر إذن أنا موجود، الفلسفة الوجودية).

ثم إميل دوكهايم الذي وصف الإنسان بأنه كائن يعي ذاته بكونه كائن اجتماعي، هذا بالإضافة إلى العديد من الفلاسفة الذين تحدثوا عن الإنسان ودوره وهم كثر.

وفي هذا السياق يهمني أن أذكر المرحوم إلياس مرقص المفكر السوري؛ الذي قال بمركزية الإنسان؛ وأن هذه المركزية لم تكن تعني عنده (التقديس) للإنسان ومثلنته، بل كان يراه دوماً كائناً معوزاً ومحتاجاً؛ حاملاً للخير والشر؛ بحسب التربية؛ وقابلاً للتحسن باطراد.

وهكذا أصبح الإنسان هو المحور الأساس والقضية المركزية التي تقوم عليها أنظمة التربية الحديثة؛ التي قالت بقطبيته وتنميته بما يتلاءم مع حتمية التغيير الاجتماعي المستمر؛ حيث تركزت الجهود لإيجاد العملية التربوية الفعالة التي تأخذ بالحسبان دور المعلم وكفاءته وقدراته ومؤهلاته، ودور الناشئة واهتماماتها وحاجاتها من جهة وحاجات المجتمع ومتطلباته التنموية من جهة أخرى، وهذا يتجلى من خلال تكامل فروع التربية على كافة المستويات، البعد الديني في التربية.

سأتحدث تحت هذا العنوان من خلال، الأسس الجامعة للأديان (السماوية ) الثلاث؛ اليهودية؛ المسيحية؛ الإسلام، حيث تجمع هذه الأديان أن الله عرف على ذاته عبر الوحي؛ وأن سلطانه مطلق وأوامره لابد أن تطاع بلا تردد؛ كما أنها تبدأ بالإقرار بأن الله خالق كل شيء من لا شيء بل وأكثر؛ أن الله حقيقة موضوعية خارجية (خارج الإنسان وسائر الخلق) وهو حاكم لسواه؛ كما أنها متفقة على أن الإنسان الفرد قد خلقه الله واحداً غير منقسم؛ وأن موت الجسد لا يعني الانفصال النهائي بين الروح والجسد؛ وإنما ليكون خلاص الإنسان كاملاً فلابد أن تتحد الروح مع الجسد مرة أخرى في نهاية الزمان (حسب موسوعة الأديان الحية).

كما أن هذه الأديان تطرح فكرة التعالي؛ فكرة الآخر المختلف كلياً الذي يعطي الحياة معنى وجودها لمن يشاء؛ كما يعطي الإنسان ورقة خلاصه ونجاته من الحياة الآخرة؛ كما يطرح العالم الأخر الخالد؛ وفكرة البعث والحساب ويحدد سلوكاً معيناً طريقاً للخلاص؛ وهو الذي يصبح معتقداً ملزماً لاتباعه.

كما أن جميع هذه الأديان تأخذ بمقولة السمع والطاعة التي تشكل السمة الغالبة لدى المتدينين كافة وفي كل الأديان والمذاهب وخاصة الإسلامية منها.

وعلى الرغم من أن بعض المذاهب، احتل العقل حيزاً مهماً في معرفة الخالق واعتبر هو البوابة الوحيدة لمعرفته وبأنه إبداع أبدعه الخالق من نوره، (الدعوة التوحيدية، الموحدين الدروز) غير أن هذا لم يغير من هاتين المقولتين السمع والطاعة بشيء.

ورغم الإجماع أو شبه الإجماع بين المتدينين على هذين المفهومين، ولكنهم يختلفون فيما بينهم لأن كل منهم يسمع لما يقوله دينه أو معتقده وبالتالي يصبح مستلباً أمام ما يؤمر به وما عليه سوى السمع والطاعة؛ ومثل هذه المقولات وغيرها تفاقم القضايا الخلافية؛ لأن كل منهم يساق بعصا معتقده كونه مالك للحقيقة تحت مقولة الفرقة الناجية.

وعلى الرغم من إعطاء العقل دوراً مهماً خاصة في بعض المذاهب الإسلامية، فإن ذلك لم يغير شيئاً بسبب سيطرة الدين الموازي في كل الطوائف ويعود سبب ذلك للتخلف العام وخاصة المعرفي منه، أهمية الأسس الفلسفية في شكل وبناء العملية التربوية ونجاحها.

إن عمق العلاقة بين العلوم الفلسفية والتربية يعود للارتباط الوثيق بين الفلسفة والإنسان وطبيعته في بعديه الفردي والجمعي والعلاقات المتشابكة بينهما؛ وهذا شكل أساس فلسفة التربية؛ التي ارتكزت على بعدين، بعد عملي؛ وهو النشاط الفكري الذي يتخذ من الفلسفة وسيلة لتخطيط العملية التربوية؛ وتنظيمها وانسجامها؛ وتوضيح القيم والأهداف التي ترنو إلى تحقيقها؛ أما البعد النظري، هو الإطار العام من الآراء والمعتقدات الفلسفية التي تدور حول الإنسان وحول العالم الذي يعيش فيه؛ والتي توجه العملية التربوية لهذا الإنسان وتوحدها؛ وتحدد أهدافها وطرق نشاطاتها، كما هناك علاقة بين الفلسفة والتربية؛ بما امتازت به من عمق وتكامل وبما احتوته من قوة التأثير والتفاعل.

حيث اعتبر بعضهم؛ أن الفلسفة هي النظرية العامة للتربية، وقيل أيضاً إن الفكر التربوي يجب أن يتم تناوله عن طريق التفكير الفلسفي؛ الذي يتصف بالشمولية والعمق بتناوله قضايا الحياة الإنسانية؛ التي تتأثر بالتربية وما ينتج عنها من تغيرات تحدث في المجتمع، وسأورد بعض الآراء الفلسفية بالتربية من بعض الفلسفات التي اعتمدت في كلية التربية.

الفلسفة المثالية كما سميت، ورائدها الفيلسوف اليوناني الشهير أفلاطون (427-347 ق.م) حيث ركزت هذه الفلسفة على الروح الإنسانية؛ باعتبارها العنصر الأهم في الحياة والطبيعة، كما أنها ترى بأن العالم من صنع العقل والروح؛ وتنظر إلى العقل بأنه قوة فطرية واحدة عند جميع الناس؛ ولهذا تكون المبادئ عندهم واحدة؛ والاستدلالات الصادرة عنها صحيحة، وتقول إن العقل مصدر العلم اليقين، وانطلاقا من هذه الرؤية فإن العلم الحقيقي عند أفلاطون؛ هو العلم الذي يعتمد على العقل في الوصول إلى الحقائق الجوهرية في عالم المثل والفضيلة عالم الحق والخير والجمال،

ويضيف كانط على مبادئ فلسفة أفلاطون التي لخصها بالحوار على الطريقة الأفلاطونية بدون عنوان، أن المعرفة من إنتاج العقل، وأضاف النظام الذي يحول طبيعة الإنسان الحيوانية إلى الطبيعة الإنسانية الراقية من خلال تربية ملكة العقل، ويقول بأن الإنسان العاقل مشروع أي قانون وهو المنفذ له.

أما جان جاك روسو (1712-1778) الفلسفة الطبيعية، يعتبر أن ميلاد العقل يتطابق مع ميلاد الإنسان الاجتماعي؛ ومع الفساد والشر الأخلاقي الذي نتج عنه، فإن هذا العقل وحده هو القادر على تقديم التشويه الذي طرأ على حالة الإنسان الطبيعية والسير بإنسان الطبيعة إلى إمكان بناء الإنسان الجديد والمجتمع الجديد أيضاً، وإذا كان العقل ولد مع ميلاد الجماعة فإن اللغة أيضاً هي وليدة العيش ضمن الجماعة ووسيلة التفاعل الاجتماعي؛ بوصفها امتيازاً يتمتع به الإنسان.

وفي إطار التربية المدنية للمواطن، يتحدث روسو في تربية المواطن على جانبين أساسيين، أولهما الصلة الوثيقة بين السياسة والتربية، والثاني، تربية المواطن في مجتمع يطمح إلى تحقيق إنسانيته؛ وضمن هذين المنطقين يرى روسو أن الوطن لا يمكن أن يقوم بغير الحرية؛ والحرية بغير الفضيلة؛ والفضيلة بغير المواطن؛ وهذا لن يتم إلا بإعداد المواطنين؛ ومن دون هذا الإعداد لن يكون المجتمع إلا عبيداً أشراراً؛ بدءاً من رئيس الدولة، ويقول إن المربي يجب أن يكون صالحاً ولهدف واحد هو تربية المواطن، أما بالنسبة إلى التربية الدينية يرى بأن تؤجل إلى مرحلة متأخرة.

وعرف عن روسو بأنه فيلسوف الحرية؛ حيث جعل منها وسيلة التربية وغاية الإنسان وتكريس لسيادة العقل، ويقول بأن الحرية هي التي توجد في عقل قادر على التمييز بين الممكن والمحال، وبين الواقع والخيال، أما الفلسفة البراغماتية ورائدها جون ديوي، تعتبر أن المنفعة الشخصية هي المرشد للإنسان؛ في عمل يقوم به؛ بحيث تكون المنفعة معياراً لوجود الشيء واستعماله؛ لأن وجود هذا الشيء مقترن في منفعته، وأكدت هذه الفلسفة على فاعلية الفرد في عملية التعليم؛ وضرورة أن تبنى الأهداف التربوية بالدرجة الأولى على حاجات المتعلمين واهتماماتهم؛ وليس على قواعد وتشريعات مسبقة تعبر عن تطلعات التربويين ويبقى المنهاج هو المحك الأساس لتكامل الأهداف التربوية مع الوسائل المستخدمة لبلوغها وتحقيقها.

الخاتمة

الدول أو المجتمعات التي تعتمد العلم والعقل ومعيارية الإنسان تضع نماذج تربوية وطرق تفعيلها والإمكانيات اللازمة للوصول إلى الغاية المنشودة؛ عبر تربية أبنائها وفق رؤيتها لطراز الإنسان المنشود، والأهداف التي تسعى لتحقيقها عبره؛ من هنا نقول، إن الإنسان أو الشخصية في أي مجتمع نتاجاً حتمياً للتربية السائدة في هذا المجتمع بكل أبعادها كما ورد في مقررات كلية التربية، في الجامعة السورية.

وعندما تفتقد الشعوب أو الدول النموذج التربوي الجامع لأبنائها تفتقد في ذات الوقت إمكانية بناء دولتها الوطنية، وتسود الصراعات والتحارب والأخذ بأساليب عنفية والعودة الى البنى المتخلفة، طائفية عشائرية وما شابه وهذا ما يجري على ساحة الوطن.

نعم ما قاله برتوغاراس صحيح في العام؛ ولكن هناك نفوس وعوالم؛ ومثل وقيم متعددة، وهناك صناع لها من البشر، كما هناك تلازم بين الصانع والمصنوع، وبين الإنسان ومثله؛ وبين القيم والمثل والمجتمعات، فالمصنوع هو ثمرة جهد الصانع؛ وتطور عقله.

لذا نقول، لكل ساحة ناسها وطرق تفكيرها، وأدواتها المعرفية والثقافية التي يتحدد من خلالها هويتها الذاتية؛ وحركيتها؛ وموقعها؛ ومشاركتها في بناء العالم الإنساني؛ عبر بناء ذاتها الفردية والجمعية.

الشعوب والدول تتقارب في التطور المعرفي الإنساني وصنع الحضارات المعبرة عن ذلك وتتباعد وتتحارب في غياب ذلك، والعملية التربوية بعد من الأبعاد المركزية للتطور الانساني ونموه عبر تجادلها وتكاملها مع الأبعاد الأخرى.

1 تعليق
  1. بشر زهرالدين says

    جهد جبار وإنتاج عقلي رائع لك كل التقدير والاحترام وننتظر المزيد من الأطروحات

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني