fbpx

أمي وأنا وبائع الجولان

0 268

بعد تهجيرنا قسرياً من مدننا على يد العصابات الطائفية التي لم تتورع عن استخدام صنوف الأسلحة كافة، حتى تلك المحرمة دولياً، وكان نصيب مدينتي كنصيب شقيقاتها في ريف حماه الشمالي، آلاف البراميل والحاويات المُتفجرة وآلاف الغارات بالطيران الحربي، ومئات الآلاف من الصواريخ وقذائف المدفعية والدبابات، وعشرات الحاويات من الغازات الكيميائية السامة، حيث تشتت شملنا وانقسمت عائلاتنا، واتشرت ما بين مخيمات الشمال وما بين الأراضي التركية، وحالُنا حالُ عشرات الآلاف من العائلات السورية، وكان تبادل الزيارات على طرفي الحدود صعباً، فكانت الاتصالات هي السبيل المُتاح للتواصل والاطمئنان على الأحوال، وكانت الاتصالات مرتبطة بتوفر الإنترنت لدى الجانبين لعدم وجود خطوط اتصال دولي، وإن وُجدت فتكلفتها باهظة جداً، وكانت في بعض الأحيان تتأخر الاتصالات بيننا لبعض الوقت وقد يستغرق عدة أيام، لكنها لا تتجاوز أيام الأسبوع، وكانت عائلتي مشطورة مناصفة ما بين مخيمات الشمال والمخيمات التركية، وكانت عادتي التواصل اليومي مع والدي وإخواني في مخيمات في الشمال، نتبادل أحاديث الترويح عن النفس والتعلل بآمال العودة لبلادنا، وقرب سقوط النظام، وكانت والدتي تتردد إلى مدينتنا رغم الدمار والقصف.

وفي شهر كانون الأول من عام 2019 استهدف الحي الذي يقطنه أخي وأمي بعدة صواريخ من عصابات النظام، أصابتها إحدى شظاياها لترتقي إلى بارئها بعد عدة أيام متأثرة بتلك الإصابة.

وكانت والدتي – رحمها الله وتقبلها من الشهداء – تتسِم بميزة الغضب الشديد الذي كُنا نعرِفُهُ من خلال حِدة عبارات التأنيب، واستغلال نقاط ضعفِ كل مِنا، وكنت أضعفهم أمامها رُغم أني كنتُ الوحيد من بين إخوتي مستودعاً لأسرارها، وكنت الحَكم الوحيد لفض النزاعات بينها وبين والدي الحبيب أطال الله لنا بعمره وأدام علينا ظِله وكانت طريقتي للحل معروفة لهما وكانا يقبلان بها بكل حبٍ وكرامة.

وكان إخوتي وولدي في تركيا يعملون عمالاً زراعيين يبدؤون يومهم مع الفجر وينتهون بعد الغروب، وفي أحد المرات تأخرنا بالاتصال بوالدتي ليومين أو ثلاثة، ولما تيَسرَ ليَ الأمر قمت بالاتصال بها وقبل أن ترد علي التحية، فاجأتني بقولها: “يا خونة بعتوني، مثل ما باع الأسد الجولان، خمسة أيام لم نسمع أصواتكم”. فوقعت علي هذه الجملة كالصاعقة فلم أستطع الكلام بعدها وتحجر لساني وغصصتُ بكلماتي، وفاضت دموعي ورغم محاولتي ضبط نفسي لم أستطع فانفجرت بالبكاء، فجن جنون أمي، وأخذت تبكي معي، ولم نستطع إتمام المكالمة حينها، وتدخلت أختي لتقطع الاتصال، وفي المساء عاودنا الاتصال، فبادرتني باعتذارها وأسَفِها، وطيبَت خاطري بإمطاري بدعوات الرِضا علي وعلى إخوتي جميعاً.

ولما سألتني عما جرى لي، قُلت لها كانت كلماتك صاعقة ولم أكن أتوقعها ولم يخطر على بالي أن أسمعها يوماً من أحد، فهي اتهام صريح بالخيانة رغم عِلمُكِ بوفائنا لكِ وبِرنا بِكِ وبوالدي، والأمر الآخر الذي أثر بي هو أن تُشبهيننا بالخائن المقبور حافظ أسد، فضحِكت وأكدت لي بأنها كانت مزحة ثقيلة لتغيظني بها ووعدتني بأنها لن تعيدها، ولكني كنت بعد ذلك أبادِر بها لتذكريها لقطع الطريق عليها في لَومِنا أو تأنيبنا عند تأخرِنا بالتواصل معها وكانت ترد علي “ما عاد تنساها؟!”.

فكانت هذه العبارة أيقونتي التي خصتني بها أمي، التي تُذكرني دائماً بألا أفوت لحظة من عُمري في معركتنا مع هؤلاء الخونة، وكانت درساً لن أنساه ما حييت أبداً وكأنها تقول لي يا بُني: “من ينقطع بره عن والديه ولو كان بكلمة، فهو خائِن، ومن يقطَعُ رحمه يوماً فهو خائن، ومن ينسى خونة الوطن فهو خائن، ومن يسكت عن حقه فهو خائن، ومن يتردد في ثورته فهو خائن، ومن يحيدُ عن طريق الحق فهو خائن”.

فكان هذا الشعور يُلازِمُني في كل حال من أحوالي، وكانت عبارات أمي حِصناً ودِرعا لي من السقوط والتفريط بدمِها ودماء الشهداء التي سفكها الخونة أحفاد الخونة المجرمين، نسأل الله تعالى القبول والثبات.

شُكراً أمي، ونسألُ الله تعالى أن يرحمكِ ويغفِر لكِ ويتقبلكِ أنتِ وشهداء الثورة مع الأبرار ويدخِلكم الجنة مع عِباده الصالحين.

وأن يلعن الخونة والمارقين من سُلالات الخيانة والإجرام، ويُعجل فرجه ونصره فهو القادِر على ذلك وما ذلك عليه بعزيز.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني