تعريف الشعر العمودي
الشعر العمودي هو نوع من أنواع الشعر، يكتب على شكل أبيات متتالية، وكل بيت يتكون من صدر وعجز، ويعتمد في كتابته على قواعد العروض التي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي، بحيث يهتم بالحفاظ على وزن الشعر واتصاله كوحدة واحدة من بداية القصيدة حتى نهايتها.
وهو أقدم أنواع الشعر والأساس الذي بنيت عليه جميع أنواعه، ومن شروطه اللغة العربية الفصحى مع الالتزام ببحور الشعر الستة عشر للفراهيدي، أبياته على نفس الوزن والقافية ملتزمة بتفعيلات البحر مع ضرورة الإلمام بعلم التقطيع العروضي للأبيات لتجنب الخطأ في الوزن والقافية.
ديوان (بردة العمدة) للشاعر المغربي محمد الملواني، وهو من مدينة سلا، حاصل على إجازة في الأدب العربي، أستاذ للغة العربية، ناقد وفاعل جمعوي، له ديوان آخر في طور الطبع، وقد جمع في ديوانه بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة أو الحر، لكن ميولاته الأدبية وحبه الأبدي هو للشعر الموزون الذي برع في إدراك بحوره وأتقن الاشتغال بآلياته. وقصيدة (سلوا عنترة) هي ضمن هذا الديوان، حيث يقول الشاعر فيها:
يا روح بوحي أحبي موقداً مزهراً
ما بي أرى عزفك المياد قد أدبرا
يسعى بعشقي قليب هالكي مقعداً
يا قلب تدعو، وربي لن أعود الورى
حبي دعاني فكسرت القوافي، نعم
كسرتها، وارتجلت الوصل مستبشراً
أهلا وسهلا بموت في عيون بدت
تسود حسنا، فترمي سهمها مرمراً
أمشي طريحا إلى من طرفها دنيتي
هيهات، ما كنت مقصوصا وإن كابرا
شعري بنظم رباط يبتغي معلماً
خضبت حرفي بلطف فارتوى مسكراً
نفسي حليم نداها، يبتغي مشتلاً،
يا مورد العشق، قس، وابعث نداي القرى
من عينها تغزل القربان قنديلها
نجم مشع بقلب قاتلي مجزراً
أنى أولي تريني ظلها موطناً
تكتالني من خلائي، تقتفي معبراً
من دينه الحب يسكن منزلا مغرماً
من دينه الحقد ما نال الهوى وانبرى
أسعى إلى حيث أنساني بطيب كمن
يسعى إلى لطفها عدوا وقد أثمرا
هشي بيمناك وصلاً، واغزلي بردة
يصفو لها مجلس عند الورى مغبراً
مرباعك النصف والفضل ارتمى سابحاً
فوق الأديم اقتفى في روضة سكرا
ما بال ورد بياض راح يعلو صدى
صدري بطيب فلملمت القرى مبحراً
أنسى دياري وما بي، أكرمي عمدة
استحسني بردتي حسنا كمن أسحرا
يغتالني شوقها، إبريزها مرمر
مذ قص حرفي قصيدا لان واستبشرا
إن كان للشعر شيطان فلي لطفها
يكفي ويسقي خوائي بسطة ممطراً
حسناء ذا سحرها في مرفقي شامة
تسري فأغفو بحلمي يرتمي مفخراً
يا دنيتي بسملي، فالوتر أنت السما
كي تعزفي شفعنا ليلا سبا زعتراً
من أضلعي صغت بيتا يعتلي هامتي
يرعاه شوقي إلى من قلبها أخطرا
أرمي بيمناي حمدا علني أرتوي
ما زاد رميي سوى مسي كمن أزورا
إشراقة في سمائي بالهجير احتمى
قلبي، كرمضاء بالوصل اعتلى محرراً
تغزو بطرف لها ميادة دنيتي
بالمعصم البيض نبض ساكن أزهرا
قف من مصابي يحيي بعضنا لوعة
أشتاق، والليل يطوي كحلها مبصراً
يا ليل قد طال شوقي، ما شكوت الورى
شكواي صهباء في حلقي، سلوا عنترا.
انطلاقا من عنوان القصيدة (سلوا عنترة)
والذي يتكون من فعل أمر سلوا من فعل سأل وهو دعوة للتقصي واتباع الأخبار، وعنترة الشاعر والأسطورة في مخيلتنا الدالة على الشجاعة والإخلاص وأيضاً القدرة على الإبهار من خلال الكلمة، فهذا العنوان هو بمثابة نهج ينتهجه الشاعر محمد الملواني ويتجسد في إبداعاته، حيث يحدث التقاطع هنا باعتماد الشاعر أسلوب التقصي في اختيار أعمق المصطلحات وأدلها للتعبير عن حالة وجدانية، كما أنه بتحكمه في شكيمة المعجم اللغوي يشبه تحكم عنترة في شكيمة حصانه وأيضا إبداعه الشعري ويشبهه أيضا في وفائه لحبه عبلة وتقاطع آخر يتجلى في كون الشاعر يعد عمدة في عرف أندائه حيث يحلو لهم مناداته بذلك، إذ يعبر عن ذلك قائلاً: أنسى دياري وما بي أكرمي عمدة كما هو حال عنترة بين الشعراء.
ومن أول بيت في القصيدة والذي مطلعه (يا روح بوحي) يتجلى عمق مشاعر الشاعر وسموها عن المجسدات لتسبح في عالم الجمال الروحاني، لينتقل بنا الشاعر من خلال مصطلحات لا يتقنها سواه ليحيلنا على شعرة فاصلة بين الوجد العميق والموت، في قوله: (يسعى بعشقي قليب هالكي) هنا يجمع العشق بالهلاك وقوله: (أهلا وسهلا بموت في عيون بدت) ايضا هنا امتزج لديه الموت بالعشق، فهو يرحب بالموت بمجرد الامتلاء من نظرة الحبيب. وأيضا ظهور حالة من حالات السقوط في (أمشي طريحاً) والقتل والاغتيال في (نجم مشع بقلب قاتلي) و (يغتالني شوقها) وكل هذه العبارات تدل على أن العشق في عرف الشاعر هو موت بدونه.
والقصيدة أيضا تزخر برؤية خاصة للنظم لدى الشاعر إذ أن القوافي قد تكسر أحياناً إرضاء للحبيب وقد يصير الشعر رباطا مقدساً وقد يلين ويستبشر تبعاً لحالة الوجد. وخلافًا عن كل الشعراء وشياطينهم، فالشاعر محمد الملواني تفرد في نظمه حيث أنه لم يكن له شيطان شعر بل روح طيبة تسكنه فتلهمه. كما أن الشعر في عرفه هو عصارة نفسه وجسده حيث يقول: (نفسي حليم نداها) (من أضلعي صغت بيتا). ونجد أن للعين أثراً كبيراً على مشاعر شاعرنا، لأن العين هي موطن الصدق والإحساس ومن خلالها يمكن أن نقرأ الإنسان ونعرف صدقه من عدمه، فالشاعر ذكر العين وخصائصها حين قال: (عيون بدت تسود حسنا) (من عينها تغزل القربان) (تغزو بطرف لها ميادة دنيتي) (والليل يطوي كحلها مبصرا).
وقد سار الشاعر على نهج الشعر القديم حيث قال :(قف من مصابي يحيي بعضنا لوعة) حيث كانت القصائد تعج بالدعوة إلى الوقوف إما للبكاء على الأطلال أو غيره.
كما أن أسلوب النداء حاضر بقوة على طول مساحة القصيدة: (يا روح بوحي/يا قلب تدعو/يا مورد العشق/يا دنيتي بسملي/يا ليل قد طال) فالشاعر هنا يستحضر كل القوى ويدعوها لتشهد وتزكي حبه وولعه؛ كما نجد مصطلحات مستقاة من حياة الصحراء فيما مضى كالخضاب والرمضاء والبردة وأيضا الكرم الحاتمي حين قال: (مرباعك النصف والفضل ارتمى باسطا)، وقد جسد الشاعر الحب في أسمى صوره ببيت قد يتخذ مثلاً أو شاهداً على هذا الإحساس في مطلقه، حيث قال:
من دينه الحب يسكن منزلاً مغرما
من دينه الحقد ما نال الهوى وانبرى
وأكيد أن قصيدة (سلوا عنترة) هي غنية بدلالات ورموز لا يسبر غورها سوى الشاعر نفسه ونكتفي نحن بما وصله إدراكنا تاركين المجال لقراءات أخرى قد تكون أشمل وأوسع ليس فقط لهذه القصيدة بل للديوان (بردة العمدة) بأكمله لأنه يستحق أن نقف عنده.
بالنسبة لأسلوب الشاعر فهو موغل في لغته العربية الفصيحة والقحة والتي إن دلت على شيء فتدل على تمكن صاحبها من أدواته وإدراكه لمدى نجاعة هذه الأدوات في سبر أغوار المعنى بدقة لامتناهية توصل المتلقي إلى الدهشة حد العجز أحيانا عن اكتشاف الأعمق وقراءة ما خلف السطور.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”