fbpx

النور والظلمة

0 248

تشرق الشمس وتغيب. تفتح المخازن والمصارف والمحلات والدكاكين أبوابها في الصباح، ثم تغلق الأبواب في المساء.‏

أدفع باب المصرف برفق، فينبعث قليل من النور إلى الداخل، ولا يلبث الباب أن ينغلق بآلية فيتقلص النور إلى الخارج ويربض عند عتبة الباب.‏

أخطو بضع خطوات في الزحام، بين الواقفين، وأتوقف أمام حاجز هائل يقسم القاعة الكبيرة قسمين غير متساويين من الجدار الأيمن حتى الجدار الأيسر.‏

أنظر ههنا وهاهناك فأرى خلقاً كثيراً، أصطدم بهم وأشعر بأنفاسهم تلفحني. من حولي وأمامي وخلفي رجال ونساء وشيوخ وشباب.‏

الحاجز الخشبي عال يكاد يصل إلى كتفي. خلفه مجموعة من الموظفين يجلسون إلى مناضدهم، هذا الحاجز العريض المغطى بالمرمر الأسود يحيلهم إلى أناس قابعين في قعر حفرة. من حولهم إضبارات وأوراق من شتى الحجوم والألوان. أمام بعضهم أدراج مفتوحة مملوءة بالأوراق. على مناضد أخرى آلات كاتبة وآلات حاسبة، تقوم بالعمليات الحسابية بآلية.‏

أتطاول وأمد عنقي لأرى أين صارت الحوالة الصغيرة التي قدمتها إلى واحد منهم، لكأنها اختفت في الظلام. الموظف النحيل يرفع رأسه بين الفينة والفينة يتطلع إلى الناس: إنه يرمق شرفات بناية، ثم ينفث الدخان. الدخان يتصاعد ويتجمع ويشكل غيمة تحجب الرؤية. وتعود عينا الموظف بآلية إلى الأوراق التي أمامه.‏

تبدر من الواقفين حركات يسيرة. يحرك أحدهم يده أو جذعه أو يرفع كتفه أو يستدير. يسير شخص ما ويبتعد. يقترب غيره ويزحم الآخرين. تتحرك جذوعهم في بعض الأحيان لغير ما سبب.‏

عيونهم وحدها تعمل، ترمق، تقطب، تتابع شيئاً ما، تتابع مسيرة الأوراق. هذه الحركات الصامتة كلها تلامس الأسماع، مختلطاً بعضها ببعض، ولكن لها مع ذلك هديراً يبلغ الآذان، صوتاً خاصاً لا يشبه الأصوات الأخرى.‏

فجأة ينبعث من الآلة الحاسبة صوت تكتكة يتلوه صمت. من بعيد ثمة آلة كاتبة لا تتوقف.‏

تكتكة رتيبة مستمرة ذات إيقاع واحد لا يتغير. أما الواقفون فقد ألقوها حتى لم يعودوا يشعرون بها.‏

العيون تلتفت على نحو عابر تنظر إلى هذا أو ذاك من الموظفين. ينحسر الموظفون إلى منطقة الظلمة أمامي، فلا أرى إلا الفتاة ضاربة الآلة الكاتبة، كثير من المراجعين لا يوليها كبير اهتمام.‏

أولئك هم المتعجلون المنهمكون في معاملتهم. كذلك فالفتاة لا بتالي بأحد. إنها منصرفة إلى عملها على الآلة لا تكاد ترفع رأسها إلا لتستريح لحظات. أما أنا فلا أنظر إلا إليها. ولا أرى غيرها. أنظر إليها باستمرار. أتابع حركاتها وتنقلات أصابعها على مضارب الآلة. وجهها مضيء. يبدد ضوؤه بعض العتمة المنتشرة حوله. حركات يديها نشيطة سريعة مكتنزة بالحياة والحيوية. أحب أن أنظر دائماً إلى يديها البضتين الصغيرتين. أصابعها رشيقة وهي تحرك دولاب الآلة وتبرمه.‏

حين أدخل المصرف، ويحدث ذلك مرة أو مرتين في الأسبوع تقع عيني على مجموعة الموظفين المتشابهين القابعين وراء أدراجهم، فلا أكاد أميز واحداً من آخر. ثم ينحسرون جميعاً إلى منطقة مظلمة. وتبرز هذه الفتاة الشقراء أمام عيني، بوجهها القمري المستدير محاطة بهالة من الضياء، وما أسرع ما يتحول هذا القسم من المصرف المفصول بالحاجز المرمري إلى مربعات، يحتل كل مربع منه موظف ما. وفي أحد هذه المربعات مكتب الفتاة. النور ينسكب عليها، وعلى آلتها وحدهما. فأراها على نحو واضح، ويختفي الآخرون.‏

يزحمني الناس فلا أبالي بهم. ويتململ الواقفون الذين ينتظرون بصبر وإذعان أن تنتهي معاملاتهم. وأنا أنظر إلى الحوالة المستطيلة البرتقالية اللون وهي تنتقل ببطء في منطقة الظلمة.‏

حين تنهي الورقة إلى يديها عليها نظرة خاطفة، وتهز رأسها. في بعض الأيام أود لو تسرع في إنجازها، ويخطر لي في أيام كثيرة أخرى أن تتباطأ في العمل كي أظل أنظر إلى وجهها الجميل وشعرها المسترسل على كتفيها وعينيها الزرقاوين، بيد أن إيقاع الآلة منتظم ورتيب. وفي مدخل المصرف ساعة جدارية ذات رقاص كبير لا يتوقف عن الحركة.‏

في الزحام الشديد ينضغط المراجعون، والزحام دائماً شديد. يتسلل بعضهم فيقف أمامي ويحجب عني الفتاة. أشعر كأن نوراً قد انطفأ، فأغرق في الظلمة. ثم يمضون من أمامي ويعود النور: لقد حجبوا بقاماتهم الفتاة. وتتوالى هذه الظاهرة مرات عديدة أثناء وقوفي هناك.‏

أحاول في كثير من المرات أن أهز رأسي تعبيراً عن الامتنان، وأجهد أن أشكر الفتاة، فلا يتاح لي ذلك. وبالأمس رفعت صوتي وأنا أقول: شكراً، بعد أن رأيتها تنجز عملي. لكن الكلمة تبددت في الهدير الذي يملأ المكان، وطغى إيقاع الآلة الكاتبة على الكلمة فخنقها. وثقت أنها لم تسمع كلمتي ولن تسمعها. ثم خطر لي أن أعبر لها عن امتناني بحركة من رأسي أو يدي. إلا أن الفتاة إلا أن الفتاة ظلت منكبة على عملها، وما أن انتهت من حوالتي ودفعتها إلى الموظف الجالس بقربها حتى تناولت حوالة أخرى بسرعة، الحوالات كلها متشابهة. لا يميز بعضها عن بعض إلا الأرقام. على يديها البضتين يتحول المراجعون إلى أرقام تأخذ طريقها بآلية وبتسلسل رقمي إلى الأدراج أو إلى الصندوق.‏

إنني ما أزال أنظر إليها في هذه اللحظة، وأشعر بالمتعة نفسها تتجدد حين أنظر إليها، كأني أرى هذا الوجه القمري والشعر المتوج أول مرة. واسأل. أسأل بإلحاح وضراعة:‏

– من أنت أيتها الآنسة، ما اسمك؟‏

– أين تقيمين؟ هل لك إخوة وأحبة؟‏

– ماذا تحبين؟‏

– هل تحبين الشمس والبحر في الصيف؟ والقمر والنجوم في الليالي الصافية الرقراقة؟‏

هل تحبين الجبل والأشجار الآبدة فيه كما أحبها أنا؟‏

– هل تحبين الموسيقا والشعر والرقص؟‏

لم أتلق جواباً. كنت واثقاً من أنها لن تسمع كلماتي. ومع ذلك فقد رفعت صوتي سائلاً.‏

قلت: عسى أن تسمع.‏

تكتكة الآلة الكاتبة وحدها هي الجواب.‏

قلت في نفسي: لو أن هذه الآلة تتوقف برهة عن العمل. لو أنني أستطيع بقدرة ما أن أعبر هذا الحاجز وأقترب منها لأراها عن كثب، لأرى يديها الناعمتين وهما تعملان.‏

في هذه اللحظة، في هذه اللحظة ذاتها. وحين خطر لي ذاك الخاطر على وجه الدقة، شعرت بيد ما تمسك بي بمهارة ورشاقة وخفة عجيب، يد خبيرة كأنما تمرست بهذا العمل سنين طويلة، ثم تضعني على منضدة مستطيلة يبدو أنها كانت في أحد أركان المصرف، ألا أنني لم أنتبه إلى وجودها قط.‏

وبسرعة لا يمكن تخيلها اندفعت مدحلة هائلة الحجم، وسريعة الحركة فانقضت على جسمي كله دفعة واحدة. وهاأنذا قد تحولت، دون أن أتمكن من الإفلات أو الصراخ أو الاحتجاج، إلى ورقة رقيقة. ثم وجدتني أطوى بآلية ذات إيقاع سريع، وقفزت بعد ذلك قاطعة ذات شفرة لماعة فقطعت الأطراف الزائدة مني. وتناول أحد الموظفين الورقة وكتب عليها شيئاً لم أتبينه، ولكنني شعرت بحركة القلم وحدته في جسدي، ثم وَّقع على ذلك. ودفع الورقة إلى الفتاة الشقراء ضاربة الآلة الكاتبة، فسجلت عليها رقماً من بين أرقام متسلسلة اخترق عظامي، وكان ذلك آخر عهدي بالنور، وما أسرع ما وضعتني في أحد الأدراج وأغلقت الدرج، وسادت الظلمة.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني