fbpx

المبنى والمعنى
دراسة أسلوبية لقصيدة (وتبقى أنت يا نيل) لفاروق جويدة

0 466

نِيلٌ لأيَّ زمَان ٍصرْتَ يَا نِيلُ؟

هلْ كلُّ لغو لديكَ الآنَ تنزيلُ؟

هلْ كلُ زيف ٍتَراه ُالآنَ معجزةً؟

هلْ كلُ سُمَّ على كفيكَ تقبيلُ؟

هلْ كلُ فجْر ٍعلى الأشْهادِ تَصلبهُ؟

هلْ كلُ نار ٍعلى عَينيْك َقِنديِلُ؟

هلْ كلُ من شَيدَ الأصْنامَ تعبدهُ؟

أمْ كلُّ مَنْ بهْرجَ الكلمات ِجبريلُ؟

لقد استطاع الشاعر بهذه البداية أن يتيح للمتلقي إنتاج دلالات جديدة تتعدى وظيفة النداء في الجملة، إذ ينبض الموقف بأنفاس متأججة، وفي محاولة لإيقاظ العزائم واستنهاض الهمم كان النداء لا لاستدعاء المنادى على مستوى القول، وإنما ليعلن موقفه تجاهه، لكن ما تلبث ملامح هذا المنادى أن تتضح حتى يتسلل إحساس بالوحشة إلى نفس الشاعر، فيشعر أن هناك بوناً شاسعاً بينهما؛ فتأتي الأداة كوسيلة أسلوبية تكشف المعاناة الناجمة عن البعد النفسي بين المنادي والمنادى.

ولعل هذه البداية تستدعي إلى الذاكرة دالية المتنبي: عيد بأية حال عدت يا عيد، بما تحمله من دلالات تناصية، وإيحاءات يضفيها على الموقف الذي يعايشه في إيماءة منه إلى وصل الماضي بالحاضر؛ من خلال ديمومة المعاناة الإنسانية التي تقاسمها الشاعر مع أبي الطيب حين نظم الثاني قصيدته بمصر وجسد خلالها إحساسه المرير بما انتابه من حزن وخيبة أمل.

والسمة الأسلوبية المميزة لهذا المقطع هي غلبة أسلوب الاستفهام حيث تكرر ثماني مرات؛ ليعكس طبيعة موقف قائم على الغضب ممزوج بالقلق؛ إذ يجد في كل ملامح الواقع من حوله مواضع تساؤل ينبض بها وجدانه، فينعكس ذلك على لغته وأسلوبه، فيوظف الاستفهام لخلق أجواء التباين بين ما كان وما هو كائن.

أما اللوحة الفنية في هذا المقطع فتتكون من مجموعة لقطات حية تعكس أبعاد الحالة الشعورية في نسق بلاغي يعتمد على الطباق الذي يوحي بملامح التناقض، وقلب المفاهيم وزلزلة المبادئ، وتلاشي القيم في واقع مجتمعه الأليم؛ حيث المتناقضات المؤتلفة والمؤتلفات المختلفة. لقد استطاع الشاعر أن يوزع المقابلة على مستوى النص ليجعل منها نواة تشد المعنى إليها؛ فتبعث سكونه بما تمثله من إسقاط دلالي يكشف عن الحالة النفسية في ثنائية تجمع بين أنماط سلوكية متقابلة. 

أما العلم بمواقع الجمل والوقوف على ما ينبغي أن يكون بينها من فصل ووصل، فهو أمر لابد منه؛ إذ نلاحظ خلو المقطع من أدوات العطف بين الجمل، وإن كان هذا لا يعني انفصالها وتفككها؛ إذ تجمعها وحدة نفسية ودلالية عميقة ناشئة عن إحساس بالتيه؛ تزداد معه نبضات القلب وتتوالى معه دفقات الأسئلة مجسدة حالة من الشتات وضياع الأمنيات وسط واقع مليء بالزيف يتخبط في ظلمات الذل والهوان.

أيْنَ الشَّموخ الذي أصْبَحتَ تجهلهُ

السيْفُ ماتَ. فأغرتنَا الأقاويلُ

عشْنا مَع الحبَّ أطفالاً تُدللنا

تنسَابُ شوْقاً. وبعْضُ الشَّوق ِتدلِيلُ

كُنتَ الحَبيبَ الذِي دَاوَى مَوَاجِعنَا

أيْنَ الهَوى والمُنَى. أين َالمَواوِيلُ؟

قدْ كُنتَ يَا نيلُ خَمراً لاَ نُحرمُها

أصْبحْتَ سُمّاً. فهلْ للِقتل ِتَحليلُ؟

قَدْ شَوهُوا الصبحَ فيِ عَينيْكَ مِنْ زَمَنٍ

فَالطين مِسكُ. وخِزْيُ العَارِ إكْليلُ

ويأتي المقطع الثاني في بنية متداخلة لا تحاكي الواقع، بل توازيه دلالياً وإيقاعياً من خلال مزج الماضي مع الحاضر في منظومة فنية متكاملة لا يتسنى فهم أحد عناصرها بعيداً عن موقعه الذي يشغله داخل تلك البنية، ويعد الانتقال من مقطع إلى آخر انتقالاً من مشهد إلى مشهد؛ فحين تلج الذكري إلى أعماق النفس نحس لها في الفؤاد دبيباً، ويحلق بنا الخيال في أجواء الماضي شوقاً إلى أجمل أيام الحياة، وأسعد اللحظات في زمن الطفولة البعيد؛ حيث الحب والحنان والدلال، وحيث القلوب الصافية التي لم تنل منها قسوة الزمان بعد.

ومن جديد تطفو على السطح ملامح الواقع القاتمة لتطوي بين دفتيها أصداء المواويل الشجية، فيصبح الملاء خلاءً، والماء حميماً، والهوان إكليلاً! 

وبإمعان النظر إلى المقطع السابق تتجلى لنا صورة تجمع بين النقيضين، فالضد يبرزه الضد، حيث نجد في المجموعة الأولى (لغو/تنزيل/زيف/معجزة/سُم/تقبيل/لهب/قنديل/حميم)، وفي المجموعة الثانية نجد (الشموخ/السيف/الحب/الشوق/الحبيب/الهوى/الجوى/المواويل/الصبح).

وبالبحث عن المغزى الدلالي لاستخدام هذا النمط الأسلوبي تبدو لنا المجموعة الأولى مجسدة للواقع المزيف، في حين ترصد المجموعة الثانية ملامح الأصل الضائع، وفي حالة اتحاد المجموعتين تكتمل الصورة؛ لتقدم كل كلمة بعداً من أبعاد الحالة النفسية التي تقف مذهولة إزاء واقع صاخب ممزق، ولا يكاد القارئ ينتهى من قراءة مفردات اللوحة حتى تنطبع في ذهنه صورة مكتملة العناصر عن المعاناة التي يعيشها الشاعر في شتى أبعادها.

ولسنا في حاجة إلى الوقوف طويلاً عند ما يحفل به المقطع من صور بلاغية متنوعة، ما بين المجاز والتشبيه والاستعارة، وحسبنا أن نتذوقها من خلال استبطان وظيفتها في السياق، فهذا (النيل سلسبيل) وثمة نيل آخر (النيل سُمٌّ) وماؤه (الماء حميم) و(الذل إكليل).

كَمْ مَاتَ صَوْتي. فَهلْ أدْمنتَ مَقتلنَا

هلْ كُلُّ قوْل ٍوإنْ يَخْدعْكَ إنجيلُ؟ 

نِيلٌ لأيَّ زمَان ٍصرْتَ يَا نِيلُ؟

الصَوتُ صَوْتي. تُراكَ الآنَ تُنكِرُهُ

أمْ ضَاعَ صَوْتَي لأنَّ العُرسَ تَطبِيلُ؟

قَالُوا لنَا منْ يَذوقُ النَّهرَ يذكُرُه

الناسُ تنْسَى. فبعْضُ العِشق ِتَذليلُ

كُنت َالشُموخ َالذِي لاَ شَيْء يَرهبُهُ

فَالماءُ وَحْيٌ. وصَوتُ الطَّيْر تَرتيلُ

كُنتَ المَلِيك َالذِي يأتيِ ونَحملُهُ

فالزَّهرُ يَشْدُو وهمْسُ الكَونِ تَبجيلُ

كُنتَ الإلهَ الذِي يختالُ فيِ وَرَعٍ

مات الإله ُلأنَّ الوْحيَ تَضلِيلُ

وفي المقطع الثالث نرى الشاعر في أوج عذاباته ينادي فلا يجيبه سوى الصدى، فينكفئ على نفسه، ويرتد الصوت إليه في مناجاة داخلية، وفي محاولة لإعادة الوعي إلى (النيل) ليس النيل الذي يجري الماء بين شاطئيه، فالنيل ليس إلا قناعاً تختفي خلفه حقيقة ما، وكم من مسكوت عنه أفصح من منطوق به، وحين تعلو الأعينَ غشاوة تُشوَّه الحقائق، وتُزيَّف الوقائع، وفي ضباب الأسئلة تتجلى عبثية الحياة التي يتساوى فيها الحق والباطل.

إن صناعة السؤال في النص الأدبي من أهم أدوات الشاعر لما يبعثه من تحفيز التخيل، وتنشيط الطاقة الخلاقة في البحث عن خفايا منظومة الكون الشاملة، فخلف كل ثنية في هذا الوجود يقبع ألف سؤال، وتتابع الأسئلة لا يعني انتظار الإجابة، وإنما يجسد حالة هذيان محموم ينكر كل شيء حوله “الآن”، و(الآن) هو سبب معاناة الذات.

وبذلك تظل الدلالة الناجمة عن التقابل الزمني دائمة لا تتوقف بانتهاء النص، فالشاعر حين ينتقل من الماضي إلى الحاضر يخلق نقيضاً يهدف منه إلى بيان البنية الدلالية الأصلية لزمن النص، فيبدو لنا زمن صُمتْ فيه الآذان، وساده الخداع، وضاع الحق، وجف النبع، وانتشر الضلال!!

ولا يكتظ المقطع بالصور البلاغية؛ إذ لا يحتمل الموقف شطحات الخيال، وإن لاح من بعيد شعاع الماضي حيث (الماءُ وَحْيٌ. وصَوتُ الطَّيْر تَرتيلُ) و(الزَّهرُ يَشْدُو وهمْسُ الكَونِ تَبجيلُ) و(الإله الذِي يختالُ فيِ وَرَعٍ)

وَجهي ِالذِي لم يَعدْ وَجْهي. أطارِدُهُ

في كُل شْيءٍ. فيبدُو فِيك يَا نِيلُ

فيِ الطَّين ألقاهُ حِينًا. ثُم أحْملُه

مَزقتَ وَجْهِي. ومَا للوجهِ تبديلُ

وَجْهي الذي ضَاع َفي عَينيكَ مِنْ زَمَنٍ

يجفُو قليلا ً… وتُنسيهِ التَّعاليِلُ

ضَيعْتَ وَجْهاً جَميلاً عِشتُ أعْشَقهُ

ما أسْوَأ العُمرَ لوْ سادتْ تماثيلُ

غَيرتَ لَونِي الذي مَا زلْتُ أذكرُهُ

أصبْحتُ مَسْخًا. وَمَا للَّونِ تَعديلُ

فيِ كُلَّ شيءٍ نرَاكَ الآنَ تَسرقُنا

فَالحلمُ دَينٌ. وكُل العُمر ِتأجيلُ

أرْضَعتَنَا الحُزْن َفي الأرْحامِ نَشْربُهُ

صِرنَا دُموعًا. وملَّتنَا الموَاويلُ

مَا زالَ يَا نيلُ عِشقَي فيكَ يَهزِمنِي

والعِشقُ كالداءِ. لا يَشفيهِ تأمِيلُ

يَكفيكَ يَا نِيلُ مَا قدْ ضَاعَ مِنْ زَمَن

لَنْ يَنفعَ القُبحَ مَهمَا طالَ تَجمِيلُ

إنْ صَارتِ الأرضُ أقزَامًا تُضللنَا

لنْ يرفعَ القزْمَ فَوقَ الأرضِ تهْليلُ

وفي المقطع الرابع نسمع صوت العتاب الممزوج بالأسى خلال ذلك المونولوج الداخلي، لكن أين يذهب؟ وإلى من يشكو؟ والنيل (ذلك الشعب الأصيل) هو الخصم والحكم، ومنه وإليه المهرب، وكيف السبيل إلى الوفاق؟ وقد بات الشاعر في خلاف جذري وأكيد مع هذا الواقع، إنه ينقب عن الأمل الضائع والحلم المفقود الذي عفا عليه الزمان، وعلاه غبار النسيان، لكن ما جدوى غنائك لصم الآذان؟ وما قيمة الحق إذا عجز عن مواجهة الباطل؟

يبدو المعجم في هذا المقطع حافلاً بألفاظ لها مغزاها الدلالي والنفسي، ومن ثم كان الإلحاح على استخدامها، ومنها كلمة (الوجه) (وجهي) التي تكررت إحدى عشرة مرة، أربع مرات بلفظها، وسبع مرات بالضمير العائد عليها، وغني عن البيان أن الشاعر قصد ذلك؛ فالوجه هو الصفحة التي يخط عليها الزمان ملامح الإنسان ويكشف خبايا ذاته، وهو النافذة التي يطل منها على العالم، والحقيقة أن القناع يوماً ما سوف يسقط عن كل الوجوه لتبدو الحقيقة جلية للعيان.

أما عن البنية اللغوية فنلاحظ ذلك الظهور المكثف لضمير المتكلم الذي جاء في ثمانية مواضع، ما بين ظاهر ومستتر، وهو هنا يمثل انتساباً للإنسان عامة لا للشاعر خاصة، ومن ثم تبدو أهمية الضمير في جمع أشتات الواقع المبعثرة على مستوى النص، خاصة عند الانتقال من التكلم للخطاب الذي يعكس نوعاً من الالتفات يجذب الانتباه ويشد العقل لمتابعة الحوار.

على نفس المنوال السابق ينسج الشاعر هذا المقطع الرابع الذي هو أشبه بتوزيعة جديدة للحن قديم، إذ سبق أن تناول هذه المعاني التي لا تعدو كونها بثاً للشكوى ومحاولة لإيقاظ الوعي الجماعي من سباته العميق، وفضلاً عن تشابه المعاني تشابهت كذلك الألفاظ (غيرت لوني/لطخت وجهي) (وما عاد للوجه تبديل/وما عاد للون تعديل) (يكفيك يا نيل ما قد ضاع من زمن/وَجْهي الذي ضَاع َفي عَينيكَ مِنْ زَمَنٍ).

لكن دافعاً نفسياً هو الموجه لمثل هذا الاستخدام؛ إنه يجسد حالة التيه والشتات والحيرة والاضطراب والهذيان وغياب الوعي، إنه كما أشرنا سابقاً من شدة غضبه وفي أوج انفعالاته حالنا جميعاً يعيد ما بدأه ناسياً أو متناسياً، وعندما يهدأ ويستعيد وعيه ويتمالك نفسه، يعيد تقييم الموقف من وجهة نظر متفائلة، فأحلك الساعات يعقبها طلوع الفجر، ولا جدوى من البكاء على اللبن المسكوب، وقد انتهى ما فات، والأمل فيما هو آت، و(أُسد الوادي) لا تسلم بالوقع المليء بالباطل، بل تبحث عن الأمل بين متاهات اليأس.

ونلاحظ أن إثبات الأمل يعني نفي اليأس؛ وذلك أن النفي يجسد أسلوب الشاعر، ويحدد ما يقصده، على أساس انعدام التشابه بين ما يحياه وما يتمناه، وهو عندما يتلاعب بالنفي يعني الإثبات من خلال المخالفة، وهكذا نلاحظ أن الإثبات والنفي قيمتان خلافيتان تظهران المفارقة بين حالتين متناقضتين.

أحْلامُنَا لَمْ تَزلْ في ِالطين ِنَغرِسُهَا

إنْ يَرْحلِ العُمرُ. ما للِحلم ِترحِيلُ

مَا زالتِ الأسْدُ خَلفَ النهْرِ تَسألهُ

هلْ يُنجبُ الطُّهر إفكٌ. أو أباطِيلُ؟

فلتُغرقِ الأرضَ نوراً كيْ تُطهرها

ما أثقلَ العمرَ. سجَّانُ. وتنكِيلُ

أطلِقْ أسودَ الوَغَى للنَّهرِ تَحْرُسُهُ

لنْ يَحرُسَ النْهرَ بَعدَ اليوْمِ تَضليلُ

لنْ يَقتُلوا الشَّمسَ مَهْمَا غَابَ مَوْعِدُهَا

إنْ مَزقُوا الشَّمْسَ. لَنْ تَخبُوا القناديلُ

مَا زِلتَ فيِ العَيْن ضوءاً لا يُفارِقنَا

فالكلُّ يَمضي. وتبقى أنتَ يَا نِيلُ.

ويأتي المقطع الخامس والأخير وقد ملأ العزم النفوس، وعاد الوعي إلى العقول، ونبض الإيمان في القلوب؛ فاحتشدت الصفوف، واتحدت الأيدي، وبدأت تنبش وتنحت جبال الأسى التي تحجب شمس الأمل؛ إذ إنه موجود لا يموت وإن اختفى، إنه يسكن أعماق القلب ليبدد عتمات الروح، إنه باقٍ إلى الأبد يتحدى كل عوامل الفناء (إنه النيل/شعب مصر الأصيل).

لقد جاء هذا المقطع حاملاً نوعاً من التوازي بين البنية اللغوية والحالة النفسية، إذ يتم إنتاج الدلالة في وسط ينتمي إلى المستقبل من خلال مجموعة المضارعات (يحجبوا، ستبقى، يصاحبنا، يمضي، تبقى…) كلها تمثل بعداً زمنياً خاصاً، حيث تشد الماضي إلى فلك الحاضر لاستعادة علاقة جديدة بعيدة عن هموم الواقع، علاقة تشكل عالماً جديداً من الصفاء والنقاء.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني