fbpx

محاكمة إعلامية

0 521

عندما دخل إلى المنزل ظهيرة ذلك اليوم، رفع أبناؤه الثلاثة رؤوسهم ناظرين إليه باستياء ممزوج بشيء من الحنق، ولكنه لم يهتم فقد بات يقتنع تدريجياً بأن ما يبدو على ظاهر وجوههم لا يؤدي بالضرورة المعنى الحقيقي لدواخلهم، بل هو مجرد عرض من أعراض دس أنوفهم في شاشات الهواتف النقالة طوال اليوم، توجه إلى الحمام مباشرة، فقد كانت رائحته نتنة جداً وملابسه متسخة، وما أن همَ بنزع ساعته ونظارته وخاتم الزواج حتى بوغت بصراخ يأتيه من الخلف:

  • هكذا إذاً طوال تلك السنين كنت تطعمنا من القمامة.. عبر المرآة أمامه تبين في وجه زوجته غضباً متساوياً مع ذاك الذي وجده في عيون أبنائه قبل قليل، التفت إليها ناظراً في عينيها مطولاً، كان يحاول أن يستشف القصة الكامنة وراء هذا الغضب، متسائلاً في ذات الوقت إن كانت تقصد القمامة بمعناها الحرفي، أم أنه تعبير مجازي عن تهم الفساد الموجهة إلى الكادر التدريسي، حيث كان قد حدثها عن الأمر الليلة الفائتة، إلى أنه أبعد الفكرة عن رأسه بسرعة، فهي لا تتمتع برفعة أخلاقية لتعتبر الفساد الذي لطالما دعته لأن يكون جزءاً منه بحجة تحسين وضعهم المعيشي، وعملاً بمبدأ حط راسك بين هالروس، فعلاً يقارب في قذارته التعيش من القمامة، “متجاوزاً رفضه لهكذا نوع من المقاربات في الأحوال العادية”، كان متعرقاً بشدة ورائحة جسده تنفذ عبر أنفه لتحك دماغه بقسوة، لوح لها بأنه عليها المغادرة ليستحم، فاستجابت مجرجرة جسدها المرتعد، بعد أن أنهى حمامه دخل إلى الغرفة مباشرة مشدوداً لصوت التلفاز المرتفع، كان ما يزال مرتدياً (برنص) الحمام، وهو الفعل الذي لم يقم به أمام أطفاله سابقاً، كان الجميع قد قطعوا صلتهم بالهواتف محملقين بالشاشة الصغيرة، تتجاذب ملامحهم تغيرات تتراوح بين الصدمة والامتعاض والحرج، بدا وكأنهم يقفون جميعاً على مستوى واحد من شهية الهجوم على المذيعة التي تتلو نشرة الأخبار، كانت صورة جسده المتدلي حتى منتصفه داخل حاوية قمامة تحتل خلفية الشاشة، تقف أمامها مذيعة حسناء تتحدث بانفعال بينما تشير إلى الصورة خلفها:
  • انظروا هذا ما تفعله الأنظمة المستبدة بشرفائها، تجعلهم يدفعون ثمن شرفهم المهني بالتعيش من القمامة، انظروا جيداً هذا الشخص هو أستاذ مرموق، ومخضرم في السلك التدريسي، يخرج من فضيحة فساد وابتزاز وتحرش جنسي، طالت كل مرتبة من مرتبات السلم الوظيفي في عمله، فيدفعون به ليلوث قيمته العلمية بدس جسده في حاوية قمامة عله يجد ما يدفع به فواتيره واحتياجاته العائلية التي لا يسدها راتبه القليل.
    هزَ رأسه غير مصدق، كيف لهم أن يعرفوا بقضية جرى التحقيق فيها هذا الصباح وبشكل سري كما يفترض؟
    سارع لتغيير القناة، كانت ذات الصورة تحتل خلفية الشاشة، جلست أمامها امرأة يبدو من شعرها المعقوص على شكل كعكة خلف رأسها، ومن طقمها الرسمي الفاخر ومن الياقة الواسعة التي تبرز الخط بين النهدين بوضوح، بأنها امرأة فهمانة، حسب تعبير نائب المدير الذي كان يستخدمه للإشادة بالنساء المتعلمات، دون أن يتمكن يوماً من تمييز إن كان هنالك ثمة رابط بين معنى الفهم الذي يقصده، وبين المستوى الثقافي والأكاديمي للمرأة في نظره، كانت السيدة الفهمانة تسترخي في كرسيها وكأنها على وشك النوم، مبربرة بصوت هادئ بأن ما يفعله هذا المواطن هو طعن بمصداقية الأمة، وتشويه معلن لنقاء الصورة المصدرة إلى العالم عن مدى اهتمام وتقدير الوطن لكوادره التعليمية، إنه خائن وعميل ومدفوع من جهات خارجية متآمرة، أنهت حديثها بهذه العبارات الاتهامية دون أي أثر لانفعال وطني أو تأسف يتناسب مع مافي التعرض المباشر لأمن الوطن من ثقل.
    في صباح اليوم الثاني وبينما كان يستعد للذهاب إلى العمل، جاءه اتصال من مدير المدرسة يخبره فيه بأنه قد تم فصله، لم يكن بحاجة إلى تبرير فالسعار القائم حول صورته في محطات الأخبار كان كفيلاً بشرح كل شيء، توجه إلى سريره مسراً لنفسه بأنه بحاجة للراحة على أية حال، بعد ساعة أتى إلى منزله شرطيان مع رجل مدني، لم يكن بحاجة إلى تبرير هنا أيضاً، حققوا معه قرابة الساعتين، ثم توجهوا بالسؤال إلى زوجته عما إذا كان له ارتباطات مع منظمات مشبوهة، أو أحاديث يمكن الاستدلال منها عن تورطه في الخيانة، فأجابتهم بارتياح بأنها لا تعرف شيئاً عنه خارج هذه الجدران، كما أنه يتحدث معها بتحفظ تام، مالت بعدها إلى الأمام لتقول هامسة:
  • لطالما كان نذلاً
    هو لم يكن نذلاً، ولكنها أدلت بتوصيف كهذا كتبرئة استباقية لذمتها، وذلك قبل أن تنحل عقدة التساؤلات لتصل إلى نقطة كونها الدافع الأساسي وراء ما آلت إليه حاله، بنقدها المستمر لتزمته الأخلاقي، ومنظوره المغاير لمفهوم الشرف، وإلحاحها بأن يفعل شيئاً يعيد به التوازن بين راتبه المقبوض والمدفوعات المطلوبة منه، خلال الساعات اللاحقة لم تتوقف القنوات عن الاتصال به، منها معارضة تريده أن يتحدث عن تدرجية ممارسات النظام المجحفة بحقه حتى أوصلته إلى هذا المصير المزري، وأخرى محايدة طالبته بحصر حديثه في المشكلة بذاتها، دون التطرق لمسبباتها مع الابتعاد المطلق عن السياسة، وأخرى محلية اشترطت عليه الاعتراف بالتغرير به من قبل قوى متآمرة، لم يكن قد سمع باسمها قبل الآن، وبأن يمرر من خلال حديثه عبارات الندم والاعتذار مع بعض من المديح المبالغ به للنظام وحكمته، فأجابهم ساخراً:
  • أرسلوا لي ما يتوجب علي قوله فحسب، واتركوا لي مهمة إقناع المشاهد
    حتى أن إحدى القنوات المعنية بالروحانيات طلبت منه لقاء مع محلل نفسي، يضع إصبعه في عمق ماضيه لنبش كل بؤس نائم، وألم مستتر، لم يستطع معرفة الغاية في النهاية.
    قبل يوم من كل تلك المجريات، وبمعنى أدق في يوم الحادثة، فقد كان ما حصل فعلاً هو التالي:
    صباحاً جاءت إلى المدرسة لجنة تقص وتحقيق، وبعد ثبوت خلو سيرته من كل التهم الموجهة إلى زملائه، تم السماح له بالذهاب إلى المنزل، في الطريق أراد الاحتفاء بالسجل الأبيض المضاف إلى ملفه كتوثيق للنضال المرير الذي خاضه على مدى ثلاثين عاماً، لإجبار وجدانه على التمسك بخط مستقيم مهما بلغ حجم العقبات من كبر وشدة، فاشترى لنفسه تلك الكيكة المغطاة بالشوكولاتة، المحشوة بصوص الكرز التي طالما تمنى تذوقها، معانداً أمنيته في كل مرة بسبب غلاء ثمنها، وبينما كان يلقي بغلافها في حاوية القمامة حفاظاً على نظافة شوارع الوطن، انزلقت الساعة الموروثة عن أبيه بداخلها، كان للساعة ارتباطاً استئنائياً مع ذاكرته كونها أول هدية يتلقاها والده من والدته، ولأنها كانت قد غاصت بعيداً بين الأكياس اضطر للانحناء حتى منتصف جسده داخل الحاوية ليتمكن من التقاطها، في تلك الأثناء، كان أحد طلبته ماراً فالتقط له صورة نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي كنوع من المزاح، أو كسر الصرامة المشهور بها.
    بعد يومين وبينما كان يتم سحله من المنزل وهو ما يزال مرتدياً بيجامته، أمام الجيران والكاميرات وزملائه الذين وقفوا متعاضدين في صف واحد، نافخين صدورهم بانتشاء واعتزاز، وثقة بيد الوطن الحديدية التي تدق رأس كل خائن، لم يستطع التوقف عن الصراخ:
  • كنت التقط ساعتي فحسب
  • لم أكن أعرف بأن التقاط الذاكرة خيانة
    4/4/2021

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني