fbpx

اللقاح

0 532

تناولنا اللقاح جميعا!
ذلك اللقاح القرمزي الداكن تناولناه جميعاً!
انبثقت السيارات باتجاهنا فجأة! كنا نأخذ درس رياضيات عن المثلثات ورسم الدوائر فيها؛ وكان الصف المقابل يدرس قصيدة شعرية لامرئ القيس أو لطرفة بن العبد، لا أذكر ذلك جيداً؛ والصف الآخر كان يستمتع بدرس الفراغ الذي لا يأتي مدرسه أبداً بسبب انشغاله الدائم بالاجتماعات والدعوات وما إلى ذلك من تبريرات يرددها أمامنا متفاخراً بأهميته، وأهمية المرحلة التاريخية التي تمر بها بلادنا، كما كان يردد، وهو يزهو بطقمه البطيخي، وكرافته العريضة ذات الألوان المتنافرة، وحذائه اللامع رغم أن أسفل البنطال يغطيه دائماً، وكأنه سالت أو تم تفصيله على هذا النحو الرخو، تماماً مثل رخاوة الأحاديث التي يرددها مدرسنا الذي لا يأتي إلا نادراً!
خلال خمس دقائق كانت السيارات تملأ ساحة مدرستنا، سيارات بيضاء وسوداء، كبيرة وصغيرة خرج منها رجال ونساء بعضهم يرتدي قمصان التمريض البيضاء وبعضهم يرتدي لباساً عسكرياً أو لباس شرطة أو لباساً شعبياً.
الجميع انقضوا علينا بإبرهم المرفوعة إلى الأعلى التي يغرزونها في سواعد الكبار أو جوانب مؤخرات الصغار التي تفتضح أوساخها وروائحها مع صراخهم وبكائهم وفوضى الاستعجال الذي يجعل الجميع متوتراً، إذ يصيح المسؤولون على مرؤوسيهم، والمرؤوسون يصيحون على معلمينا، والمعلمون يصيحون علينا في عصبية جماعية شَلّتنا تماماً، إذ لم نعرف حينها ما هو هذا اللقاح، ولا ما هي فائدته، ولم يعطنا مدرس العلوم نبذة عن أهميته، ومن اخترعه، وما هي آثاره، وواجب الالتزام بأخذه من قبل أهلنا وأقاربنا ومعارفنا، وما إلى ذلك مما يجيد معلمونا الاسترسال فيه لينهوا الحصة الدرسيّة!!
في غضون نصف ساعة كان الجميع قد أخذ اللقاح!
رمى الرقيب آخر إبرة بلاستيكية كانت بيده، ودفع الطفل الصغير الذي كان راكعاً على رجلي الرقيب غير مبال بصياح الطفل، ولا بافتضاح قفاه، وقف الرقيب وعدّل من وضع البندقية على كتفه، وصاح على الجنود المرافقين أن ينتظموا في صف أمام الشاحنة العسكرية الضخمة، والتفت إلى الممرضين والممرضات، وأفراد الشرطة، ومرافقي الحملة، الذين ساعدوا جميعاً، بضرب الإبر ليأمرهم برفق للركوب في السيارات التي أقلعت محركاتها دفعة واحدة، وانطلقت تاركة الصغار يتصايحون، والكبار يتفقدون أماكن الوخزات التي نالتهم، خلال الدقائق التي أذهلت الجميع!!
لم نعد إلى الدراسة ذلك اليوم، المعلمون أيضاً كانوا مذهولين، إذ تم تلقيحهم أيضاً، في غرفة الإدارة حيث نُودي عليهم اسمياً، ودون ألقاب، وخرجوا إلى بيوتهم دون أن ينظروا إلينا، غير عابئين بالصياح، ولا بالأوامر المتضاربة حولهم، تجمدت قرائحهم التي كانت تعجُّ بالشعر العربي القديم والحديث، والأمثال وطرائق الإعراب، والمثلثات، والدوائر والمركبات الكيميائية التي تتمازج وتنفصل عن بعضها.
ترك أستاذ الكيمياء شعلة النار وحدها، محاطة بأنابيب الاختبار الملوثة بالمحاليل الملونة، وأستاذ العلوم غادر الضفدع الذي كان يعده للتشريح في الدرس التالي مفتوح الصدر، وقلبه ينبض، بانتظار الطلاب الذين لن يأتوا للتفرج على قلبه وعلى أجزائه الداخلية الأخرى، بعد قليل سيصحو الضفدع عند انتهاء أثر المخدر الذي استنشقه، ويتلوى وحيداً في المخبر المهجور حتى تنضب قواه من الألم، والنزف المستمر حتى آخر ثانية، لن يرجع الضفدع إلى الحقل الذي جاء منه حتماً، وفي كل الأحوال جاء ليموت، ولكن أحداً ما، لن يتفرج على أعضائه الداخلية وهي تنبض بين غفوة المخدر، و إرادة الاستمرار حتى آخر لحظة!!
عندما خرج كبير الممرضين قال للمدير الذي تم تلقيحه خِفية بعد خروج الأساتذة:

  • سوف تشكون من ألم في الرقبة، ألم خفيف لكنه سيستمر!!
    تفقّد المدير رقبته، وتبعناه بمدّ أيدينا حول رقابنا في حركة التفافية ناعمة، سخر ممدوح الطويل، وقال:
  • كأنهم يلقحون الغنم!
    ضحكنا جميعاً، لكن السيد المدير فطن بعد برهة، وصاح بصوت عال، يجمع بين حنقه على الحملة المفاجئة، وحرصه على الانضباط، وعدم فتح المجال لانتقاد الأعمال الرسمية، أياً كانت، ومهما كانت، كما كان يردد دائماً!!
    صرَفَنا المدير، وخرجنا مبكرين فلم نذهب إلى بيوتنا، استكشفنا الأسواق والساحات التي كانت ملأى بحملات التلقيح، أمام الجوامع، والمحلات التجارية، وعبر الحارات المؤدية إلى الأحياء الغنية والفقيرة، دوائر الدولة التي تلتف حول الساحة الرئيسية، كانت تخضع للتلقيح، كان السائل القرمزي يتبدى لنا أنّى اتجهنا في السرينكات وفي العلب الكبيرة، وفي الملاعق البلاستيكية الشفافة التي يتم سقاية كبار السن منها، في سباق محموم مع الزمن، كأنّ الوباء الذي يكافحه اللقاح في صراع يقاس بالساعات والدقائق، كأنّ إخبارية قد وشت بحلوله فجأة في بلدتنا الصغيرة النائية على أطراف البادية!!
  • * *
    خفّت الاضطرابات في المنطقة، ولم نعد نرى الهجمات المسلحة على أطراف البلدة، وعلى مخافر الشرطة، ودوائر الحكومة المتحلقة حول الساحة الترابية الواسعة، كأنما الجميع ظل أسير صدمة اللقاح القرمزي الذي خالط دماءنا، في ذلك النهار الخريفي المشمس بلا شطط في الحر، وبلا برد يحيجنا إلى تبديل ملابس الصيف الخفيفة!
    لكن ما لم ننتبه إليه مع توالي الأيام، وتواتر الألم الخفيف في رؤوسنا الذي قال عنه كبير الممرضين عند نهاية هجمة التلقيح، أن رقابنا أيضاً، صارت تعاني من يباس يحنيها إلى الأمام، وتكاثف الألم في رؤوسنا ليغدو كرة معدنية صغيرة تتوضع في الجهة الداخلية لجبهة الرأس، لتنحني الجبهة قليلاً إلى الأسفل، لم نشعر بانحناءات رؤوسنا في البداية، لكننا سرعان ما أدركنا تزايد انخفاض رؤوسنا، وانحناء رقابنا، وذات يوم شتائي مثقل بالصقيع وبالصمت المطبق علينا كأنما منذ أزمان سحيقة!
    بدأنا بتجرع الحقيقة الماثلة في رؤوسنا وفي رقابنا، كأننا سلالة هجينة بدأت تولد أخيراً، استجابةً لطفرة أخذت مفعولها بعد آلاف السنين من الدأب الذي أنضجها برؤوس أبناء جيلنا الذي حلت عليه اللعنة!!
    صرنا قامات مطعوجة من الأعلى، مثل آلات أُعيد تعديلها لتناسب ظرفا جديداً، رؤوسنا اختفت خلف أجسادنا المصطفة في ساحة المدرسة، واختفت من نداءات مدربينا التي كانت تصيح بإلحاح :
  • ارفع رأسك أعلى!
  • أعلى يا بني آدم!
  • اعتز بنفسك، أنت في آخر الصف!
    وصار أساتذتنا يبدون أمامنا مثل رهبان دائمي الانحناء، بالإضافة إلى بطء حركاتنا وتأخر ردود أفعالنا، فصار الأستاذ ينتظر قليلاً بدافع من تلقيحه ونتيجة لتلقيحنا، ريثما يصله الجواب عن السؤال الذي طرحه، كأننا تحولنا إلى مخلوقات من ذوات الدم البارد، وصار لزاماً على المدرسة إطالة الحصة الدراسية، لاستيعاب فارق السرعة التي خسرناها عندما كنا نردّ بسرعة وصياح وشغب لننال السبق من أستاذنا الذي كان متحفزاً لتلقي الجواب على سؤاله ولينتقل إلى السؤال الذي يليه بسرعة!!
    تجلّت مأساتنا عندما جاءتنا مجموعة من الطلاب من مدينة بعيدة لم ينلها اللقاح القرمزي، نظرنا إليهم، لم تكن رؤوسهم محنية ولم يكونوا بطيئي الحركة ولم يكن الألم يسكن رؤوسهم بوتيرته الدائمة!
    وتفاقم الأمر عندما تزايد مجيء سكان جدد، لم ينلهم اللقاح اللعين ليبدؤوا بالهزء منا، ومن رقابنا المحنية، وردود أفعالنا الفاترة، ويتكتك الصغار أمامنا محاكين الألم الدفين في جماجمنا، ويصيحون على أبناء جيلنا بمختلف التشابيه كالسلاحف، أو الخراف، وصار من المألوف أن يصيح الصغار كلما مروا من أمامنا:
  • ماع .. ماع!!
    اجتمعنا مراراً!
    لم نعد نطيق انحناء رقابنا ولا الألم الذي ينوس في جماجمنا بالإضافة إلى الشائعات التي تروّج لاحتمال انبثاق ذيول صغيرة أو كبيرة لنا بعد أشهر أو سنوات أو حتى لأبنائنا في المستقبل، كان لون اللقاح القاتم يملأ رؤوسنا وأفكارنا حتى تحول إلى مستنقع حالك يُغرق تفاصيل حياتنا!
    كان الجميع حاضراً، أستاذ العلوم الذي ترك الضفدع ذلك اليوم مفتوح الصدر، أستاذ الرياضيات الذي ترك درس المثلثات والدوائر، أستاذ الكيمياء الذي خذل شعلة تسخين أنابيب الاختبار وأساتذة آخرون، وكل الطلبة مجتهدين وكسالى، وحضر أناس عابرون من ذوي الرقاب المحنية، كان اجتماعنا أطول من المعتاد، لكنه وجد خيطا يقود إلى مكونات اللقاح القرمزي اللعين!

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني