الفقر ينهش جسد الدمشقيين وقلة الحيلة تدفع إلى انتشار السرقات

في يوم ما، غنت الفنانة الراحلة صباح أغنية تعلن فيها أنها مستعدة للزواج من الشاب الذي تحبه وتعيش معه حياة بسيطة، تأكل البطاطا والجبن والزيتون، لربما لم تكن الراحلة تدري أن مقومات المعيشة البسيطة التي تغنت بها أصبحت حلم المواطن السوري، فالغريب أن كل ما ذكر هو إنتاج سوري بحت، ومازالت سوريا إلى يومنا هذا تقوم بتصديره إلى البلدان المجاورة والبطاطا بالذات التي أصبح سعر الكيلو الواحد منها 2000 ليرة سورية، كانت في شهر حزيران الفائت لا تتجاوز الـ 200 ليرة سورية، حتى أن الفلاحين في بعض مناطق حماة وحمص والساحل رفضوا جني محصولها لأن تكلفة الحصاد أعلى بكثير من الأرباح التي سيجنونها، ولكن منذ أن أعيد افتتاح الحدود الأردنية السورية بعد جائحة كورونا بدأت المنتجات السورية بالاختفاء من الأسواق وارتفع سعرها بشكل مخيف بدءاً من اللحوم وانتهاءً بالخضروات.

بجولة صغيرة على الأسواق تكتشف مدى الغلاء الذي ضرب كل أنواع السلع لدرجة أنك أصبحت ترى المواطن السوري الذي كان يشتري كميات كبيرة، أصبح يكتفي بحبات قليلة من الخضروات، وذكرت بعض التقارير الاقتصادية أن المواطن السوري يحتاج لـ 450 ألف ليرة سورية شهرياً كي يعيش حياة متوسطة، وسقف الرواتب في سوريا 100 ألف ليرة سورية في القطاع الخاص و50 ألف ليرة سورية في القطاع العام، أما حماية المستهلك فحدث ولا حرج تجدها تبيع الناس كلاماً على الشاشات دون أي تغير في الواقع، وقد قمنا بالحديث إلى مجموعة من المواطنين من مختلف فئات الشعب عن واقع الحياة المعيشية في دمشق فتحدثنا إلى رنا، شابة تعمل صباحاً في أحد مشافي الدولة كإدارية ومساء تبيع في سوبر ماركت، وقد أخبرتنا أن عدد ساعات عملها تتجاوز الـ 16 الساعة يومياً، والعطلة يوم واحد أسبوعياً، وبالكاد تستطيع تأمين لوازم الحياة الضرورية لعائلتها الصغيرة فمجموع ما تحصل عليه شهرياً من العملين لا يتجاوز الـ 120 ألف ليرة سورية ولا يكاد يكفيها حتى منتصف الشهر، وأتبعت ساخرة: لو كان عدد ساعات النهار أكثر من 24 ساعة لبحثت عن عمل ثالث.

أما عمر، طبيب أسنان يعمل في مركز طبي خاص بالإضافة لكونه طالب ماجستير في جامعة دمشق يتقاضى من عمله الخاص 100000 ليرة سورية ومن الجامعة 30000 ليرة سورية أي مجموع ما يحصل عليه 130000 ليرة سورية. يتحدث لنا عن الاستغلال الذي يتعرض له الشباب في سوق العمل، فمهما كانت شهادتك عالية أو كنت صاحب خبرة ستجد الراتب الزهيد ذاته. ويتساءل: هل يعقل لشاب وطبيب أن يعجز عن شراء ملابس للشتاء له أو لعائلته وهل من المعقول أن نعمل أكثر من ثمانية ساعات فقط لنأكل ونشرب، حتى طعامنا يخلو غالباً من اللحوم الحمراء أو البيضاء.

أما السيدة مريم التي تعمل في أحد المكاتب التجارية كعاملة تنظيف، أخبرتنا أن راتبها 50000 ليرة سورية، وعندما تطلب من رب العمل زيادة أجرها نتيجة الغلاء وارتفاع الأسعار، يخبرها أن راتبها أعلى من رواتب موظفي الحكومة.

وأخبرتنا السيدة مريم أن السرقات انتشرت بشكل مخيف في المنطقة العشوائية التي تقطن فيها، مع أن السكان غالباً فقراء، ولا يملكون أي شيء ثمين يستحق السرقة، ففاجأتني مجيبة: إنهم يسرقون الطعام فقط وأتبعت قائلة: يا بنتي الجيران أناس طيبون ومساكين وبينهم علاقات اجتماعية جيدة ولم يخطر ببال أحدهم أن تأتي علينا أيام سوداء كهذه تعجزين فيها عن شراء ربطة الخبز فالأطفال لا يفهمون معنى الفقر أو العجز، وأصعب موقف يمكن أن يقع الإنسان فيه أن يرى أبناءه جائعين يطلبون الطعام، وحتى أنا أدعو الله أن يديم ستره علي لكن إذا جاع أبنائي سأضطر للسرقة حالي حال جيراني، لربما نكأت السيدة مريم جرحاً، لكنه الواقع لا يوجد ما يبرر السرقة لكن أن يلجأ الإنسان لسرقة الطعام أو الدواء فهنا وبدون أدنى شك يجب أن تقطع أيدي المسؤولين جميعاً الذين دفعوا الناس إلى تلك التصرفات، سرقوا بداية أحلامهم وآمالهم في حياة كريمة والآن يسرقون قوت يومهم.

لم تكن تبعات قانون قيصر وحدها التي أوصلت سوريا إلى هنا، إنها تبعات عقود طويلة من استغلال واستباحة أموال الشعب، وعندما حوصر النظام والمسؤولون، عوضوا خسارتهم من لقمة المواطن وحولوا سوريا إلى مقبرة للأحياء والأموات على حد سواء ولكنها مقبرة تضيق وتضيق لتخنق كل من بقي فيها.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”