fbpx

سوريا تختار بشجاعة وقف التجنيد الإلزامي.. نحو جيش وطني احترافي، لا مكان فيه للتفييش والتعفيش

0 20

لا يوجد قرار للثورة السورية أكثر شجاعة وحكمة من قرار إلغاء التجنيد الإجباري والتحول إلى الجيش الاحترافي. لقد تم ذلك في الأسبوع الأول لنجاح الثورة، وعبر رجال الحرب أنفسهم، دون أن تتشكل ألف لجنة تقويم وتقييم ومراجعة. كانت الأمور واضحة وضوح الشمس، وكانت أول مطالب السوري الهارب من المظالم في البر والبحر.

إذا كان السبب الأول لنزوح السوريين وهجرتهم هو الحرب، فإن السبب الثاني بكل تأكيد هو التجنيد الإجباري! لقد ظل هذا السيف مصلتاً على شبابنا ستين عاماً، يدفع بخيرة شباب سوريا إلى الهجرة منها في كل اتجاه. ويمكن لأي مراقب أن يحصي الأعداد الهائلة من الأطباء والمهندسين والعلماء السوريين الذين خرجوا يهيمون في العالم بحثاً عن خلاص من قهر الجندية العابثة التي استمرت بلا معنى منذ خمسين عاماً على الأقل، تستنزف المال والاقتصاد والأرواح والشباب لغايات غير مفهومة ولا مطلوبة ولا موصوفة.

لقد كنت أطالب في كل دورة برلمانية بإلغاء التجنيد الإجباري والتحول إلى الجيش الاحترافي الذي ينتسب إليه من يؤمن بالعمل العسكري، وينسجم مع طبيعة السلاح والاشتباك، فيما لا يجوز أن تفرض البندقية على الإنسان في خيار لا يريده ولا يسعى إليه. ولكن هذا المطلب كان يواجه باستمرار بسخط من عباقرة الحرب السوريين، خاصة أصحاب الرتب العليا من عماد ولواء، الذين كانوا يهاجمونك بعنف بأن وقف التجنيد هو لون من الاستخذاء لإسرائيل والاستجابة للشروط الأمريكية، وأننا دولة مقاومة وينبغي أن نشحذ أولادنا إلى الفرق العسكرية ليتعلموا فيها البسالة والشجاعة وحب الوطن!

فيما يعلم كل مراقب أن الجيش بات أكبر مؤسسة فساد في سوريا، وأن مهارات لصوصية ماكرة تزدهر في ألعاب باتت معروفة من التفييش والتعفيش الذي لا يمارسه إلا من طمس الله قلبه وروحه. وأسوأ ما فيه أنه كان يتم باسم حماية الأوطان والدفاع عن الإنسان.

كانت الدراسات التي نقدمها لإلغاء التجنيد الإجباري تعود ممهورة بتوقيعات غاضبة للضباط الأمراء، وكأنهم يقولون: احجروا على شيخنا الساذج هذا، فهو لا يفهم أن هذا العالم قائم على الذئابية، وإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب.

كتبت مراراً في حق الإنسان في رفض الحرب الظالمة، وأن من أبشع أشكال الاستبداد والقهر أن يساق شباب الوطن إلى القتال في معارك لا يؤمنون بها ولأهداف لا تعكس حقيقة ضمائرهم، ويرغمون على الحل الذي يريده المستبد تحت عنوان حماية الأوطان وكرامة الإنسان.

ومن المعلوم أن معظم قوانين العالم لا تحمي الجندي المتمرد عن الالتحاق بالحرب الظالمة، وتعتبره منشقاً ومستحقاً للمحاكمة والعقاب. ولعل من أكبر الثغرات البائسة في إعلان حقوق الإنسان أنه لم يقدم أي ضمانة للجندي الذي لا يريد الحرب حين تقرر قيادته السياسية خوض هذه الحرب.

ولكن هذه الحقوق التي كتبنا فيها مراراً ليست أسوأ ما في الأمر، فهي في الواقع شأن يخص المحارب المتطوع في الجيش والذي لم يؤمن بهذه الحرب. ولكن الأسوأ من ذلك والأشد مأساوية وقهراً هو فرض الحرب على المدني الذي لا يريد القتال أصلاً وليس له فيه أرب ولا غاية، ولكنه يجد نفسه بواقع العضوية الوطنية مدعواً للسوق إلى الحرب راغباً أو راغماً.

أما النص الحقوقي الذي يستخدمه الاستبداد فهو في الواقع قانون التجنيد الإجباري الذي يقتطع من الشباب زهرة حياتهم وطموحهم، وينهي كثيراً من آمالهم وطموحهم على مفرق القهر والعناء، ويفرض عليهم أنماطاً من الحياة تتناقض كلياً مع طموحهم وأمانيهم وفطرتهم.

وفي الذاكرة المجتمعية السورية صورتان بالغتا القهر: الأولى في حال السلم حيث عانى المجندون من الإذلال والاستخدام، وقد عجز الجيش عن التطور ليكون هيئة بناء وإعمار وطنية في السلم. هذا إذا لم نتحدث عن الفساد الذي نخر كل شيء، والتفاصيل عند القارئ الكريم أكثر مما هي عند الكاتب. ولعل أدق وصف يعرفه الذين أجبروا على التجنيد الإلزامي قسراً أنها مرحلة قهر الرجال!!

وعلى الرغم من العنف الثوري الذي لم يتوقف في الأنظمة الاستبدادية، إلا أنها أجبرت في النهاية بقوة الواقع على تشريع عشرات القوانين التي يملص فيها المواطن الغني من الخدمة الإلزامية اغتراباً أو بدلاً أو تأجيلاً إدارياً أو تفييشاً، في حين راحت على الفقير.

ولكن الأسوأ حين دخلت البلاد في حالة الحرب، وأصبح المجند مجبراً على الدخول إلى عالم الجنون القائم على مبدأ “اقتل أو تقتل”، وأصبحت خيارات المجند المسكين تنحصر بين الانشقاق والذهاب إلى المجهول، وبين الاستمرار وممارسة القتل والموت. ولا يوجد قدر أقسى من هذا.

وفي واحدة من أشد التصريحات تناقضاً مع كرامة الإنسان وحريته وطموحه، يشير وزير الداخلية السوري: “إننا شجعنا شباب الوطن على عدم السفر من الوطن عن طريق فتح فرص التطوع في الجيش”، ويزف بذلك فرصة نادرة للسوريين حيث يمكنهم أن يحملوا السلاح ويتقاتلوا إلى الأبد طالما أن هناك أرحاماً تدفع وأرضاً تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر….

وهكذا غدا التجنيد الإجباري أحد أشد أشكال القهر والجبر التي تمارسها الحكومات المستبدة ضد الأفراد، وتحيل حياتهم إلى جحيم. وهو قهر يغلف في العادة بالمعاني النبيلة المقدسة، من الدفاع عن الأوطان ومواجهة المؤامرات والتضحية في سبيل الآخرين. ولكن هذه الآمال البيضاء تلتعن كل يوم في غمار المواجهة الطاحنة بين الجيش والناس. والحرب هي الحرب بكل قذارتها وجنونها وإجرامها، ولا توجد عبارة يمكنها أن تلطف هذا الجنون البائس.

فهل قدر العالم أن يكون التجنيد الإجباري هو الخيار الذي تقاد فيه الشباب إلى حتوفها في خدمة لعبة السياسة والمكر والموت؟

لقد قالت الثورة السورية كلمتها، ونجحت في يوم واحد في هدم خرافة التجنيد الإجباري التي اعتاشت منها أطول سلسلة فساد في التاريخ السوري عبر ممارسات دنيئة قميئة يحوطها تحذير من ضياع البلاد وهلاك العباد.

إنها ليست بدعاً في الحكم الرشيد، لقد أدرك العالم الحر هذه الحقائق، وهناك اليوم 98 دولة في العالم ألغت نظام التجنيد الإلزامي، وهي تشتمل على قائمة الدول الرائدة حضارياً في العالم، وأهمها الدول الاسكندنافية واليابان وبريطانيا وأستراليا ومعظم الدول الأوروبية والهند والأرجنتين. وانتهى العقلاء في هذه الحضارات إلى تأكيد حق الإنسان في رفض حمل السلاح أياً كانت دوافعه وغرائزه وهياجه.

واختارت 41 دولة أشكالاً بديلة للخدمة الوطنية بحيث يكون الجيش للبناء والإعمار في السلم، دون حمل السلاح.

أما الدول التي اختارت المضي في التجنيد الإلزامي العسكري لأكثر من عام ونصف فهي 34 دولة، ومعظم هذه الدول محاربة أو لديها شغف الحرب، وأهمها كوريا الشمالية وإسرائيل وسوريا واليمن والصومال والنيجر وموريتانيا ومصر وإيران. ولا يوجد من النادي المتحضر في هذه القائمة إلا كوريا الجنوبية وسنغافورة.

ليس من حق إنسان ولا سلطة ولا دولة أن يرغم أحداً على حمل السلاح. لقد بات أبناؤنا في مأمن، وبات من حقهم أن يفكروا جدياً في العيش في بلدهم والتعليم في بلدهم والازدهار في بلدهم دون أن يتعرضوا للإذلال الممنهج في الحياة العسكرية في هذا الجيش الفاسد، ودون أن يتحولوا إلى مفيِّشين أو مفيَّشين، ودون أن يصدر مجلس الحرب قرار الاحتفاظ بهم الذي امتد خلال الحرب الأخيرة إلى سبع سنين وثماني سنوات، وجد فيها السوري نفسه في مواجهة أخيه السوري يقتل ويقتل، عبر منظومة فساد مجرمة من أمراء الحرب قتلت أحلامه، وجعلته أداة رخيصة في الكسب الحرام، وعبادة الأوهام والأصنام.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني