إيران وروسيا والأسد وقسد… خرجوا من المولد بلا حُمّص
خسارة روسيا
بالتأكيد لم يبقَ من الدول الفاعلة الرئيسية في الحرب السورية غير دولتين فقط هما الولايات المتحدة وتركيا، واتفاق هاتين الدولتين العميق أدى للإطاحة بالوجود الآخر حيث خرجت روسيا وإيران من سوريا وأصبحت الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط خالية من أيّ وجود لهما، وهو أمر سعيا وعملا له كثيراً كلٌ لأسبابه الإمبراطورية المعروفة.
كان التموضع الروسي في سوريا هدفاً إستراتيجياً للرئيس الروسي الذي يحلم باستعادة دور روسيا كإمبراطورية قوية ومشاركة الولايات المتحدة بالسيادة الدولية كقوة عظمى ولكي تكون كذلك لابد لها من قواعد بحرية وجوية في المياه الدافئة و التحرر من المضائق التركية التي تتحكم بالبحر الأسود.
إنّ وجود روسيا في سوريا أتاح لها دوراً هاماً في الشرق الأوسط (قلب العالم) وكانت وسيط القوة الدولي الذي يضبط الصراعات في المنطقة والذي يسعى كل الخصوم والأعداء والمتنافسون إلى خطب وِدّه.
لم يعرف الروس كيف يربحون ولا كيف يخسرون في سوريا.
لم يتمكنوا من تحويل إنجازهم العسكري في سوريا إلى إنجاز سياسي واقتصادي وبناء حامل مجتمعي موالٍ لهم، فقد حاولوا الاستئثار بسوريا لوحدهم دون مراعاة أو مشاركة مع القوى الأخرى خاصةً تركيا والولايات المتحدة، التي لم ترغب بحل سوري بنكهة روسية تحفظ مصالحهم، وكعادة الدول الديكتاتورية استهانت كثيراً بقدرة الشعوب على التغيير وعبر أدوات ووسائل بسيطة وهو ما حصل في سوريا حيث تمكن بضع آلاف من الثوار وبتجهيزات بسيطة ودون تدخل خارجي من الإطاحة بكل منجزات الدب الروسي خلال عقد في غضون عقد من الأيام فقط.
خسارة إيران
وكعادة الدول الشمولية المؤدلجة التي تسعى لنشر نموذجها بالتوسع العسكري المبني على دعاوى تاريخية ودينية وهدفه تدمير الدولة الوطنية وهوية المجتمع الخاصة به لصالح هوية مذهبية غير مرتبطة بالأرض والمصلحة الوطنية لغاية إنشاء تلك الإمبراطورية المذهبية.
أنشأ الحرس الثوري الإيراني هلالاً شيعياً هشاً تَمدّد كثيراً دون قوى مجتمعية حقيقية تدعمه ودون موارد اقتصادية كافية لتقديم نموذج يرضي الشعوب وكان اختراق تلك الدولة لضمها للهلال الشيعي يتمّ عبر إنشاء دول موازية وميليشيات تتغذى على جسد الدولة الوطنية وتجردها من أيّ قوة أو مناعة حقيقية وتتلطى خلفها وهو ما حدث في كل دول الهلال الشيعي.
استفاد الحرس الثوري من التخادم الأمريكي والإسرائيلي والأوربي معه بعد ضربات أيلول 2001 وتمكن من تنفيذ مشروعه وتوسيعه برضا أو غضّ نظر دولي، لكنه فشل في تقديم أيّ نموذج تنمية واستقرار في الدول التي دخلها ولم يشاء مشاركة الآخرين في مصالحهم في المنطقة وحاول السيطرة عليها منفرداً، وبعد الحرب على المملكة العربية السعودية عبر الحوثي وتدمير منشآت آرامكو في أيلول 2019 حاول تكرار تلك الضربة في 7 أكتوبر 2023 في غزة، وهنا كانت بداية نهاية هلاله الشيعي حيث خسر سوريا ولبنان وغزة وجاري العمل على تخسيره في اليمن حاليا والعراق لاحقاً.
وخلال سنة واحدة أضاعت منظومة ولاية الفقيه كل جهودها على مدار خمسة وأربعين عاماً وبعيداً عن الخسائر المادية والبشرية فإنّ خسارة المشروع العقائدي المُعدّ للتصدير هو الخسارة الأكبر لتلك الأنظمة لأنّ أساس ولاية الفقيه الشيعية العالمية مبنية على مبدأ تصدير الثورة للخارج وتعميم النموذج، وفشل ذلك يعني مواجهة تحديات داخلية كبرى في العبث بمقدرات البلاد والعباد والجري وراء سرديات وأساطير تاريخية دينية لم تعد صالحة لشعوب تعيش الربع الثاني من القرن الواحد والعشرون.
خسارة الأسد
لم يعرف الوريث الحفاظ على ملك أورثه له والده الطاغية فقد سلمه دولة تمكن من تحويلها لمزرعة عائلية على طريقة مثله الأعلى كيم إيل سونغ في كوريا الشمالية وأوصاه بالسير على منواله بالحكم بقبضة أمنية وخنق أيّ تطلعات للمجتمع بالحصول على بعض من حقوقه وبالتالي عدم إجراء أيّ إصلاحات حقيقية في منظومة الحكم التي أورثه إياها وعدم الوقوع في أخطاء غورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، والذي حاول إدخال إصلاحات بسيطة على منظومة الحكم في بلاده لم يتمكن من السيطرة عليها فيما بعد وتدحرجت إلى أن أدّت إلى الإطاحة به وبالإمبراطورية الشيوعية الكبرى في العالم ودون إطلاق رصاصة واحدة من الخارج.
لا يوجد حامل مجتمعي يحمي نموذج حكم عائلة الأسد وثبت خطأ الاعتماد على الطائفة العلوية كحامي له، وكان خياره وخيار أبيه من قبل معاملة الشعب كعدو والبطش والتنكيل به وتفقيره وإذلاله لِشلّ أيّ مقاومة حقيقية داخل المجتمع تُشكّل خطراً عليه.
وبعد انطلاق الثورة السورية كان خياره الأمني والعسكري الإبادي هو خطته وبوصلته وضمانته للاستمرار في الحكم، واستكان إلى دعم إقليمي ودولي (إيراني – روسي) وإلى غضّ نظر من بقية الدول عن جرائمه وسياساته خوفاً من البديل الذي قد يكون أسوأ منه.
لم يلتقط الأسد كل الفرص التي أتيحت أو مُنِحت له بعد 2016، والتدخل الروسي العسكري الذي غير موازين القوى على الأرض لصالحه ولم يعرف أن يستفيد من تلك المرحلة بانفتاح على الداخل والدول المهتمة بالشأن السوري وإنجاز حلّ سياسي داخلي وإصلاح العلاقات مع الجوار، بل مضى بغير ذلك تماماً مفضلاً الحسم العسكري في الداخل وإرغام الخارج على قبوله كما هو وأمعن في عدم التعاون مع الجوار والعالم في حل مشكلة اللجوء السوري وافتعاله لأزمات أخرى كتصدير الكبتاغون بكميات مقلقة، وأسهم في التموضع داخل المحور الإيراني وجعل سوريا منصة تهديد للقريب والبعيد.
لم يُدرك الأسد نتيجة أفعاله ولم يدرك الوهن الإستراتيجي لحليفيه الصلبين اللذان تورطا بصراعات كبرى ولم يدرك أنّ وهن الحليفين سيؤدي إلى ضعفه أيضاً، خاصة أنه جَرّد نفسه من كل المناعة وأسباب القوة الداخلية وأمعن في تأدية دور النار التي تأكل نفسها عندما لا تجد من تأكله، وحين دقّت ساعة الحقيقة في 27 تشربن ثاني 2024 لم يجد أحد يدافع عنه ولم يكن أمامه إلا الفرار وتطبيق المثل العربي الشهير، على نفسها جنت براقش.
خسارة قسد
لم ينضمّ حزب الـ PKK السوري للثورة السورية وبقي وفياً لمبادئه المعلنة منذ تأسيس الحزب الأم في بداية ثمانينيات القرن الماضي بإنشاء دولة كردستان الكبرى بعد أن كان في بداية تأسيسه يسعى لحقوق سياسية قومية داخل تركيا فقط، وللوصول إلى ذلك ارتضى أن يكون بندقية للإيجار وورقة يستعملها الراغبون في مناكفاتهم وصراعاتهم مع تركيا.
انسحب نظام الأسد من كل المناطق الطرفية تحت ضغط تقدم قوى الثورة العسكرية لتجميع قواته في ما أسماه سوريا المفيدة ليتمكن من الدفاع عنها وأوكل مهمة منع الثورة من السيطرة على مناطق هامة إلى الـ PKK السوري والذي حانت له فرصة ذهبية عندما كان خياراً أمريكياً محلياً على الأرض لطرد تنظيم داعش من مناطق في سوريا.
أمسك الحزب بالأرض عبر شكله الجديد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وأنشأ إدارة مدنية أسماها الإدارة الذاتية وهي نواة الدويلة الانفصالية وأنشأ جناحاً سياسياً له أسماه مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) وخلال الحرب على داعش كان يعمل على تكريس سلطته على الأرض والسكان وفشل في ذلك فشلاً ذريعاً حتى في استقطاب القوى الكردية حوله وظهرت حقيقته كحزب عقائدي شمولي يحمل مشروعاً خاصاً به لا يشاركه فيه أحد. توهّمت قيادة الحزب أنّ بإمكانها اجترار تجربة إقليم كردستان العراق وهذا ينمّ عن جهلها المطلق بحقيقة الأرض والديمغرافيا السورية، والظروف المحيطة بها واعتقدت أنها حليف موضوعي للولايات المتحدة والغرب في المنطقة وأنّ لها أدواراً وظيفية طويلة الأمد في رعاية المصالح الغربية في المنطقة، بمعنى أنها خنجراً مسموماً مغروس في خاصرة تركيا وسوريا وأنها يمكن أن تكون إسرائيل الكردية لا ينتهي دورها بانتفاء الحاجة لها، ولم تَتّعظ أو تفهم الإستراتيجيات الأمريكية في فيتنام وأفغانستان وغيرهما، ولم تُدرِك أنّ قسد تُمثّل أداة ظرفية للولايات المتحدة وليست حليفاً إستراتيجياً لها.
أهدرت قسد كل الفرص في محاولة الانضمام لخيارات الشعب السوري الوطنية وأخففت في تقديم نموذج وطني سوري يبنى عليه أو بإمكانه الاندماج في مشروع وطني جامع وأسرفت في ارتكاب جرائم بحق السكان المدنيين في مناطق سيطرتها، وأهدرت كل الفرص المتاحة ولم تقرأ المشهد الجيوسياسي في المنطقة الذي تَغيّر كثيراً، وبحكم تركيبها لم تستطع الاندماج في بناء الدولة السورية الجديدة، ولم تُدرك حجم التغيير الذي حصل فقد كان رهانها على خلاف عربي -عربي ببن قوى الثورة والنظام وما يُمثّل، وخلاف تركي مع نظام الأسد، وأصبحت الآن في مواجهة مفتوحة مع سوريا وتركيا المتحالفتين معاً ضدها، وأنّ ظروف سيطرتها على منطقة أغلبيتها الساحقة من العرب لم يعد ممكناً، وطبقت قسد تماماً مقولة أنها لا تعرف كيف تربح ولا تعرف كيف تخسر وهاهو مشروعها في مهبّ الريح ولن يكون ذلك بعيداً.
ولان الأسد وقسد لا يملكان مشروعاً مؤهلاً للبقاء وارتضوا العيش والاستمرار على حبل سري مع قوى خارجية وفقدوا كل عوامل القوة الداخلية فإنّ انقطاع ذلك الحبل المغذي لهم (لأيّ سبب من الأسباب) سوف يجعل الغرغرينا تُجهز على ما تبقى من ذلك الجسد الميت.