الهيئة من إدلب إلى دمشق.. الآمال والفرص والتحديات
من المعروف عن الحركات الجهادية السلفية العابرة للحدود أنّ لديها مشاريع أممية استناداً لعقائدها الدينية، وفي مقدمتها إقامة حكم الله في الأرض وفقاً لفهمهم وتفسيرهم للشريعة الإسلامية ولا يملكون برنامجاً لذلك أو خارطة طريق، و وسائلهم الوحيدة هي العنف بمختلف أدواته واشكاله، ومنهم من ينتهج العنف على مستوى العالم كتنظيم القاعدة الذي جَسّد أهدافه بإنشاء الجبهة العالمية لمحاربة الصهيونية والصليبية، فبعد تفجيرات نيروبي ودار السلام بأفريقيا للسفارات الأمريكية تَوجّه الى 11 أيلول 2001 وقام بضرب الولايات المتحدة نفسها معتبراً إياها العدو الأول للمسلمين، وبما أنهم يعتقدون أنهم هزموا السوفييت في أفغانستان وأسقطوا دولتهم فيما بعد كتداعيات لتلك الهزيمة فلمَ لا يهزمون أمريكا؟ وتضطر لسحب قواتها ونفوذها ودعمها لطغاة العالم الإسلامي وبالتالي حينها يَسهُل الانقضاض عليهم وتأسيس خلافتهم.
كان الجولاني من فئة الشباب السوري الذي التحق بالمقاومة العراقية الإسلامية للاحتلال الأمريكي للعراق وكان حينها تنظيم ابو مصعب الزرقاوي الذي يتبع للقاعدة العالمية هو أكبر تلك الفصائل الجهادية، والتصنيف الأمريكي الذي طاله بالإرهاب أتى من خلال مقاومته لذلك الاحتلال داخل العراق وليس لقيامه بعمليات لتنظيم القاعدة في الخارج. وبعد اعتقاله في العراق لفترة أفرج عنه وبقي فيها إلى أن اندلعت الثورة السورية، وبعد تكليفه من أبو بكر البغدادي بالدخول لسوريا وتأسيس جبهة النصرة لأهل الشام كامتداد حقيقي لدولة العراق والشام الإسلامية، انشقّ عن البغدادي وحاربه حربا دموية حقيقية وليس انشقاقاً فكرياً أو منهجياً فحسب وكانت تلك أولى خطوات الجولاني المهمة في الابتعاد عن العالمية والانخراط في الشأن السوري فقط.
عندها ولحاجته لدعم وشرعية من جهات وازنة أعلن أنه يتبع لتنظيم القاعدة الدولي بزعامة ايمن الظواهري، إلا أنه ما لبث أن أعلن عن فكّ ارتباطه معه في عام 2016 وغيّر اسمه إلى هيئة فتح الشام ولأنّ كلمة فتح لها دلالات عابرة للحدود واسقاطات دينية وتوحي للآخرين بمعنى الغزو الخارجي، اختار الاسم الجديد هيئة تحرير الشام والتي من اسمها تدلّ على عملها تحت اجندة وطنية وغير عابرة للحدود، وقيادتها وأعمالها وجهادها داخل الأراضي السورية ولهدف إسقاط نظام الأسد وبناء دولة وفق الشريعة الإسلامية.
لا تستطيع أيّ مجموعة مقاتلة (إذا أرادت الاستمرار) إلا أن تكون لها عصبية أو أيدلوجيا تستطيع بها بناء نواة صلبة مستعدة للتضحية حتى بأرواحها. وكانت أيدلوجية هيئة تحرير الشام سلفية جهادية.
وبسبب وجود فصائل كثيرة على امتداد الجغرافية السورية كان كل فصيل يسيطر على منطقة يحكمها فيقوم بشكل غير منظم بإدارتها مدنياً، ويمتد ذلك للحفاظ على أمنها وقد يلجأ لإنشاء محاكم وسجون أيضاً، وسرى ذلك على هيئة تحرير الشام إذ أقامت في حلب المدينة الهيئة الشرعية في قاصي عسكر ومنها كشبه إدارة مدنية يضم قضاءً لفضّ النزاعات.
كانت الهيئة على مستوى المدنيين من أفضل الفصائل سمعةً وانضباطاً وتنظيماً، وكانت تدخل في خلافات وصراعات مع بقية الفصائل المنافسة، وكانت الهيئة تنظيما ليس مناطقياً وفق أيدولوجيتها الإسلامية بل تنتشر في بقع متناثرة في الجغرافيا السورية.
لم يكن يلاحظ أيّ أجندة تحملها الهيئة خارج الحدود السورية، وبالطبع كانت تحت المجهر الدولي والإقليمي، ولأنّ تصنيفها إرهابية كانت كل الفواعل الدولية ترى فيها مسمار جحا لشرعنة تدخلها في سوريا لذلك سَلِمَت قيادتها من الاغتيال ولم يتمّ استهدافها بشكل واضح من الطيران الروسي.
بإنهاء ارتباطها بتنظيم القاعدة وحملها للأجندة السورية بطريقتها ومنهجها ووضوح التعب والإنهاك على الفصائل العسكرية الأخرى وفشل تجربة داعش والتي كانت نموذجاً فاشلاً شعبياً ودولياً، حيث تَشكّل تحالف دولي ضخم لحربها بقيادة الولايات المتحدة، وبعد الغزو الروسي الجوي كانت الهيئة أمام مفترق طرق، فقد بات واضحاً أنّ القرار الدولي هو تجميع المعارضة السورية في الشمال وتسليم باقي المناطق للنظام للدخول بحل سياسي بعد تغيير ميزان القوى العسكرية على الأرض.
كانت تدير مناطق الشمال السوري إدارياً حكومة سورية مؤقتة مدعومة من تركيا، مكان عملها الرئيسي مناطق درع الفرات وكانت إدلب والأرياف الأخرى مفصولة جغرافياً عن درع الفرات وبالتالي كان الاتصال الوحيد ببن المنطقتين يتم عبر تركيا، وكانت الحكومة المؤقتة تدير بعض ما تستطيع هناك ولم تملك حينها هيئة تحرير الشام أيّ إدارة مدنية أو سيطرة عسكرية تامة حيث تشاركها السيطرة فصائل وحركات أخرى.
كانت خطة الهيئة واضحة في الصراع على المعابر الداخلية ومعبر باب الهوى لتأمين دخل مادي للإنفاق على انشطتها العسكرية، وفي بدايات تشرين ثاني 2017 تم الإعلان عن تشكيل إدارة مدنية جديدة تتبع للهيئة في مناطق سيطرتها في إدلب عرفت باسم حكومة الإنقاذ السورية وبدأت مناطق جديدة تدخل في صلاحيات عملها بعد طرد الحكومة المؤقتة وتشكيلاتها منها والذي يتبع عملياً احتواء الفصائل العسكرية الداعمة لها وتفكيكها.
بتوقف المعارك الكبرى في آذار 2020 كانت هيئة تحرير الشام تسيطر سيطرة كاملة على إدلب وما تبقى من أرياف حلب وحماة واللاذقية وتوجد سلطة إدارية واحدة باسم حكومة الإنقاذ.
وكان يوجد فصائل متعددة تسمى الجبهة الوطنية للتحرير تتبع للجيش الوطني أو مستقلة مهمتها الرباط على الجبهات وتكون منضوية بغرفة عمليات الفتح المبين بقيادة الهيئة ولا تتدخل من قريب أو بعيد بالشؤون الأمنية والمدنية للمنطقة، حيث كان كل ذلك من اختصاص ومهام الهيئة.
تميزت تجربة حكم الهيئة في إدلب بوجود مركزية قوية أمنية وعسكرية وإدارية وكان الرأس واحد والقرار واحد، وبالأساس إنّ سِرّ صمود الهيئة ونجاحها هو التنظيم الجيد والانضباط والقائد الواحد ووضوح الرؤية فقد كانت تلك دولة وحكومة هيئة تحرير الشام وتجربتها بكل وضوح.
أهمّ ميزات تلك المرحلة هو تثبيت النهج الوطني للهيئة، وتصديها لموضوع الحكم والإدارة، والاعتناء بشؤون السكان هو خيار نهائي بانها حركة إسلامية جهادية سورية لا أفق لها بالتمدد خارج الحدود، والهم والاهتمام بناء نموذج سوري لحوكمة تنافس سلطات الأمر الواقع الأخرى وتقدم بذلك نموذجها لسوريا كلها فيما لو وصلت للسلطة.
تم إنشاء مجلس الشورى العام للهيئة والذي هو المؤسسة التشريعية التي تعطي الثقة للحكومة وتم إنشاء جهاز للأمن العام لا يرتبط بوزير الداخلية، وتم إنشاء مؤسسات مدنية مختلفة تتبع للوزارات أو مستقلة إضافة لتجربة لم تكتمل وهي سلطة نقد محلية وبنوك.
كل تلك المؤسسات كانت تُقاد من خلف الستارة من قيادة الهيئة والتي هي المرجعية الحقيقية لها دون أن يشغل الجولاني أيّ منصب رسمي سوى قائد هيئة تحرير الشام.
تم مشاهدة ارتياح السكان من تنظيم الإدارة وانضباطها وسلوكياتها، ومارست اعمالها دون موارد كافية، فلا ميزانيات معلنة ولا موارد قوية وبالأساس لا توجد غير واردات معبر باب الهوى والرسوم على المعابر مع مناطق الحكومة المؤقتة، وكان فرض القليل من الضرائب على السكان يلاقي صرخات الاحتجاج من الجمهور باعتبار أنّ جُلّهم من النازحين.
وبعكس تجربة الشمال السوري والتي تعتمد على اعطاء الدور الأكبر والصلاحيات الأوسع في الحكم المحلي للمجالس المحلية وبقاء الحكومة كجهة تنسيق عليا جامعة دون صلاحيات حقيقية عليها، انتهجت حكومة الإنقاذ نهجاً حكومياً مركزياً بحصر السلطة في الوزارات وإعطاء دور خدمي للمجالس البلدية وبالطبع هذا يؤشر للمركزية الشديدة في تجربة الحكم في إدلب على كل المستويات وعدم اعطاء صلاحيات واسعة للأطراف وأظنه سيميز نهج إدارة احمد الشرع لسوريا المستقبل.
في الحقيقة وإزاء وجود مناطق الهيئة ضمن مناطق خفض التصعيد وعدم الوصول لوقف إطلاق نار أو هدنة مع النظام واستمرار خرق الطيران الروسي لأجواء المنطقة وقصفه لمناطق متعددة كانت ميزة عدم الاستقرار والشروع بإنشاء مشاريع كبيرة نسبياً أمراً متعذراً لأنها ستكون عرضة للاستهداف بأيّ لحظة.
وكغيرها من الحكومات كانت الطبقة المالية من رجال الاعمال والمتمولون على علاقة وئام مع قيادة الهيئة والحكومة ويحظون بالدعم والتشجيع للاستثمار في المنطقة لمخالفة مقولة راس المال جبان. وبالطبع كانت الضرائب المفروضة عليهم تسهم في رفد الخزينة لمساعدتها في الصرف على الخدمات المقدمة للمواطنين.
وكانت الغاية من عمليات الهيئة لضم مناطق جديدة في الشمال هي البحث عن موارد جديدة كالمعابر والضرائب مثلاً.
تتميز قيادة الهيئة بالبراغماتية الشديدة وإدراك جيد للواقع الدولي والإقليمي والاهتمام بالمجتمع المحلي وعدم فرض قوانين عليه تُنفّر السكان منه، فبعكس سلوك سلطة داعش لم تُضيّق على السكان في حياتهم الاجتماعية وتتدخل في سلوكياتهم فكانت المقاهي وتدخين الأركيلة وإقامة الأعراس والمطاعم العامة متاحة بشكل عادي وقيادة المرأة للسيارة وغيرها من السلوكيات مسموح بها.
اعتمدت الهيئة على مشاريع فوق الأرض تعطي انطباعاً بالنجاح كالمولات والشوارع المعبّدة العريضة والمنارة جيداً إضافةً للدوارات الكبيرة وأسواق الذهب والسيارات.. إلخ. لتقديم نموذج نجاح سريع لجمهورها والعالم الذي يراقبها.
كان من استراتيجيات الهيئة في إدلب مأسسة عمل عسكري وشُرطي، فقد أنشأت كلية حربية عام 2022 مع كلية شرطة خرجت مئات المتدربين ومنهم مثلاً 500 ضابط من الكلية الحربية كانوا عماد غرفة عمليات ردع العدوان التي أطاحت بالأسد.
ساهمت حكومة الإنقاذ ببناء نهضة علمية من الصفر فانتشرت الجامعات المتعددة في مناطقها ومنها بالطبع كليات العلوم التطبيقية والعلوم السياسة والإعلام ولم يظهر ميلها للاهتمام فقط بالعلوم الشرعية.
كان تعامل الهيئة وحكومتها سلساً مع منظمات المجتمع المدني بمختلف أطيافها خاصة الصحية والإغاثية والبعثات الأممية ولم يكن هناك تشدّد في البحث عن دين الممول والمانح وأهدافه، وبقي معبرها الذي تسيطر عليه هو المعبر الوحيد المسموح به للأمم المتحدة في الوصول للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام وهو الأمر الذي يدل على المهنية والتنظيم الجيدين إضافة للاعتبارات السياسية.
اندلعت احتجاجات كبيرة ضد الهيئة وحكومتها في أواخر شباط وأوائل آذار من عام 2024 واستمرت لأشهر، وكانت في معظمها احتجاجات على سلوك الهيئة الأمني باعتقالات لمخالفيها بالرأي، نجحت الهيئة بمعالجة الحالة دون تقديم تنازلات جوهرية وإنما تم إطلاق سراح أغلب المعتقلين وعدم إطلاق الرصاص على المتظاهرين ولم تُسجّل حادثة قتل واحدة لمتظاهر، وبعض المحتجين كانت مطالبهم خدمية تمت الاستجابة لها، وعلى العموم كانت إدارة الهيئة لتلك الاحتجاجات أفضل بكثير من المتوقع.
صرح قائد إدارة العمليات العسكرية أنّ الهيئة تملك تجربة ناجحة في إدلب ويمكن تطبيقها في سوريا الجديدة، وبالطبع لن يكون ذلك سهلاً لأنّ إدلب مجتمع سوري صغير ومتماسك ومن هوى واحد فيما سوريا تختلف كثيراً:
1- يتمّ انتقاد الهيئة بأنها نقلت حكومة الإنقاذ من إدلب بكاملها وتنصيبها حكومة سورية مؤقتة، وأظن أنّ الشرع معذور في ذلك فلو كان رئيس حزب فاز في انتخابات فإنه سيشكل حكومة من دائرته التي يثق بها ومن غير المعقول أن يضع أناساً لا يعرفهم أو لا يثق بهم في مناصب هامة، حتى في تعيينات المحافظين وبعض المديريات الهامة وضع أشخاصاً يثق بهم.
2- تحظى الهيئة بدعم شعبي هائل واحتضان دولي وإقليمي. والأغلبية زارت دمشق والتقت الشرع وأبدت رغبتها في دعم الوضع الجديد.
وتعهد مانحون بتقديم كل أنواع المساعدة ومنها رفع بعض العقوبات أو تعليقها أو غضّ النظر عنها لأن الجميع متفق على إنجاح المرحلة وعدم الوقوع في الفوضى الذي سيعقب أيّ فشل.
3- تأتي حكومة الشرع لاستلام اقتصاد ومجتمع ودولة مُدمّرة، لذلك أيّ نجاح مهما كان بسيطاً ولو على سبيل إيصال بعض الخدمات الأساسية كالكهرباء والمحروقات سيصبّ نجاحاً في رصيدها.
4- عدم طول معركة إسقاط النظام وعدم سفك الدماء لتحرير سوريا والذي يعتبر نجاحاً بكل المقاييس. وعدم بروز ردات فعل إنتقامية من المنتصرين تجاه المهزومين، كل هذا سهّل كثيراً الالتفات للنواحي الاقتصادية والخدمية وجعلها في المقام الأول.
5- موافقة الفصائل العسكرية في الجيش الوطني المدعوم من تركيا بحلّ نفسها وتسليم سلاحها والانخراط في وزارة الدفاع شكّل سابقة وأحرج أيّ فصيل أو جماعة من الاحتفاظ بسلاحها خارج الدولة.
6- لم تظهر كثيراً أصوات نشاز مؤدلجة لم تستطع اللحاق بقائدها ومواكبته ولم تفهم الظرف الجديد، أظهر أنّ التعامل من الهيئة وحكومتها مع مختلف الأطياف لن يكون صعباً ومثال الأرناؤوط الذي أبعِد عن موقعه بسبب تصريحاته عن المرأة.
7- يُدرك الشرع أنّ حكومته لا ينطبق عليها تعريف حكومات تصريف الأعمال في الدول المستقرة والتي تنزع منها القرارات السيادية، فهي مضطرة لذلك إما بحكم توليها تركة ثقيلة ناجمة عن إزاحة نظام عمره 61 سنة، أو بموجب الشرعية الثورية التي تستحوذ عليها، والتي تم تطبيقها كثيراً في تجارب مشابهة.
8- لا هدف يعلو الآن على ضبط الوضع الأمني واعتقال المجرمين وسحب السلاح منهم، وملاحقة الفلول وتقوية المركز لجمع الأطراف التي لها نوايا انفصالية ومصادرة السلاح منهم، فلا يمكن وجود أيّ سلاح خارج سلاح السلطة الجديدة.
9- لا يمكن السماح بقمع أيّ رأي مخالف طالما أنه سوري وسلمي ويهمه مستقبل سوريا تحت أي حجة، وسيكون من المفصل اخذ تراخيص من السلطات الإدارية في حال كان هناك رغبة في اعتصام او تجمع أو مظاهرة.
10- سيخسر الشرع بانفتاحه الجديد على السوريين جميعاً وبموجب تصريحاته وأفعاله جزءاً من نواته الصلبة المؤدلجة ولكنه سيضم إلى تياره مئات الآلاف من السوريين الذين رؤوا فيه بطلاً ومخلصاً وإن شاء الله بانياً لسورية وجامعاً للسوريين.