fbpx

وأزهر ربيع الأمنيات

0 41

جلبة… طرَقَات على الباب.. قبع في الزاوية.. انكمش.. ضمّ رجليه بيدين مرتجفتين.. أخفى رأسه بين ركبتيه.. استعدّ لحفلة جحيم جديدة خَبِر لسع نارها.. منذ سنوات نسي تعدادها.. ازداد الطرق.. عصر نفسه.. التحم بالجدار.. طرقٌ.. طرقٌ.. طرقٌ يصم الأذنين.. وضع أصابعه فيهما دون طائل.. سيطر الخوف على حواسه.. اصطكت أسنانه مما يتوقع حدوثه.. تساءل “جاؤوا للشبح والكهرباء من جديد أم للإعدام؟ سمعتُهم يرددونها مراراً سنسلخ جلدك.. في المرة القادمة نهايتك”. أمسك رأسه بيديه.. عصره.. صرخ.. ضاعت صرخاته وسط الطرَقَات.. كاد يغمى عليه.. طرقة قوية.. انفرج الباب.. طرقة أخرى انفتح على مصرعيه.. جفل.. سمع جلبة.. فتح عينيه.. أشباح تقف وسط الزنزانة.. حانت ساعتي؟

– قف.. ما اسمك؟

– متلعثماً، وبصوت يكاد لا يُسمَع خمسة.. خمسة.. خمسة.. ارحموني

– ماذا تقول؟

– خمسة.. خمسة.. خمسة.. أرجوكم…

أمسك به رجلان من يديه أوقفاه وهو يرتجف رعباً.. جاءت النهاية؟

– أية نهاية!.. لا تخف نحن أخوة.. أنت حرّ.. مبارك لك…

لم يفهم شيئاً مما سمع.. ردّد أنا خمسة.. خمسة.. قاطعه أحدهم.. أنت حرّ يا أخي.. نجوتَ من معصرة السّجّان.. هيّا اذهب إلى بيتك. لم يصدق… أتسخر مني؟ ضمّه.. نحن أخوتك.. لا تخف.. هرب سجانوك.. أنت حرّ الآن.. تعالَ معي إلى الخارج…

بهره الضوء.. أغمض عينيه.. وضع يديه عليهما وشرع يفتحهما رويداً.. رويداً.. ومن بين رموشه تسلّل النور إلى محجريهما.. دنيا جديدة.. رأى الشمس والأشجار والناس خلية نحل.. تنفّس.. ملأ رئتيه بالهواء.. زفره.. كاد ينسى كل ما عرفه.. صرخ بأعلى صوته: يا ناس هل أنا حرٌ حقاً؟ وهل ما أراه حقيقة أم أنا في حلم؟ لطم خديه.. قرص نفسه شعر بألم.. مشى بخطوات متعثرة.. كاد يسقط.. سنده شاب قربه.. معذرة منذ سنوات وأنا بين جدران ضيقة.. تيبست رجلاي.. وتقوّس ظهري.. ما عدت شاباً، أحتاج للتدريب…، مبارك لك ياعم.. حمداً على السلامة.. أين بيتك؟

– في حي الصّدِّيقين…

– تعال معي.. على مهلك.. سأوصلك إلى هناك…

– شكراً يا ولدي

– ما اسمك…؟

– اليوم أو أمس؟

– كما تريد

– اليوم سامي جابر المحمود.. البارحة ثلاث خمسات…

ساعده في الصعود إلى السيارة. السماء صافية، والشمس تشرق وضاءة، وعلى جانبي الطريق تنتصب الأشجار بخيلاء، شعر بنشوة غامرة، سأل: في أيّ شهرنحن؟

– في كانون الأول/ ديسمبر، لماذا؟

– افتكرت أننا في مقتبل الربيع

– نحن فعلاً في أول شمس لربيع جديد…

– لا تؤاخذني، في الظلمة ننسى الأيام والسنين

– كم سنة قضيت في العتمة؟

– لا أدري، دخلت في آذار/مارس 1996

– أمضيتَ ربع قرن ونيّف، كيف مرّت أيامها؟

– كل يوم في سنة، كنت أعيش الفصول الأربعة في فصل واحد من صنوف الذل والقهر والتعذيب

– وها أنت اليوم في شمس ربيع انتظرناه طويلاً

تلاقت أيديهما مصفقة.. استمرا في الحوار حتى وصلا الحي. أين بيتك؟

– جالت عيناه في المكان.. كل شيء تغيّر.. البيوت أكثرها صارت أنقاضاً.. تبدلت المعالم التي عشقها.. لم يستطع التعرف على بيته.. سأل عنه.. دلّوه على بقايا بيت.. طرق الباب.. فتح شاب في مقتبل العمر.. شاهد رجلاً بائساً رث الثياب تبدو عليه علامات التسول سأله: ماذا تريد.. هل أستطيع خدمتك؟

– أهذا بيت سامي جابر المحمود؟

– هذا بيت أخيه، ماذا تريد…؟

– أريد بيت سامي…

– ليس هنا، أخبرنا والدي أنه غاب أو غُيب منذ أكثر من عشرين عاماً لم يأتِ منه خبر، ولم يُعرف له مصير.. هل تعرفه؟

– نعم، وهو حيّ يرزق…

– أصدقاً ما تقول يا عماه ؟!

– وهل تراني أمزح…؟ نادي أباك

سمع أبو سامي الحوار.. مَن هناك ياسامي؟

– رجل يسأل عن عمي، يقول إنه يعرفه

أقبل أبو سامي.. تمعن فيه.. علت ضحكتهما وفتحا ذراعيهما.. أخي.. أيعقل أنك حيّ، وضمّا بعضهما، وأجهشا بالبكاء.. أسرع سامي الصغير ينادي: جاء عمّي.. عمّي حيّ يرزق يا عمتي.. عمي حيّ يرزق…

كانت المفاجأة صادمة.. وقفت تنظر إليهما غير مصدقة عينيها.. زغردت.. تقدمت.. أحاطتهما بيديها وعيناها تتسربل بالدموع.. وبصوت مبحوح أصدقاً هذا أنت…؟

– نعم، كما ترين ما زلت حيّاً.. كُتب لي عمر جديد… سألهما أين أمي؟

تلاقت نظراتهما.. توجّس… حدس بالجواب.. شاب فرحتة ألم ارتسم على قسمات وجهه.. ربّتت على كتفه.. على رسلك.. لم تسمعنا.. إنها في الداخل.. أشرق نور في عينيه.. ركع رافعاً يديه إلى السماء…

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني