سوريا.. جوع فظيع وحرب لا تنتهي
الظروف التي تمرّ بها سوريا في ظل نتائج حرب مدمرة، هي ظروف غير محتملة بالمعنى الإنساني، وهي تذكّر بظروف قاسية مرّت على البلاد.
لقد مضى على آخر مجاعة ضربت سوريا قرابة مئة عام، والتي شملت آنذاك ولايات مثل ولاية الشام، وولاية حلب، وولاية بيروت، في عهد حكم جمال باشا، أواخر أيام حكم الدولة العثمانية، وكانت هناك أسباب ساهمت في حدوث المجاعة، مثل مصادرة الأراضي والأملاك، وهروب الشباب أو سوقهم إلى الخدمة العسكرية، إضافة إلى ما تستهلكه الحرب من مقدرات البلاد آنذاك، ولذلك يمكننا القول: ما أشبه سوريا قبل مئة عام بسوريا الآن.
السوريون اليوم أمام خطر مجاعة أخرى تضرب بلادهم، وأسبابها تشبه إلى حدٍ كبيرٍ أسباب المجاعة السابقة، يضاف إليها ما قد يحدثه تطبيق قانون سيزر الأمريكي المشهور باسم (قانون قيصر)، وانعكاسات هذا القانون على الوضع الاقتصادي السوري.
إن الانهيار الكبير لليرة السورية أمام الدولار، جعل حال السوريين المعيشي في وضع كارثي، تجلى هذا الوضع عبر تراجع قدرة السوريين على شراء حاجاتهم المعيشية الضرورية، ويمكن لمراقب حيادي أن يرى انعكاس ذلك جلياً في شوارع دمشق التجارية، التي تكاد تبدو خالية من المارة والمتسوقين، حتى في وسط النهار، إضافة إلى تكدّس البضائع لدى التجار، دون أن يقترب غالبية الناس منها، بسبب ارتفاع أسعارها، ويزيد الأمر سوءاً انعدام وجود بعض السلع الضرورية، وحدوث ندرة كبيرة في الأدوية، بما فيها الأدوية الضرورية.
هذه الأدوية إن وجدت، فإن أسعارها باتت خيالية، يخشى المواطن حتى من لصاقة تسعيرها، فجرعة الكيماوي مثلاً، التي تعتبر شريان الحياة لمرضى السرطان، أصبح سعرها يتجاوز مبلغ 80 ألف ليرة، وهو مبلغ يتجاوز رواتب كثيرين من فئة متوسطي الرواتب العاملين بأجر لدى الدولة أو القطاع الخاص.
أما ما يتعلق بالمواد الرئيسية، فالأمور وصلت إلى حالة مزرية، (حدّث ولا حرج)، ويمكن مشاهدة طوابير طويلة لمواطنين، يقفون على أبواب مؤسسة “سوريا للتجارة”، بانتظار القليل من مادة السكر والأرز، بسعرٍ يناسب قدراتهم وجيوبهم، لأنهم غير قادرين على دفع المبالغ الخيالية، التي يحددها التجار كأسعار لسلعهم في السوق.
أما اللحوم والدجاج، فهاتان المادتان الغذائيتان صارتا جزءاً من أحلام وأمنيات المواطن السوري، وإذا عدنا إلى زمن ما قبل الثورة السورية، يمكننا القول، إن سوريا كانت تُعدُّ من المصدرين الأوائل للماشية في الوطن العربي، لكنّ سكانها باتوا اليوم، يمرّون بمحلات بيع اللحوم، ليتفرجوا عليها، وأصبح المواطن السوري، يرى اللحوم في أحلامه.
وتختلف آراء الناس حول هذا الغلاء الفاحش، فمنهم من يقول، إن سبب غلاء اللحوم، سببه التجار، الذين يقومون بتهريب الأغنام إلى الدول المجاورة، لبيعها بأسعار أعلى، وآخرون يفسرون الأمر، على أنه ارتفاع أسعار أعلاف هذه الحيوانات، التي يعجز مربو الأغنام والأبقار عن دفعها وتأمينها.
أمام هذه الأوضاع، وتحديداً منذ بداية عام 2020، باتت الأسرة السورية بحاجة إلى دخل يبلغ قرابة 400 ألف ليرة، لتغطية نفقات معيشتها بطريقة يطلق عليها السوريون (عيشة الستر)، ولكن المبلغ المذكور لم يعد كافياً مع تدهور سعر صرف الليرة بسرعة فائقة، فصارت الأسرة بحاجة غ 700 ألف ليرة سورية الحصار الذي ضُرب على البلاد.
ولكن المضحك المبكي في حياة المواطن السوري، أن الحد الأدنى للأجور في سوريا 30 ألف ليرة سورية أي 15 دولار أمريكي، والحد الأعلى لا يتجاوز الـ 200 ألف ليرة ما يعادل 80 دولار تقريباً، وحكومة النظام ترفض زيادة الأجور بحجة عجز ميزانية الدولة عن ذلك، على صعيد القطاع العام، وفي ظل تذرع القطاع الخاص بانهيار الليرة، وتعرض هذا القطاع لعجز كبير في تأمين موارده، واستغلال الدولة له في الضرائب.
وكما جرت العادة في كل دول العالم الثالث، الخسارة الأكبر، والثمن الأعلى، يدفعه المواطن من قوت يومه، ومن لقمة أبنائه، فأصبحت نظرة البؤس تمثل جزءاً رئيساً من ملامح المواطن السوري، الذي أصبح عاجزاً أمام كل تلك المصائب، التي لا ترحمه.
فبعد أن كان يخشى على مستقبله، ومستقبل أبنائه، أصبح الحاضر أكثر خوفاً ورعباً، في ظل وطن يمشي بخطى متسارعة نحو الهاوية، ومع دخل ينفذ في أول أيام الشهر، فيكمل الشهر إما مديوناً أو جائعاً.
السوري يعيش هذه الأيام تحت ضغوط هموم العيش الهائلة، يسيطر على عقله الرعب من الجوع، وهو أمر دفع ببعض الأشخاص إلى قتل أنفسهم أمام انسداد أفق العيش أمامهم، فتحولوا إلى منتحرين أو مجرمين، في ظل الانفلات الأمني الكبير، في بلد دمرته الحرب، وغطرسة وجشع المسؤولين والتجار.
بقي أن نقول، إن سوريا إذا لم يساعدها العالم على لملمة نفسها من حرب مدمرة، فهي تزداد تشظياً وتمزقاً ما يحول الناس إلى وضع غير سوي، وضع أفواج من الجائعين الذين قد يفعلون أي شيء كي يأكلوا ويطعموا أبناءهم.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”