fbpx

معلّمتي

0 78

مكسوفة جرجرت رجليها والدموع تترقرق في عينيها، ولمّا رأتها الأم أسرعت إليها، ما بكِ؟ ماذا جرى لكِ؟ المعلمة شتمتني، وعنّفتني، والمديرة وبّختني. أقسم: لن أعود إلى المدرسة، وكما قتلوا أبي اذبحيني إنْ شئت. مسحت على شعرها.. قبّلتها.. لن تعودي إلى تلك المدرسة ثانية.. تعالي يا حبيبتي…

بمشورة من صديقتها اقتادت صغيرتها إلى مدرسة خارج الحي. سألتها المديرة عن سبب نقلها. أجابت باختصار. استدعت معلمة الصف الثاني، أوصتها بالصغيرة خيراً. فتحت الإضبارة وقرأت باهتمام وصف معلمات المدرسة السابقة، ودرجات تحصيلها في الصف الأول. ابتسمت وربّتت على كتف الصغيرة، ما اسمك يا حلوة؟

– صَبَا…

– أنا أحببتك، فهل تساعديني؟

– نعم،…

– من اليوم نحن صديقتان، تقبلين؟

– أجل…

– هاتي يدك، وردّدي خلفي: أنا صَبَا أقسم أن أتعاون مع معلمتي، وأعمل بتوجيهاتها في المدرسة، وأساعد والدتي في البيت. خرجن إلى الباحة.. هيا العبي يا حلوتي…

– يا أمّ صَبَا، أريدك أن تخبريني كل شيء، هل كانت صَبَا شقيّة كما وصفوها؟

– يا آنسة، صَبَا وحيدتي، منذ صغرها تحبّ اللعب، وكان المرحوم يدلّلها كثيراً، تنتظر عودته ليداعبها ويلعبان معاً حتى جاءت ساعة نحس – وتحدّرت دمعة على خدّها – وقدّام البيت أحاط به ملثمون، وطعنوه عدة طعنات فتهاوى على الأرض، أمسك أحدهم بشعره وذبحه كشاة، وغادروا. يومها قتلوا نصف رجال الحي، واغتُصبت نساء كثيرات. رأت صَبَا أباها مضرجاً بدمه، رمت نفسها فوقه، وبصعوبة انتزعتها عنه. منذ ذلك اليوم تبدّلت حالتها سوءاً.. امتنعت عن الطعام، ومرضت. أدخلتها المستشفى أياماً، وحمدت الله أن بدأت تعود إلى الحياة؛ لكنّها لم تعد صَبَا الأولى… زادت حركتها، وأهملت ألعابها، ولم تعد تهتمّ بنظافة ثيابها، ولمّا انتهى الصيف وبدأ دوام المدرسة شكت من معاملة المعلمة، ومن رفيقاتها حتى حصلت تلك الحادثة فأقسمت لن تعود إلى المدرسة. أظنّها وثقت بك، أرجو أن تكوني لها أمّاً ثانية، إنّها وديعة بين يديكِ.

– لا أنكر أنّني أحببتها، ساعديها على أداء واجباتها، وشجعيها، وكافئيها كلّما أنجزت عملاً، أرى فيها أملاً كبيراً، ولنتعاون معاً في تربيتها، وتغيير حالتها.

دخلت المعلمة الفصل وهي تمسك بيد الصغيرة، قالت: هذه زميلة جديدة اسمها صَبَا، تحبّ الجميع، وترغب بصداقة الجميع، رحّبوا بها. صفّقوا.. وعلا الصوت أهلاً وسهلاً بكِ.

ارتاحت صَبَا للمعلمة الجديدة، واجتهدت على تنفيذ الاتفاق معها فحصلت على التشجيع والمتابعة، ولم تعد تعبث بأغراض الآخرين، وكلّما شعرت بضيق تطلب الأذن بالخروج، تركض إلى الحمامات، وتعود بسرعة. حفظت أسماء الجميع، وتوطّدت علاقاتها معهم، وبدأ التحوّل واضحاً على تصرفاتها. ازداد اهتمامها بالواجبات، وبمظهرها، سرّحت شعرها وربطته بشريطة بيضاء، وحافظت على الهدوء وعدم الازعاج. اعتنت بنظافة مريولها، وساعدت أمّها في أعمال البيت. تابعتها الأمّ بالتعاون مع المعلمة على التحصيل الأفضل، وبعد شهرين بدأت قدراتها الحقيقية بالظهور. اختاروها عريفة للفصل، وبتوجيهات المعلمة أحسنت إدارته، وتنامى نشاطها العلمي والرياضي والفني. ساعدت المقصرين في الفصل، ونافست على المراتب العليا، ولمع اسمها… لقد تغيّرت.. عادت إلى مسيرتها الأولى، وظلّت معلمتها تتابع خطواتها وتفوقها في السنوات التالية حتى أنهت مرحلة التعليم الأساسي بنجاح باهر، واجتازت المرحلة الثانوية بتفوق كبير، فحازت الترتيب الأول في المحافظة…

وفي يوم حفل تكريم المتفوقين الذي أقامته مديرية التربية، وقبل أن تدخل الصالة رأت معلمتها الأولى؛ فتذكّرت قولهم: كرة نطاطة، لا تستقر في مكان، تدحرجها نسمة في كل الاتجاهات.. تلك الطفلة الصغيرة بشعرها المشعث، خصلاته شلال شمس يتطاير فوق الوجه والكتفين، وعيناها سماء صيف، يداها لا تنيان عن التقاط أغراض زميلاتها وزملائها، ومريولها لا تلتئم أزراره بالتقابل، وغالباً ما تنساه في الفصل، وإذا غفلت عين المعلمة دقائق ستبحث عنها بين الطاولات، وإذا ما سألتها تختصر الإجابة بكلمات كأنها عناوين. يقول رفاقها: إنها عاصفة تثير الفوضى، لكنها لا تؤذي أحداً… كم ضاقت المعلمة بها، وهددتها بالحبس في الفصل أثناء الفرص، وستخصم من درجاتها لكل حركة غير مناسبة، وستعيدها إلى البيت إذا رأت مريولها متسخاً بالألوان، وستشكوها إلى المديرة، وإلى أمّها؛ فتجيب: سماح يا آنسة.. آخر مرة. ويتكرر التهديد، وتتكرر الإجابة نفسها، وحين رأتها تخرج من الفصل دون استئذان صرخت بها.. توقّفت ثوانٍ كأنّها صنم، وانفجرت بالبكاء. سحبتها من يدها إلى الداخل، ولم تسألها.. اجلسي في مكانك ولا تتحركي. نظرت إلى المعلمة.. أتسمحين لي بالذهاب إلى الحمام؟

– لماذا؟

– أكاد أتبوّل في ثيابي

– كاذبة…

انكبّت على طاولتها، عصرت رأسها بيديها.. اهتزّ جسمها.. لم تتمالك نفسها.. بكت.. تسرّب خط من الماء تحت المقعد.. انتشرت رائحة.. تعالت الضحكات.. التفتت المعلمة.. هجمت عليها.. أمسكتها من شعرها.. ماذا أفعل بك؟! وجرّتها خارج الفصل.. لا أريد رؤيتك هنا.. اذهبي إلى أمّك، واقتادتها إلى المديرة. ابتسمت.. تلك الأيام صارت ذكرى…

تقدّمت منها.. حيّتها.. هل عرفتني يا آنسة؟

– لا،…، مَن أنتِ ؟

– تلميذتك الشقيّة صَبَا، هل تتذكرين؟

– أكاد لا أصدق…، أنت صَبَا…؟

– صدّقي يا آنستي

– وأنتِ الآن متفوقة؟

– المرتبة الأولى…

– آهٍ.. كم نخطئ دون أن ندري

– لا عليكِ، ربّ ضارة نافعة

– هل تسامحين…؟

– نعم، أيمكنني أن أقبّل رأسكِ؟

وتعانقتا، همست في أذن صَبَا: نسيتِ…؟

– أجل، نسيت ما يسمى الكراهية. تعلّمت أن أحبّ الجميع، وتأبّطتها…

اختيرت صَبَا لإلقاء كلمة الطلبة، اعتلت المنبر، حيّت الحضور، والمعلمين، والأصدقاء. انحنت احتراماً لمعلمتها ولأمّها اللتين أنارتا لها الطريق، ورافقتاها في مراحل تعليمها، ولكل من ساعدها على التحصيل العلمي، وختمت.. الشكر كلّ الشكر لمَن علّمتني:

أنّ التسامح فضيلة،

وأنّ السعادة عطاء،

وأنّ المحبة حياة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني