fbpx

الوجود والمعنى

0 66

أنا وأنت ونحن وأنتم وأنتن وهو وهي وهم نصنع الوجود حين نمنح الوجود صفة الإنساني، بارتباط بوجودنا.

ها أنقل الوجود من حال الهيولى إلى حال الصورة. لولاي لما كان هناك وجود إنساني، الأشياء والأكوان وجود لكن بدوني ليست وجوداً إنسانياً. حين جعلت الكون موضوعاً لتأملي، وخلقت الأفكار حوله، وأبدعت الأشعار والقصص، وأنتجت النظريات لأفسره وأفهمه، صار الكون إنسانياً. لا أحد بقادرِ على أن يمنح الوجود صفة الإنساني إن لم يجعل منه حقلاً من حقول وعيه وفعله المادي. القرية التي أمضيت طفولتي فيها مخزونة في ذاكرتي، مكونة عالمي العاطفي، أحن إليها. القرية هذه حقل من حقول وجودي، لا تعني شيئاً بالنسبة إلى ابني، أو إلى أمريكي أو إلى أي أحد لم يعش تجربتي أو تجربة مع القرية. عبثاً يحاول الإنسان أن ينقل وجوده الخاص المعيش إلى الآخر. إذاً هناك الوجود الخاص، والوجود الشخصي. هل أنا حر في أن أحدد وجودي وأرسم سوراً حوله على نحو حر؟ هل أنا قادر على أن أقرر ما ينتمي إلى وجودي وما لا ينتمي؟. يجمع العاقلون أن الإنسان ألقي في هذا الكون دون استشارة. إنه وجود مادي ممكن روحياً وأخلاقياً ومهنياً، هذا في الأصل، أقصد أصل كل واحد منا، لا أصل الإنسان الأول الذي هو ابن تفاعلات الطبيعة. إن وجودي ينمو ويتطور، يغتني عبر التجربة وعبر شروط لا حصر لها، الشروط المادية والمعنوية والثانوية والمصادفية. وفي معنى أولي أنا كائن لست حراً في أن أحدد وجودي على نحو ما أنا عليه. أو قل: لست قادراً بالأصل على اختيار كل حقول وجودي. الوطن، القرية، اللغة، العادات، الاسم، الكنية، المدرسة، المعارف، الأخوة، الأم، الأب، والأولاد….الخ. أجل أنا لم أختر هذا كله. لقد تعينت على هذا النحو أنفاً عني. هذا وجودي الذي تحدد وفق علاقاتي الموضوعية بالعالم. غير أني وجود ممكن كما يقول فلاسفة الوجودية. ولهذا فإن الممكن هو حقل تحقق وجودي الإنساني الحر، وهكذا تمتزج حقول وجودي. ينتمي وجود العامة في جله إلى النمط الأول من الوجود، في الغالب، فيما ينتمي وجود الأنا الحر المتمرد الفاعل إلى النمط الثاني. فالأنا حين يصير مركزاً لذاته، يحدد وجوده حراً. دون أن يتحرر الإنسان من السمات المطبوعة، فإنه لا يتعين بوصفه أعلى شكل من أشكال الوجود الإنساني. فكل علاقة حرة أقيمها مع العالم، بوصفها موقفاً حراً، تحدد وجودي على نحو خاص. علاقتي بالخلق أجمعين، بالطبيعة بالإنسان، بالمعتقدات. كل علاقة، موقف تجعل من وجودي الإنساني أكثر ثراء واتساعاً وعمقاً. وكل المواقف: الكره والحب والقرف، والخوف والرغبة والإعجاب والحزن والفرح والاستحسان والآمال والأحلام، والتي هي مواقف متغيرة، تعبر عن وجودي الذي لا يثبت على حال. لا شك أني لا أفرح بقرار ذاتي كما لا أحزن حاملاً نفسي على الحزن، لكن ما يفرحني، أنا، مختلف عما يفرحك وما يحزنني يختلف عما يحزنك، وإن كنا نتفق على بعض ما هو مشترك في الفرح والحزن. من كل ما سبق ينتج أن صناعة وجودي عملية معقدة ومتشابكة الشروط والأسباب ودائمة العملية. وعبثاً نحاول أو يحاولون اختصار الوجود الإنساني في لحظة أو صفة أو قول أو رأي أو حالة. فالعالم جزء لا يتجزأ من وجودي الخاص، العالم كله الذي أراه وأفكر فيه وأعتقد على أساسه وأحسه وأمتلكه وأعيشه وأتخذ منه موقفاً. حتى ليمكن القول إن العالم الموجود هو العالم الذي يشكل جزءاً من وجودي. السلطة المستبدة، سواء تلك التي اتكأت على أيديولوجيا دنيوية كالستالينية أو أيديولوجيا دينية كالخمينية، أو الابن لادنية أو الحوثية وما شابه ذلك، أو تلك الناتجة على عصبية متخلفة من الانتماء الطائفي الغبي المقيت، كلها تريد أن تجعل مني هيولى، وتعمل على طبع الصور التي تريدها علي. الهيولات التي طبع الاستبداد السابق الذكر صوره عليها هي الأدوات القاتلة في هذا العصر وكل عصر.

حين أفقد معنى وجودي في الحياة ينتصب الموت عالماً يغريني قبل أوانه،لكن الموت الذي يغريني امنحه قيماً جمالية وأخلاقية ووطنية كي يصبح لموتي معنى.

هذا إذا كنت حراً في اختيار الموت ذي المعنى.

ها هو قد رأى الشر متنمراً على وطن وأمة، شر بكل انواعه التي تسلبه معنى وجوده ووجودنا، فقرر أن يواجه الشر بالموت الخاص، سيقتل ويُقتل. لم يحمله أحد على الموت، لم يكن جندياً مأموراً لخوض القتال. بل كان خياره حراً، أغراه الموت من أجل حياة كما يجب أن تكون، وضد الحياة التي يسلبها منه قوي أشر. وهو يعلم بان الذي يحبون الحياة كما أحبها أن تكون، ولكن الموت لا يغريهم، سيحتفلون بموته.

إما ذاك الذي وصل إلى اللامعنى المطلق لهذا العبث الذي أوجده، فقد قرر أن يتحد باللامعنى فانتحر.

ويلقي الفيلسوف خطبته أمام العدم الذي لا يدهشه، وعاش الإلفة معه فقد صعد قمة الحياة وراح يلقي كلمته إلى الفضاء قائلاً:

قلمي أيها الفينيق النزق يا صاحب الدروب الكثيرة والكاره للصوى لا تخن أصابعي، حبري أيها الدمع الدم الحب الحقيقة النبع لا تجف، لغتي يا بساط الريح وخاتم سليمان وفانوسي السحري شكراً لك أن وهبتي معنى وجودي وحبي للحياة التي أبدعتها.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني