fbpx

أوباما والأسد وكيماوي الغوطة

0 5٬268

خلال عقد من الزمن أسقطت الولايات المتحدة عسكرياً حكم طالبان في أفغانستان وحكم صدام حسين في العراق وحكم القذافي في ليبيا، تحت دعاوى مختلفة وذلك عندما توافق ذلك مع مصالحها الإستراتيجية، وساهمت بشكل غير مباشر بسقوط على زين العابدين في تونس وحسني مبارك في مصر، حيث تملك الولايات المتحدة علاقات جيدة مع قادة الجيشين العربيين، ويرى البعض أنه لم يكن سقوط الديكتاتور في مصر وتونس مُتاحاً لو أرادت الولايات المتحدة منع إزاحتهما عن السلطة.

وكان واضحاً أنّ إدارة الرئيس أوباما تدعم ثورات الربيع العربي التغييرية وأنّ البديل الجاهز والمُنظّم لاستلام السلطة هو جماعة الإخوان المسلمين، وظهر ذلك عملياً بصعود الجماعة إلى السلطة في تونس وليبيا ومصر، وكانت سوريا غير بعيدة عن الدخول بتلك التجربة بعد أن كشفت الثورة كل أوهام القوة الزائفة التي بناها نظام الأسد، ورغم غَضّ النظر عن التدخل الإيراني لمصلحة الأسد والتضييق على الدول الداعمة للثورة السورية بتسليح حقيقي للثوار على الأرض، وكان بادياً أنّ قوات الأسد وحلفائه في طريقها إلى الانهيار التدريجي، وإنّ كل طاقاتها محصورة في تأخير موعد سقوط دمشق إلى أن يحدث أمر ما غير متوقع أو لم ينضج بعد.

 كان المتوقع أو المرجو أن تساعد الولايات المتحدة (أو لا تمانع) في إسقاط الأسد المتداعي بعد أن هيّأت الأرضية السياسية لذلك بمباركة خطوات الجامعة العربية بنزع الشرعية العربية عن نظام الأسد وطرده من المنتدى العربي الرسمي، وأثمر الحشد الأمريكي عن أكثر من مائة دولة تم سوقها إلى نادي أصدقاء الشعب السوري ودعم الثورة السورية سياسيا وأخلاقيا باعتبارها مُمثّلة للشعب المنتفض في وجه سلطة ديكتاتورية مقيتة.

ورأى بعضهم أنّ فرصة سانحة أتت على طبق من ذهب للإدارة الأمريكية لتصفية حسابها مع الدولة المارقة (سوريا الأسد) والتي فتحت حدودها لدخول الجهاديين الراغبين في مقارعة الاحتلال الأمريكي للعراق، وأيضاً لمعاقبة قاسم سليماني وحرسه الثوري والذي ساهم بدعم جيش المهدي والقاعدة لبدء حرب طائفية في العراق أفشلت ما ارادت الولايات المتحدة صُنعه، وبعد القضاء على تجربة الصحوات العراقية المدعومة أمريكياً، كان لزاما على الأمريكان الانسحاب تالياً وتسليم العراق لقمة سائغة للحرس الثوري والتخادم معه لإدارة البلد معاً، واعتقد البعض أنّ الولايات المتحدة لا ترغب في اكتمال الهلال الشيعي ووصوله إلى ضفاف المتوسط والإحاطة بإسرائيل من الشمال بالكامل.

كانت تصريحات الرئيس أوباما بأنّ الأسد يفقد شرعيته على وقع ارتكاب مجازر تشيب لهولها الولدان، وبدأ الأسد وداعموه يُدركون مع مرور الوقت أنّ الولايات المتحدة لم تضع قيوداً على كمية ونوعية العنف الذي يستعمله نظام الأسد لقمع الثائرين عليه.

فكان مسموحاً له التدرّج باستخدام العنف بدءاً من البندقية الروسية التي تصوب طلقاتها على رؤوس المتظاهرين وصولاً لإلقاء البراميل المتفجرة على المدنيين، وكان الخط الأحمر الوحيد أو التحذير الوحيد هو عدم استعمال الأسلحة الكيميائية ضد التجمعات المدنية الخارجة عن سيطرة النظام، في إشارة واضحة أنّ ما دون ذلك سيتم بإبراء الذمة الأمريكية ببيانات الإدانة وذرف دموع التماسيح على ورق تلك البيانات.

ليست الولايات المتحدة دولة عادية فهي القوة الاعظم في العالم وقائدة النظام الدولي الحاكم للبشرية كلها، وللقوة العظمى مسؤولياتها وواجباتها فهي بحق كانت شرطي العالم والجميع يحسب خطواته وفق الميزان الأمريكي.

وقد تكون أسباب القيادة الخلفية للولايات المتحدة للحرب في سوريا والتحكّم بها تعود إلى:

1- جعل الساحة السورية ملعباً لاستنزاف كل الخصوم المناوئين لها وأهمهم وقتها التيارات الجهادية السنية والتي لم تَجفّ الدماء الأمريكية التي أسالتها في تفجير السفارات الأمريكية في أفريقيا وهجمات 11 أيلول 2001 واستنزافها للجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان.

إنّ تهيئة ملعب للجهاديين الشيعة والسنة في سوربا وتهيئة أسباب المبارزة وأدواتها هي الهَمّ الأول لواشنطن لتكون سوريا هي الرحى لطحن كل خصومها.

2- كان الدبّ الروسي يَعيث فساداً في جواره وأقدم على احتلال أجزاء من جورجيا، ويتحدى الناتو عملياً لشعور زائف بفائض من القوة، وكانت التقديرات الأمريكية إنه يُعدّ العُدّة للتوغّل غرباً في أوكرانيا وهو ما حدث بالفعل باحتلال القرم فيما بعد في عام 2014، ولا مانع عند الأمريكان لتهيئة الأرضية الملائمة لمغامرات روسية في سوريا والابتعاد حالياً عن أوربا وهذا ما حصل تالياً حيث تدخل الروس في سوريا بشكل مباشر في ايلول 2015.

3- كانت العقوبات الأمريكية في ذروتها على نظام ولاية الفقيه لإجباره على توقيع اتفاق نووي، وكانت سوريا هي الجزرة للملالي لالتهامها كرشوة تَسبُق الاتفاق العتيد (وهو كان محور السياسة الخارجية لإدارة أوباما في المنطقة) ولاشكّ أنّ التهديد الأمريكي بزوال الاسد كانت العصا وقد شكل ذلك حافزاً للإيرانيين لتسريع التفاهم مع الأمريكان.

4- بالتأكيد كانت إسرائيل سعيدة بتحطيم الدول العربية السنية المعادية لها وتَغوّل الوحش الإيراني المُنضبط والذي يُمكن التوصل معه لتفاهمات على الخطوط الرئيسية وتقاسم الفريسة.

5- كانت الدول العربية الخليجية تطمح بحرب على النفوذ الإيراني في سوريا وعدم وقوعها في الحظيرة الفارسية الشيعية، وكانت الولايات المتحدة قادرة على استثمار تلك المخاوف وسمحت بالدعم العسكري لفصائل الثورة، وخشية من انفلاته وعدم السيطرة عليه لاحقاً قامت بذلك مباشرة عبر إشراك الدول العربية بغرفتي الموم والموك.

كما أنه بلا شك لا ترغب كل دول المنطقة بنجاح تجربة ديمقراطية في سوريا ستصيب كل الأنظمة في المنطقة بالصداع.

6- إنهاك جميع المتدخلين في الحرب السورية، والادعاء أنّ واشنطن لا سياسة واضحة لها في سوريا بل لا تحظى بأية أهميّة إستراتيجية لواشنطن، وبعد الإنهاك والوهن الذي يعتري الجميع يظهر المارد الامريكي ليفرض الحل الذي يناسبه وتقبل به بقية الأطراف، وهو ما يحصل الآن بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وحرب غزة.

لاشكّ أنّ الأسد لم يُوفّر أية فرصة لإعطاء الإدارة الأمريكية ذريعة لإسقاطه (لو أرادت) ولكنها كانت تعلم أنّ بقاء الأسد يُفيدها أكثر من سقوطه، وأنّ إسقاطه فيما بعد سيتمّ بدون تكاليف إستراتيجية ولن يتطوّع أحد للدفاع عنه وهو ما يجري عمله الآن.

كان الأسد والحرس الثوري مضطران لاستعمال السلاح الكيماوي في غوطة دمشق، والتي يبعد مسلحوها حوالي 3 كم عن القصر الجمهوري، ولأنّ معنويات حاضنة الثورة مرتفعة في ذروة الانتصارات ونشوة الاقتراب من إسقاط الأسد، ولأنّ معنويات الموالاة للنظام في الحضيض وبحاجة لإعادة ترميمها لإبقائها متماسكة حوله كان لابد من بجعة سوداء غير متوقعة وتقترب من حافة الهاوية وتُعيد زرع الثقة في الجمهور الموالي عندما يُقدِم الأسد على استعمال السلاح الكيماوي وإثبات عجز الولايات المتحدة عن اي خطوة عملية لمعاقبته (أو رضاها الضمني على ذلك) والاكتفاء بتلبية المطالب الإسرائيلية بنزع السلاح الكيماوي من ترسانات الأسد، وقبول الوساطة الروسية في ذلك والوصول للقرار الدولي 2118 والذي قد يكون يوماً ما الحبل الذي يَلتفّ حول عُنق الاسد ليخنقه.

ارتكب الأسد مالم يرتكبه غيره من الطغاة واستعمل السلاح الكيماوي عشرات المرات فيما بعد على مبدأ من أمن العقاب أساء الأدب، بل وصلت به الوحشية لإعادة استخدامه مرة ثانية في دوما عام 2018 لإجبار المقاتلين والسكان على الموافقة على الرحيل القسري إلى الشمال السوري.

ويُعدّ استعمال الأسد للسلاح الكيماوي هو السبب الرئيس لعدم تعويمه لاحقاً مهما حفل المشهد ببعض المسرحيات التي توحي بعكس ذلك وذلك حرصا على عدم تجاوز مبدأ الإفلات من العقاب للمجرمين الدوليين.. وسَيثبت لنا التاريخ أنّ الأسد يسقط بجرائمه.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني