نحن والاغتراب
1- محاولة في تعريف الاغتراب
عندما جعلتُ عنوان مقالتي نحن والاغتراب إنما أردتُ أن أُفَكِّر في الاغتراب الذي نعيشه، ضارباً الصّفح عن خطاب الاغتراب المألوف.
لو انطلقنا من أنّ الاغتراب شعور ناتج عن تجربة معيشة، سواء كان الاغتراب اغتراباً عن المكان أو اغتراباً عن العصر أو اغتراباً في الأشياء أو اغتراباً في الوعي، ورأينا شخصاً مغترباً، من زاوية رؤيتنا أحدَ هذه الوجوه لكنّه مع ذلك لا يشعر بالاغتراب فهل يكون هذا الشّخص مغترباً؟ هل من حقّنا أن نقول عن شخص ما إنّه مغترب أو ليس بمغترب من دون أن يعيش تجربة حياتيّة موعى بها؟ متى يكون الاغتراب عاملاً إيجابيّاً في حياة الفرد أو عاملاً سلبيّاً في حياته؟ لقد قفزَتْ هذه الأسئلة إلى ذهني وأنا أتأمّل حالات الاغتراب التي أعيشها، وظَنّي بأنّ الآخرين يعيشونها، وأنا أتأمّل الاغتراب غير المعيش للعديد من الناس. ولست بصدد الحديث عن اغترابي الشّخصيّ، بل عن الظّاهرة كما تبدو لي في عالم العرب. دعوني أعلن أوّلاً أنّ الاغتراب واقعة موضوعيّة قد لا تكون معيشة، وهذا هو وجه الخطورة في بعض جوانب الأمر؛ تماماً كالمريض الّذي لا يعلم أنّه مريض ولا يشعر بالمرض. والحالات البسيطة من الاغتراب عن المكان الّتي يشعر بها أغلب من غادروا مكان عيشهم في عمر ما بعد الطّفولة ليست ذات شأنٍ معرفيّ، فاغتراب كهذا خليط من الحنين للمكان والذكريات الجميلة، وقد تأتي عليه عادة العيش في المكان الجديد ويضعف الحنين وتبهت الذّكريات. ولكن تخيّل معي حال الاغتراب في وعيٍ قديم وصل إلى حدود المعرفة المطلقة وَمَدّ صاحبه بقوّة معنويّة وماديّة تصل إلى حدّ نفي المختلف عنه قتلاً. ها نحن نقول عن شخص غارق في قديمه إنّه مغترب ولكنّه لا يشعر به. ها هو يقع في تناقض مع روح العصر، مع العقل في أرقى أشكال تعيّنه الرّاهن.
ولكنّ للاغتراب عن روح العصر وعن العقل المتعيّن الّذي أشرت إليه شأناً آخر. واغتراب الجماعات، في كلّ أحوالها، نتائجه كارثيّة إذا ما حاولت أن تفرض اغترابها على المجتمع والحياة.
غير أنّ هناك نمطاً من الاغتراب ذو ثمار جماليّة وفكريّة إبداعيّة عظيمة، ألا وهو اغتراب الشّاعر والروائيّ والفنّان والفيلسوف الذين يعانون من التناقض بين الواقع الكائن ووعيهم بعالمٍ جديد، بحيث يشعرون باغترابهم عن العالم، فيتجاوزون اغترابهم عبر إبداعاتهم. ها هنا يتحوّل الشّعور بالاغتراب إلى فيض أدبيّ وفكريّ لا يبلى غالباً، حتى ليمكن القول إنّ كلّ الإنجازات الأدبيّة والفنّيّة والفلسفيّة ليست إلا ثمرة الشعور بهذا الاغتراب والعيش فيه. غير أنّ هناك أمراً في غاية الأهمية هو دور المبدع في خلق الوعي لدى المغتربين باغترابهم. فكيف لِعَبْدٍ أن يثور على عبوديّته إذا لم يكن شاعراً بعبوديّته؟ كيف يمكن لشخص لا يشعر بفقدان الحرّيّة أن يتمرّد على الاستبداد؟ كيف لجماعات نكوصيّة أن تعمل على الدخول إلى روح العصر وتعمل من وحي معقوليّته إذا لم تكن واعية باغترابها ونكوصها. ومن ثمّ، إذا كان المبدع يعيش اغترابه ويحوّله إلى أثر، فإنّ عليه أيضاً أن يقدِّم الخطاب القادر على إنجاب الوعي لدى الجماعات المغتربة بعالمها، أي أن يُسهم في خلق وعيها الجديد بالعالم الجديد.
2- المثقّف والاغتراب
يعيش المثقّف عادة الاغتراب الذي لا يفارقه طوال حياته الإبداعيّة. بل قلْ إنّ الاغتراب هو أسّ التجربة الكتابيّة لمثقّف أوتِيَ أيّ حظّ من موهبة الإبداع. وآية ذلك أنّ المثقّف هو دائماً ابنُ الممكنِ المتجاوِز الواقعَ، ولهذا فهو يعيش تجربة المايجب أن يكون على نحو مستمرّ، يعيش تجربة التناقض بين أحلامه وآماله وواقعه، ويُعَبِّر عن هذا التناقض في الفنّ والأدب والفلسفة، بوصفه متمرّداً. والتمرّد هنا هو التعيّن الحقيقيّ لاغتراب المثقّف. فيتمرّد على اللّغة السّائدة، يتمرّد على السُّلطة السّائدة، يتمرّد على الفكر السّائد وهكذا. لا يمكننا أن نفهم مستقبل الثقافة في مصر لطه حسين، أو معالم الحياة العربيّة الجديدة لمنيف الرزّاز أو الماركسيّة والشّرق لإلياس مرقص أو خطابات مثقّفي الإيديولوجيّات الكبرى القوميّة والاشتراكيّة إلا بوصفها تجاوزاً للواقع، وثمرة من ثمرات التناقض بين الممكن الّذي يحلمون به والواقع الّذي يرفضونه، بمعزل عن الموقف النّقديّ من هذه الخطابات. ولأنّ الشّاعر ديناميت اللّغة فهو المعبِّر العظيم عن اغترابه هذا. وفِي اللّحظة التي يتوقّف فيها المثقّف عن أن يكون روح الممكن، يلفظ أنفاسه الأخيرة ويغترب عن ذاته. لا أحد يعرف الشّروط النّفسيّة والماديّة التي تجعل المثقّف رديئاً ومُغترِباً عن ماهيّته، ولا أحد يعرف الشّروط التي تحمل مثقّفاً على الانتقال من الاغتراب كموقفٍ تمرّديّ إلى الاغتراب الرديء كموقفٍ خنوعيّ وهزليّ؛ لكنّني أعرف أنّنا في المرحلة التراجيديّة هذه للتاريخ العربيّ هناك جمهور من المثقّفين يعيشون الاغتراب الرّديء.
ولسنا بحاجة إلى سارتر وغرامشي للتدليل على ذلك. إنّ الاغتراب الرّديء هذا تعبير عن ماهيّة رديئة للشخص نفسه، وعن هويّة لا ترى وجودها إلّا في حقل القديم، أي إنّها هوّيّة قائمة هناك حيث استترت وراء الإيديولوجيا الزائفة، لأنّ المسألة في نهاية الأمر مسألة انتماء. المثقّف الحقيقيّ يغترب عن العالم لأنّه منتمٍ إلى ممكن الحرّيّة، بل وإلى الحريّة المستحيلة في بعض الأحيان، عنيتُ الممكن المناقض لواقع الاستبداد. وعليه، يغترب المثقّف الحقيقيّ عن الواقع المتعيّن والمعيش الّذي يُناقض حلمه الوجوديّ، في حين ينتمي المثقّف الزائف إلى الواقع الرديء نفسه، فيغترب عن ماهيّة المثقّف. وليس مثقّف البديل النكوصيّ إلّا صورة من صور الاغتراب الرّديء. ولعمري أنّه من حسن حظّ الثّقافة المبدعة الآن وجود مثقّف الاغتراب الحقيقيّ المنتمي إلى روح التاريخ المتجاوِز وصانعيه من دون أيّ مساومة على ماهيّته؛ إنّه مغترب عن العالم، لكنّه متطابق مع ذاته. أجل، إنّ مثقفَ الاغترابِ الرّديء مثقّفُ القبح اللاإنسانيّ الأشدّ قتامة، ولكنّه الأسرع زوالاً.
3- المرأة والاغتراب
إذا قلنا بأنّ المرأة إنسان ذو عضو مؤنَّث فهذا يعني أنّنا قَدّمنا تعريفاً بيولوجيّاً للمرأة يشبه تماماً قولنا إنّ الرّجل إنسان ذو عضو مذكّر؛ لكن هذا يعني أمراً في غاية الأهميّة مفاده أنّ المرأة والرجل يشتركان في صفة ماهويّة هي الإنسان، ومن ثمّ أنّ هناك ماهيّة واحدة للمرأة والرّجل، في حين أنّ هناك اختلافاً في وظيفة كلّ منهما في بعض وظائف الجسد. وكلّ تعريف للإنسان تعريف يشمل المرأة والرجل. فإذا قلنا: الإنسان حيوان ناطق، عاقل، حرّ، إراديّ، ضاحك، عامل، إلخ.، فهذه تعريفات تنسحب على الذكر والأنثى من البشر.
إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فكيف تأتّى أن يكون هناك تمايز في الوعي والواقع بين المرأة والرجل، تمايز يصل إلى حدّ فقدان المرأة أهمّ الصّفات الإنسانيّة لماهيّة الإنسان؟ وفقدان الإنسان أيّ صفة من صفات ماهيّته يعني بأنّه كائن مغترب، أي إنّه ليس هو. واقع الأمر أنّ حقيقة واقعنا العربيّ تقول بأنّ المرأة “خطاب”. ذَلِكُم هو جوهر القضيّة. ولتحديد الأمر أكثر، المرأة خطاب ذكوريّ حول المرأة متناقض مع ماهيّة المرأة؛ أي إنّنا بَنَيْنا تصوّراً عن المرأة بحسب ما رآها الرّجل، وبحسب ما صاغه من إجابة عن سؤال: “ما المرأة؟”. الخطاب حول المرأة هو الّذي وضعها في حال اغتراب مطلق عن ذاتها، ذلك بأنّ الخطاب الّذي تكوّن عبر مئات السّنين انطلق من ماهية مختلقة للمرأة، ماهيّة مُؤسَّسة على فكرتين خطيرتين: المرأة عورة، والمرأة فتنة. وكلّ حياة المرأة يجب أن تتأسّس على هاتين الفكرتين.
العورة في اللّغة العربيّة تعني “العيب في الشّيء”. وعليه، فإنّ قولنا المرأة عورة معناه أنها مُعيِبَة، والمُعيِب هو كُلّ ما يُستحى من إظهاره، والعورة هنا مرتبطة بالفتنة، أي إنّ السّيّئ في المرأة هو أنّها تفتن الرّجل إِنْ رآها. يترتّب على هذا الخطاب أَنْ تَسْتَتِرَ المرأة في بيتها أو ما شابه ذلك بوصفها عورة، خوفاً من أن تغري الذكر. وبعد، تتأتّى خطورة الفكرتين الذكوريّتين هاتين من الاعتقاد بأنهما صادرتان عن قِيَمنا، ممّا يُزيد من سلطة الخطاب الّذي يتحوّل إلى ممارسة يوميّة، وإلى مصدر هائل من مصادر القول حول كلّ ما يتعلق بحياة المرأة من زواجها وملبسها وسلوكها وواجباتها وعقوباتها وحقوقها ومستقبلها كلّه. ورغم أنّ وضع المرأة العربية شهد تحولاتٍ متنوّعة في مستوى حضورها في الحياة العامّة، لكنّ الذّهنيّة المتكوّنة عبر مئات السّنين مازالت تقف وراء الموقف الذكوريّ من المرأة، من جهة، ومازال هذا الخطاب السابق يُشكّل جزءاً من وعي أكثريّة النساء بذواتهنّ، من جهة ثانية.
الحقّ أنّ روح الحداثة يهبّ الآن على البلدان العربيّة الّتي بدأت منذ السّتينيّات، وانعكس على الخطاب حول المرأة، وعلى سلوك المرأة وتحرّرها. ولهذا لا يمكن عزل حال المرأة ودرجة حضورها الفاعل وحرّيّتها، إذ لا بُدّ من أن يكون لها خطاب خاصّ عن مجمل التحوّل المجتمعيّ العامّ؛ ولأنّ الاغتراب قضيّة كلّيّة فإنّه يدخل كجزء لا يتجزّأ من خطاب الحقّ والمساواة. بعبارة أوضح، إنّ انتصار الذّهنيّة المؤسَّسة على فكرة الإنسان الحرّ هو انتصار مباشر للمرأة الإنسان.
4- الأنا والتحرّر من الاغتراب
القولُ الفلسفيُّ في (الأنا) وعيٌ حقيقيٌّ بمشكلة الإنسان في الوطن العربيّ، وقد يراه بعضهم قولاً فلسفيّاً مجرّداً، وهو كذلك، لكنّ هاجسه الأساس هو الإنسان في علاقته بالتاريخ والواقع، فلا تصنع التاريخَ إلّا “أنَوات” واعية بدورها في هذا العالم، لا يصنع التاريخَ إلا إنسانٌ يعي قيمته الفرديّة في هذا العالم. الإنسان في الوطن العربي لم يمُت، لأنّه لم يعش لِكي يموت، ولم ينتهِ، لأنّه لم يبدأ لِكي ينتهي، ولم يغب، لأنّه لم يكن حاضراً لِكي يغيب. والانتصار للأنا دعوة إلى ولادة الإنسان، دفاع عن الإنسان بوصفه “أنا” ضدّ هذا الـ “نحن” الّذي يجعله مغترباً عن ذاته.
عندما تنتصر الأنا، بوصفها وعياً ذاتياً بالتفرّد، يصبح تعدّد “الأنوات” دافعاً لها باتجاه صنع تاريخها الواعي، لماذا؟ لأنّها، إذ تصل إلى مرحلة الكائن الأنا، تكون قد وعَت حرّيّتها في الفعل والممارسة والقول، من دون أيّ مخاوف على وجودها الذاتيّ. و”الأنا” لا وجود لها خارج فعل الحريّة؛ إذ إنّ الكائن خارج حقل الحريّة مجرّد شيء، وكلمة شيء تشير إلى انعدام الفاعليّة. لا يمكن “الأنا” أن تنتقل إلى ذات فاعلة إلّا في حقل الحريّة. كيف لنا أن نتخيّل إرادة تنهض بكامل وعيها من دون أن تكون إرادة حرّة، إرادة أنوات حرّة! لكنّ تحرّر الأنا من الاغتراب شعورٌ يقود إلى الممارسة، شعور لا يتولّد إلّا إذا وصلت الأنا إلى الوعي بوجودها. والأنا لا تنفصل عن الذات. ما الفرق بين الـ “أنا” والذّات؟ الذات هي الـ “أنا”، وقد تحوّلت إلى صناعة العالم.
يجب أن تعيش الـ “أنا” اغتراباً لِكَي تتجاوز العالم. التجاوز عبر مفهوم الاغتراب أمرٌ ضروريّ للمثقّف وللفاعل الاجتماعيّ، لأنك لن تستطيع أن تتجاوز عالماً لا تشعر باغترابك عنه. أمّا إن كنت منسجماً مع عالمك ومتصالحاً معه، فلماذا تُغيّره، ولماذا صناعة العالم الجديد؟