في سبيل التنوير.. قراءة من حياة الإمام البخاري
تعودنا أن نشير في دراساتنا إلى أعلام الحرية الذين قدموا خلال التاريخ أمثلة ملهمة للتنوير، وواجهوا في سبيل ذلك صدود المجتمع وحراس التقاليد، وعادة ما يكون هؤلاء من الفلاسفة أو المعتزلة الذين لم يتخصصوا في العلوم الشرعية.
ولكن هذه المرة سنتقدم إلى قراءة المشهد نفسه عبر زاوية أخرى وهو أحد أئمة المحافظين وأبرز رجال الرواية والالتزام وهو الإمام البخاري أشهر أئمة الإسلام وأكبر رواة التاريخ الإسلامي والرجل الذي يعتبر أكثر الرجال في التاريخ التزاماً بهدي السلف ورواية السلف.
فقد سجل المؤرخون محنة الإمام البخاري في كتب كثيرة أبرزها تاريخ دمشق لابن عساكر وسير أعلام النبلاء للذهبي، وهي تستعرض ما واجهه الرجل من عناء بسبب موقفه الجريء في مسألة خلق القرآن.
وخلق القرآن عنوان لصراع فكري خطير نشأ في القرن الثالث الهجري بين تيارين قويين في المجتمع الإسلامي حيث انقسم المسلمون إلى فرقتين متقابلتين:
الأولى: فرقة المحافظين التي تقول بأن القرآن الكريم قديم غير مخلوق، ولا يجوز عرضه على قيود الزمان والمكان، لأنه صفة قائمة في الخالق، وعصمته وكماله وإطلاقيته فرع من كمال الله، وهو أزلي أبدي حاكم على الدهور والعصور صالح لكل زمان ومكان.
الثانية: فرقة العلمانيين التي كانت ترى أن القرآن الكريم وحي كريم تلقاه النبي محمد، في ظروف تاريخانية محددة، وقد خُلقت كلماته وعباراته وأوامره ونواهيه بناء على أحداث وظروف محددة، فهو محكوم بأسباب النزول، ويمكن أن ينسخ ويقيد ويخصص ويؤول كما هو شأن كل كتاب تربوي كريم.
وقد اختار الحنابلة الرأي الأول بقيادة أحمد بن حنبل، فيما اختار التيار العقلاني بقيادة المعتزلة الرأي الثاني.
وقد كان القول بخلق القرآن مذهب الخلفاء العباسيين العلمانيين المأمون والمعتصم والواثق، فيما اختار الخليفة المتوكل بعد ذلك التحول إلى مذهب الحنابلة في القول بقدم القرآن وخلوده وفرض أحكامه على كل زمان ومكان.
ومن المدهش أن الإمام البخاري وهو أوثق رجال الرواية اختار الانحياز إلى المذهب العقلاني في هذه المسألة، ووجد نفسه نقيضاً للحنابلة الذين كانوا قد حققوا انتصاراً واضحاً على يد المتوكل، وباتوا يلزمون الجماهير بالخطاب الإطلاقي التقليدي الملتزم بخط السلف والرافض لكل تأويل واقعي عقلاني تاريخاني للقرآن.
ولكن حتى البخاري نفسه أوثق أئمة الرواية لم يستطع مواجهة تيار التقليد الجارف الذي نقم على المعتزلة أفكارهم العلمانية وأخذ بفرض تأويل السلف القائم على أساس قدم القرآن وألوهيته وتعاليه عن النقد والقيد والنسخ والتخصيص.
وحين أعلن البخاري رأيه في بغداد وهي دار إقامته وعلمه وتلامذته، واتضحت رؤيته الواقعية للقرآن الكريم الرافضة للغلو والعجائبية فيه، بدأ النكير عليه، وبدأ الهمز واللمز والغمز، ووجد البخاري نفسه مهدداً في بغداد، وبدأ خصومه يتزايدون في نقده على الرغم من إمامته الواضحة في علم الرواية، وما زالت الاتهامات والإهانات تتزايد عليه حتى قرر مفارقة بغداد.
في الري
وذهب البخاري إلى الري حيث تلقاه اثنان من تلامذته رويا عنه حديثاً كثيراً وهما أبو حاتم الرازي وأبو زرعة الرازي، واجتمع عليه الناس ولكن سرعان ما تغير الناس عليه لما سمعوا عقيدته في خلق القرآن، وأسقط صاحباه أبو زرعة وأبو حاتم الرازي عدالته، وتركا عنه كل رواية!.
في نيسابور
وشعر البخاري بالحزن والضيق والأسى في الري فقرر الرحيل إلى نيسابور حيث كان بها أحد شيوخه محمد بن يحيى الذهلي، وكان يحبه ويعجب به، وفرح الذهلي بالبخاري، وافتخر به كتلميذ ذكي من تلامذته، وبدعوة من الشيخ الذهلي خرج في استقباله في نيسابور أربعة آلاف طالب علم يستقبلون البخاري، الذي قدم علماً غزيراً في الرواية في نيسابور.
ولكن الذهلي تغير بسرعة حين علم أفكار البخاري في مسألة خلق القرآن، وبدأ يضيق به ذرعاً، ثم أعلن ان من قال بخلق القرآن فهو فاسق وضال، ولا يؤخذ عنه علم ولا رواية، وفي مرحلة تالية ازداد الغاضبون على البخاري وراحوا يحرضون الذهلي على البراءة منه صراحة حتى أصدر الذهلي بياناً صريحاً بحق تلميذه البخاري وكان الذهلي أشهر شيوخ نيسابور، وقال فيه: من زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر، وخرج عن الإيمان، وبانت منه امرأته، يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه، وجعل ماله فيئاً بين المسلمين ولم يدفن في مقابرهم!!.. فانصرف الناس كلهم عن البخاري إلا مسلم بن الحجاج ومحمد بن سلمة، وما زال البخاري يتلقى التهديدات والإهانات حتى أجبر على مغادرة نيسابور، وقال محمد بن سلمة، ولقد شيعت البخاري من نيسابور وحدي ولم أجد من يصحبني في وداعه!!.
في مرو
رحل البخاري إلى مرو، وكان فيها أحد زملائه الفقهاء أحمد بن سيار، وفرح به ابن سيار فرحاً كبيراً فقد كان يحبه ويؤثره، ولكن سرعان ما وصلت الرسائل والبيانات من الري ونيسابور، وظهر الغاضبون من الحنابلة يريدون إخراجه من مرو، وتغير عليه محمد بن سيار، وصارحه فقال: يا أبا عبد الله، نحن لا نخالفك فيما تقول، ولكن العامة لا تحمل ذا منك!!.
شعر البخاري أنه يراد منه أن يكتب ما يطلبه الجمهور، وأن يداري جهل العامة فقال البخاري: إني أخشى النار، أسأل عن شيء أعلمه حقاً أن أقول غيره… ووجد أحمد بن سيار نفسه في مواجهة مع الناس فتركه هو الآخر.
في بخارى
ثم ذهب إلى بخارى، وخلال أسابيع وصلت البيانات إلى بخارى، وبدأ الناس يتناولونه بالريبة وما هي إلا أن طلبه السلطان خالد بن أحمد الطاهري، فلما علم مقولته أمره بالخروج من بخارى فوراً، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وركب راحلاً من بخارى.
سمرقند
قرر البخاري الرحيل إلى سمرقند، ولكن الأخبار سبقته إلى سمرقند، وانتشر أمر اعتقاده في الناس وانقسم الناس حزبين اثنين في أمره فأوشكت أن تكون فتنة، وأمروه ألا يدخل إليها… فرحل إلى قرية صغيرة قرب سمرقند يقال لها خرتنك بها بعض قرابته، فنزل عند غالب بن جبريل، وأمضى شهوراً متخفياً لا يكاد يلقى أحداً حتى وصل كتاب من سمرقند بوجوب إخراجه من قرية خرتنك، فسار نحو دابته ليرتحل وهو مريض حتى وقع ووافته المنية عند دابته، ودفن بجنازة متواضعة بخرتنك.
إنها الحكاية نفسها التي يعانيها كل من يأتي الناس بخلاف ما يعتقدون.
بعد مائة عام من رحيل البخاري، أعيد اعتباره كأوثق أئمة الرواية، وتم اعتبار كتابه أصح كتاب بعد كتاب الله، ولكن موقفه من قصة خلق القرآن ظل قلقاً لا يتقبله رواة البخاري أنفسهم، والتمسوا له المعاذير، وقالوا إنه لم يقصد ذلك، ومنهم من كذب الروايات كلها، ومنهم من قال إنه قصد لفظه هو وليس لفظ القرآن، ولكنهم جميعاً اتفقوا أنه لقي أشد العناء والصدود والتكفير بسبب أفكاره التقدمية في الوعي بالقرآن الكريم.
رحم الله الإمام البخاري وأنزله منازل السعداء الحكماء.
المصادر:
- سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، ج12 ص 460.
- وتاريخ دمشق لابن عساكر 58/94.
- وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 7/191.