fbpx

نهر وضفتان

0 88

توقفت السيارة فجأة، جوّ كئيب، رذاذ مطر وضباب، تمتمت الجدة بالمعوذتين، وعلا نحيب حفيدتها الصغيرة، ضمّتها الأم وأراحت رأسها على صدرها، نزل السائق، فتح غطاء المحرك وراح يبحث عن سبب، قلق الجميع، انتابتهم هواجس شتّى، وتساءلوا: ماذا لو طال الوقت وبدأ تفسّخ الجثة؟ إنها تزداد انتفاخاً، وتحذّرهم من انفجار… الزمن ينفد، والطريق تطول، وأمامهم حواجز تفتيش ربّما تؤخرهم، رائحة بدأت تتسرب من الصندوق الخشبي، القلق يتضاعف، تمنّوا لو أن سيارة تمر بهم وتقلهم ؛ لكن لا فائدة…

عطس المحرك فتعالى الدعاء، وانطلقت السيارة تتابع سيرها إلى أن وصلت الحاجز الأول. سألهم عنصر: إلى أين؟ ونظر من النافذة فشاهد صندوقاً، ما هذا؟

– جثمان رجل نريد دفنه في القرية

– وكيف مات؟

– أخفوا السبب، سقط عن السقالة أثناء عمله

– وهل لديكم شهادة وفاة؟

– نعم، هذه هي

– ولماذا لم تدفنوه في المدينة؟

– يا أخي، لا نملك مالاً لشراء مترين أرضاً، ولا حتى مراسم دفن في المدينة

– وفي القرية؟

– الأرض مجاناً، والمراسم غير مكلفة

فتح الباب، امتدت يده إلى الغطاء، أزاحه، تأكد من صدقهم، أغلقه، هناك رائحة تنبعث… هيّا قبل أن تتفسّخ الجثة.

تكرّر الموقف عند الحاجز الثاني، أسئلة وأجوبة… أمروهم بالسرعة، ازداد القلق، الرائحة تنتشر في الجو المغلق، طالبوا السائق بزيادة السرعة، وقبل أن يصلوا الحاجز الثالث اعترضتهم مسيرة جموع غفيرة، أعلام ورايات، وموسيقا وحناجر تصدح بالغناء، اضطروا إلى التوقف، شباب يلعبون بالسيوف والتروس ويهزجون فرحاً في عرس ترشّح ابن قريتهم لانتخابات المجلس التشريعي، يرقصون فوق اسفلت الطريق، ويدقون الأرض بأقدامهم، وأصواتهم تهزّ الغيوم المتقطعة، التأفف يزداد، وتمتمات الجدة بالدعاء ترتفع وتتضّح لعناتها للمرشح ومؤيديه مع ازدياد الرائحة المنبعثة من الصندوق، اضطرت أخيراً أن تُخرِج رأسها من النافذة وتصرخ: احترموا ميتاً يكاد ينفجر…

أفسحوا لها قليلاً وتابعوا السير…

انحدرت الشمس نحو الأفق، أشعتها تلامس ذوائب الأشجار على قمم التلال عندما وصلوا إلى الحاجز الأخير، توقفت السيارة، اقترب شاب متجهم الوجه، إلى أين؟

– إلى قرية أم العيون

– ماذا معكم، ودنا من النافذة، تنسّم رائحة مقززة، وضع يده على أنفه وفمه، ما هذه الرائحة؟

– جثمان رجل…

وأعاد الاستجواب مطولاً وهم يتحرقون إلى المسير، ملّت صغيرته، صرخت: يا عمّ! الجثة تكاد تنفجر. وقال الأخ الأكبر: ارحمنا، الرائحة تخنقنا وأنت لا تهتم لأمرنا، شهادة الوفاة رأيتها، والرائحة شممتها فهلّا يسّرت أمرنا لنستطيع دفنه قبل الغروب؟

– ردّ منزعجاً، هذا ذنبكم وأشار إلى السائق انطلق…

رنّت في أذنه: لا وفّقك…

لاحت بيوت أم العيون من وراء التلة الصغيرة، استبشروا، سنصل قبل الغروب، اتصل أكبر أولاده بقريبهم مسعد ليوافيهم بمفتاح بوابة المقبرة مرات عدة، ولما سمع صوته قال: كدنا نصل، أين أنت؟

– أنا في عرس ابن خالتي، ماذا تريد؟

– مفتاح المقبرة كما وعدتني…

– عشر دقائق وتجدوني أمامها

– أسرع الجثة تتفسّخ بسرعة، تكاد تنفجر…

– اطمئن، وأغلق الهاتف.

أنزلوا الصندوق، الرائحة تزكم الأنوف، وضعوه أمام البوابة في انتظار مسعد، مرّ الوقت كأنه ساعات ومسعد لم يأتِ، اتصل به، أسرع…

– خمس دقائق، وكانت نصف الساعة انتظاراً…

فكروا بالقفز فوق السور، لكن الجثة لا تقفز، الرائحة تزداد، وصل مسعد وهو يفتح البوابة: لماذا متّ ياصاحبي!، دنوا من أقرب حفرة، نظفوها، حملوا الصندوق إليها، أنزلوه فيها، وما إن استقر في قعرها سمعوا انفجاراً، ارتفع الغطاء وحطّ، صاحت الجدة: أسرعوا، أهالوا التراب، وطمروا الحفرة، مهّدوا سطحها، نصبوا شاهدة، ووضعوا طاقة ورد…

رفعوا أكفهم… وقرؤوا الفاتحة…

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني