fbpx

بين “العصا السحرية” ومؤامرة “الجراثيم”: كيف انتهكت حقوق السوريين؟

0 395

مع حلول ربيع 2011 كان قد مر على حكم بشار الأسد نحو إحدى عشرة سنة، شهدت البلاد خلالها اختلافاً شكلياً عمّا شهدته خلال حكم والده حافظ. أما من ناحية المضمون فسرعان ما تكشّفت حقيقة الوعود التي أطلقها الابن في خطاب القسم الأول في 17 يوليو/تموز 2000، إذ تحدث في ذلك الخطاب عن “التطوير والتحديث ومكافحة الفساد والحاجة إلى تفكير إبداعي، والحاجة الماسة إلى نقد بنّاء، والشفافية والديمقراطية”، فمنح بذلك بصيصاً من الأمل بعد أيام الاستبداد والقمع الأمني التي شهدتها مرحلة أبيه حافظ الأسد.

لكنه، وبصورة غير مباشرة، ألمح بشار الأسد عبر نفس الخطاب إلى عدم إمكانية تحقيق ما يصبو إليه السوريون حين قال: “لا توجد لدى أي منا عصا سحرية لحلّ كل المشكلات دفعة واحدة”. وكذلك حين تطرّق لمفهوم الديموقراطية ضمن رؤيته الخاصة، التي لو تنبّه السوريون لمعانيها منذ ذلك الوقت لأيقنوا تماماً بأن صاحب الخطاب لن يسمح لهم بممارسة حرياتهم السياسية والفكرية ولما غامروا بتجربة “ربيع دمشق” وما تمخّض عنه من تشكيل ائتلافات معارِضة كـ “إعلان دمشق” وغيرها، إذ قال: “ما هي الدلائل على وجود الديموقراطية أو عدمها؟ هل هي في الانتخاب أم في حرية النشر أم في حرية الكلام أم في غيرها من الحريات والحقوق؟ أقول ولا واحدة من كل ذلك، فهذه الحقوق وغيرها ليست الديموقراطية. لا يجوز أن نطبق ديموقراطية الآخرين على أنفسنا، فالديموقراطيات الغربية على سبيل المثال هي محصلة تاريخ طويل”. 

ثم استشهد بتجربة “الجبهة الوطنية التقدمية” كمثال ناجح في تطبيق الديموقراطية تحت سلطة والده سابقاً، ولاحقاً خلال أيام حكمه: “وجبهتنا الوطنية التقدمية نموذج ديمقراطي تمّ تطويره من خلال تجربتنا الخاصة بنا، وقد أدت دوراً أساسياً في حياتنا السياسية ووحدتنا الوطنية”.

وعلى أية حال، فإن تلك الوعود لم يتحقق أيّ منها خلال السنوات، فربيع دمشق، الذي أعقب وصول بشار الأسد للسلطة، والذي نشطت خلاله فئات سياسية وثقافية مختلفة بالاجتماع ضمن المنازل بهدف الحوار ومناقشة الإصلاحات السياسية، سرعان ما كتب له الإخفاق في آب/أغسطس 2001؛ إذ امتلأت السجون السورية من جديد بالسجناء السياسيين، والإعلاميين والحقوقيين الناشطين بقضايا حقوق الإنسان.

وجلّ ما أنجزه بشار بعد خطاب قسمه وقبيل إنهاء ربيع دمشق واعتقال من نشطوا فيه؛ كان إغلاق سجن المزة العسكري، في تشرين الثاني/نوفمبر 2000، بعد تحويل سجنائه إلى سجن صيدنايا، وإصدار عفو عن جزء من السجناء السياسيين القدامى، لطمأنة الشارع السوري مؤقتاً قبل العودة مجدداً إلى إحكام القبضة الأمنية منذ ذلك الوقت. 

والحال، لم يتخذ بشار الخطوات اللازمة لتحسين أوضاع بلاده السياسية والحقوقية بالصورة التي حلم بها الشعب السوري. لكنه وبمقابل تضييق هامش الحريات لدى السوريين ركّز جهوده على الانفتاح الاقتصادي الشكلي، كإطلاق العمل للمصارف الخاصة واستيراد السيارات الحديثة وفتح وكالات ومعارض لها، وكذلك فتح المجال لمنح تراخيص لإصدار صحف ومجلات خاصة.

كما سُمح لبعض القنوات التلفزيونية بالظهور. ومعظم ما سبق كان ملكاً لابن خاله وغريمه الحالي “رامي مخلوف” وخصوصاً شبكتي الخليوي اللتان دخلتا العمل في سوريا بعد تسلّم بشار الرئاسة. 

وفي ظل ذلك الانفتاح كان المواطنون السوريون العاديون يواجهون خطر الاعتقال والسجن لمجرد انتقاد الرئيس أو الحاشية المقرّبة، أو لإنشاء مدونة على الإنترنت، أو الاحتجاج على سياسات الحكومة.

فعلى الرغم من إتاحة بشار الأسد للسوريين الوصول إلى شبكة الإنترنت، إلا أن فروعه الأمنية استمرت باعتقال المدونين وحجبت مواقع عالمية مشهورة كـ “الفايسبوك” وبعض قنوات “يوتيوب” وخدمة المدونات من غوغل.

وبعد إقرار قانون المطبوعات رقم 50 لعام 2001، بقيت المطبوعات مقيدة بمناقشة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية العادية دون التطرّق بشكل مباشر لسياسة الدولة الداخلية أو علاقاتها الخارجية السرية أو المؤسسة العسكرية والأمنية وتشعباتها؛ وإلا فسيتعرض الصحفي للملاحقة القضائية.

كما واصلت أجهزة المخابرات رفضها لطلبات تسجيل وترخيص المنظمات الأهلية والمستقلة، وخصوصاً منظمات حقوق الإنسان، التي على الرغم من افتتاح مقرات لبعضها وممارسة نشاطها غير المعلن، بقيت دون ترخيص من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في الحكومة السورية.

وبقيت الأجهزة الأمنية وأفرع المخابرات تقدم على توقيف المواطنين دون إصدار مذكرات اعتقال، وغالباً ما كانت ترفض الكشف عن مكان وجودهم لفترات طويلة مع استخدامها لأساليب التعذيب بانتظام. وظلّ الرعب يهيمن على المعتقلين وذويهم في ظلّ الأحكام الجائرة لـ “محكمة أمن الدولة” التي ظلّ يترأسها “فايز النوري” منذ إنشائها بعد انقلاب حافظ الأسد على السلطة في 1970.

للأسباب الآنفة وغيرها، صار بإمكان أي متابع لإرهاصات الربيع العربي التنبّؤ بوصولها الحتمي إلى سوريا. ولكن لم يخطر في بال أحد وصول الحل الأمني والعسكري إلى هذه الدرجة من الدموية والدمار ودون تدخّل فاعل للمجتمع الدولي.

وفي الواقع فقد برزت مؤشرات عديدة في بدايات الثورة، تدلّ بوضوح تام على تمسّك النظام بحلّه الأمني. ومثّل خطاب بشار الأسد في البرلمان السوري، 30 آذار/مارس 2011، أوّل تلك المؤشرات وأبرزها على الإطلاق.

إذ جاء الخطاب، وهو الأول بعد اندلاع الثورة، ليشعل غضب السوريين، بدل أن يعلن بشار الأسد – ولو صورياً – عن محاسبة الجناة من جيشه وعناصر أمنه كما كان يأمل غالبية المحتجين. 

فراح يؤكّد، بصيغة تهديدية واضحة، بأن نظامه لا يشبه أنظمة دول الربيع العربي، ويصف التظاهرات بـ “المؤامرة” والمتظاهرين بالمتآمرين المرتبطين بجهات خارجية، فأورد في خطابه ما يلي: “إن سورية ليست بلداً منعزلاً عما يحصل في العالم العربي ونحن بلد جزء من هذه المنطقة نتفاعل نؤثر ونتأثر ولكن بنفس الوقت نحن لسنا نسخة عن الدول الأخرى ولا توجد دولة تشبه الأخرى لكن نحن في سورية لدينا خصائص ربما تكون مختلفة أكثر في الوضع الداخلي وفى الوضع الخارجي”. ثم أردف “لا يخفى عليكم أن سورية اليوم تتعرض لمؤامرة كبيرة خيوطها تمتد من دول بعيدة ودول قريبة ولها بعض الخيوط داخل الوطن”.

تلك الكلمات كانت كافية للاستدلال على ما كان يُهيّأ لثورة السوريين الذين صدّقوا في السابق خطاب قسمه و”العصا السحرية”.

وراحت تتوالى خطاباته التي يتذكّرها السوريون من خلال أسماء أطلقوها عليها، فالسالف على سبيل المثال أطلق عليه خطاب “المؤامرة الكونية” أو “رئيس العالم” وآخر سمّي “الجراثيم” وخطاب ثالث سمّي “الفقاعات” وهلم جرّاً.

 تلك الخطابات كانت تتزامن مع استخدام مختلف أنواع الأسلحة بما فيها سلاح الجو في قصف المدن، وجاءت لتؤكد شلل المجتمع الدولي إزاء المذبحة، وخصوصاً بعد رفع أول فيتو روسي في مجلس الأمن، أكتوبر 2011، ضد قرار وقف انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني